برنامج: تأمـــــلات
العزبن عبد السلام "سلطان العلماء"..
عمل في التنظيف وصار "سلطان العلماء".. الفقيه الذي أفتى بحرمة بيع السلاح للإفرنجة وقاتل التتار وعمره 80
هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم، القاضي شافعي المذهب والعالم الذي بلغ مرتبة الاجتهاد في الفقه والأصول والتفسير. وصفه تقي الدين السبكي الفقيه الشافعي الصوفي قائلا "إنه شيخ الإسلام والمسلمين وأحد الأئمة الأعلام. المطلع على حقائق الشريعة، العارف بمقاصدها. لم يُرَ مثله علمًا وورعًا وقيامًا، وشجاعة في الحق".
ولد في دمشق عام 577هـ، ونشأ في أسرة فقيرة، وكان في صباه يساعد والده في إصلاح الطرق وتنظيفها، وعمل في الجامع الأموي بعد وفاة والده، بوساطة من الشيخ فخر الدين ابن عساكر، وكان ينام على بلاط المسجد. وخلال عمله في تنظيف الجامع تنبه إليه الشيخ ابن عساكر، فتعهده وأمر بأن يُعلّم القراءة والكتابة وينتظم في حفظ القرآن، وأن يُعطى ثيابا مناسبة لدخول حلقات الدراسة. ثم تتلمذ على يد كبار علماء عصره من أهل دمشق وبغداد، وتولى الخطابة في الجامع الذي عمل فيه صبيا، ودرّس في زاوية الغزالي، وعُرف بعلمه كما عُرف بزهده.
اشتهر العز بن عبد السلام -كما عُرف في كتب التاريخ والتراجم- بمناصحة الحكام ومعارضتهم إذا ارتكبوا ما يخالف شرع الله وشريعته؛ وقاده ذلك إلى الحبس مرات عدة، ثم إلى الهجرة والارتحال، وشد الرحال إلى مصر، وعُيّن هناك قاضيا للقضاة، ودرّس وأفتى، وأصبح خطيبا لجامع عمرو بن العاص.
أطلق عليه تلميذه ابن دقيق العيد "سلطان العلماء"، وأشار جمعٌ من الباحثين إلى أن اللقب تأتّى لنظرته التجديدية، ونفوره من التقليد، خاصة أنه عاش في عصر شاع فيه التقليد، وجرى همس بين بعض العلماء بإقفال باب الاجتهاد، وعكفوا على كتب السابقين وآرائهم، ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث والاستنباط، ومواجهة الظروف المتغيرة والمسائل المستجدة، فخرج العز بن عبد السلام عن هذا الطوق بقوله وفعله واجتهاده وتصنيفه.
عاصر العز بن عبد السلام دولتين: الأيوبية والمملوكية في الشام ومصر، وكانت هذه الفترة من أكثر الفترات اضطرابا؛ إذ كانت سلطة بني العباس وخلافتهم في تأرجح مستمر.
وعُرف عنه أنه لم يكن يخشى في الحق لومة لائم؛ إذ يُذكر أنه بعد وفاة السلطان الأيوبي الكامل بن محمد بن العادل، نشب نزاعٌ على المُلك، وتوجّه الصالح إسماعيل إلى الفرنجة طالبا منهم المعونة في مواجهة الصالح أيوب الذي توجه صوب الشام بعد أن استقر له الأمر في مصر؛ فتحالف إسماعيل مع الفرنجة علانية وعقد معهم صلحا وسلم لهم مقابل ذلك صيدا والشقيف وصفد وغيرها من حصون المسلمين وقلاعهم؛ سامحا لهم بدخول دمشق وشراء السلاح لقتال المسلمين في مصر.
أفتى بحرمة بيع السلاح للإفرنجة
وأفتى العز بن عبد السلام بداية بحرمة التعامل مع الفرنجة: "يَحْرم عليكم بيعهم السلاح، لأنكم تدركون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين"، ثم اعتلى منبر المسجد ذاما من يوالي الأعداء ويقصد الصالح إسماعيل، وقبّح خيانته، وصار يدعو "اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رَشَدا، تُعِزّ فيه وليَّك، وتُذِلُّ فيه عدوَّك". فأمر الصالح بسجن العز بن عبد السلام، لكنه عاد وعدل عن الأمر فوضعه تحت الإقامة الجبرية، مما دفع الشيخ إلى التوجّه صوب مصر عن طريق القدس.
غير أن الصالح إسماعيل عاد وأمسك بالفقيه، وحاول استمالته وإجباره على تغيير رأيه، وأن يقبّل يده فيغفر له، لكن الشيخ لم يفعل مجيبا الرسول بينهما "يا مسكين، ما أرضاه أن يُقبل يدي، فضلا أن أقبّل يده. يا قوم، أنتم في وادٍ، وأنا في وادٍ، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به".
وغضب عليه الصالح إسماعيل حينئذ، وكان كلاهما في بيت المقدس، فسجنه في خيمة مجاورة لخيمته أثناء جلسة "مشاورات" بحضور ملك الفرنجة. وأراد أن يتبجح أمام الفرنجة بما فعله لأجلهم فأخبرهم بأمره مع العز: "هذا أكبر قُسُوس المسلمين، لقد حبسته لإنكاره عليَّ تسليمي الحُصُون لكم، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس، وقد جَدّدتُ حبسه واعتقاله لأجلكم". فقال له حينها، ملك الفرنج: "لو كان هذا قِسِّيسَنا لغَسلنا رجليه وشربنا ماءها".
أما أهم مواقف العز بن عبد السلام وهو في 80 من العمر فكان مشاركته في هزيمة التتار بعدما كانوا أسقطوا بغداد ودمشق. وكان قائد المماليك آنذاك سيف الدين قطز قد جمع المشايخ والعلماء، والعز بن عبد السلام بينهم لمشاورتهم في الأمر، فكانت فتوى العز بن عبد السلام بمساواة الملك بالرعية، والجنود بالقادة.
وتوفي العز بن عبد السلام (وهو مغربي الأصل) بعدما بلغ 83 عاما، ودفن في القاهرة؛ تاركا تراثا كبيرا في علوم التفسير والقرآن والحديث والعقيدة والأصول.
يذكر أن حلقة (2022/10/4) من برنامج "تأملات" تناولت أيضا عدة فقرات، أبرزها: "وقفات"، التي ركزت على قصة رواها ابن الجوزي في كتاب "الأذكياء" حول رجل من طلبة العلم كان يتنزه على جسر بغداد. والفرق بين متواجد وموجود في فقرة "أخطاء شائعة"، بالإضافة إلى أصل كلمة "ساذج" في فقرة "أصل الكلمة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق