كيليتشدار أوغلو.. من الحجاب إلى العلويين!
“كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟!”
الأسبوع الماضي، وفي سابقة هي الأولى من نوعها، أتيحت الفرصة أمام الجميع لرؤية واقعية للأسلوب السياسي الذي ينتهجه كلٌّ من الحكومة والمعارضة في تركيا، وذلك جراء النقلتين النوعيتين اللتين اتخذهما كلا الطرفين في وقت واحد تقريبا.
وكانت البداية مع تصريحات رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشدار أوغلو المتعلقة بموضوع الحجاب، تلك التصريحات التي تجاوزها الزمن الحاضر، ولم يعد لها معنى بل لا تخلو من غرابة وصدأ. فخروج كيليتشدار أوغلو الآن وحديثه عن مشكلة الحجاب التي عمل حزب العدالة والتنمية كثيرا طوال السنوات العشر الماضية على حلها، وخاض في سبيل ذلك معركة ضروس مع حزب الشعب الجمهوري الذي كان يقف مترصدا لعدم حل ذلك الأمر، لا شك أن ذلك الخروج جاء خارج السياق تماما، وعزفا منفردا نشازا لا يُسمن ولا يُغني من جوع.
على الرغم من غرابة ذلك المشهد، فإن علينا الاعتراف بأنه -وللمرة الأولى- كان قادرا على إثارة التشويش والاضطراب في عقول الناس. لكن ما أهمية هذا الخروج في هذا الوقت؟ يبدو أن ذلك يأتي في سياق الدفاع والحاجة إلى تقديم ضمانات للشعب ومحاولة لاستعادة شيء من الثقة في مواجهة ما حل بكيليتشدار أوغلو وحزبه من انعدام الثقة الشديد.
استباق الأحداث
لقد سعى رئيس حزب الشعب الجمهوري محاولا استباق الأحداث، فخرج في موقف الدفاع يرد على القلق والمخاوف الكبيرة التي لا يمكن لأحد إنكار سيطرتها على الشعب، من أن يعاود حزب الشعب الجمهوري -إذا وصل إلى السلطة- ممارساته التي كان يقوم بها في الماضي. لكنه بينما كان يلقي خطابه ويدلي بتصريحاته، وفي أثناء محاولته الحد من مخاوف جبهة المحافظين، تسبب في انحراف زائف للبوصلة داخل حزبه، وإن حدث ذلك كرد فعل، لكنه لا شك من لحن القول.
قبل أن تنهال الاتهامات من جناح المحافظين على كيليتشدار أوغلو بعدم الإخلاص والنفاق، سرعان ما خرج أعضاء حزبه بوابل من التبريرات كان لها تأثير النار في الهشيم، حيث تزيد مستوى التوتر والمخاوف لدى قطاع المحافظين. وفي الوقت ذاته، أعادت وسائل التواصل الاجتماعي ذكريات العصر الماضي بما تداولته من تصريحات وكلمات وعبارات انتشرت لمدة طويلة في الماضي عن الحجاب في فترة يمكن وصفها بأنها فترة مأساوية وكابوس عاشته الأمة التركية. كل ذلك إلى جانب عودة التصريحات التي صارت في خبر كان، والتي تؤجج الجدل غير المبرر حول الفرق بين الحجاب والنقاب. ومرة أخرى، صرنا نسمع عبارات الإهانة والسخرية التي كان السياسيون والأكاديميون والصحفيون المنتمون لحزب الشعب الجمهوري يتناقلونها عن أن الحجاب وطريقة إحاطته بالرأس يسبب ضغطا عليها ويقلل من النشاط الذهني، ويا لها من بلاهة فكرية واستهزاء بالعقول.
ومن سقطات اللسان تلك ينكشف المستور من أن أعضاء حزب الشعب الجمهوري لم يجدوا بدّا من “التقية” الصبر والتخفي أمام التوافق المجتمعي الذي عايشه المجتمع قرابة عشر سنوات، بشأن مسألة الحجاب الذي لم يعد يمثل مشكلة بين طوائف المجتمع. هذا فضلا عن العجرفة والثقة الزائدة بالنفس التي تدفعهم إلى الاعتقاد بأن الحرية التي نعيشها مع هذا التوافق هي مجرد حالة مؤقتة سيتم تصحيحها في النهاية.
حتى أن حزب الشعب الجمهوري وأعضاءه، بعد كل تلك الأحداث التي مرت بالأمة التركية، وكل الضربات التي تلقوها من الشعب، ما زالوا يسيرون خلف أفكارهم وعقليتهم القديمة، ولم يعودوا بعد إلى رشدهم. ما زالوا لا يقبلون النظر إلى تلك المسألة على أنها قضية حقوق وحريات أساسية لا يمكن حتى اقتراح مناقشتها أو النظر فيها، وما زالوا لا يدركون أن حظر الحجاب في بلد مسلم لا ينظر إليه الشعب إلا أنه احتلال وكراهية للإسلام.
وعند الوقوف بإنصاف لمراجعة كل تلك التصريحات، فإني لا أخفي ما رأيته من شجاعة كبيرة وجرأة وراء خروج كيليتشدار أوغلو ووقوفه في معارضة أعضاء حزبه. فمن المفهوم -بالطبع- ضرورة وأولوية الترتيب الدستوري الذي سيمنع حزب الشعب الجمهوري من إلحاق الضرر بالبلد في أي حال من الأحوال، والذي يحمي تركيا من الآثار السلبية المحتمل أن يقوم بها حزب الشعب الجمهوري، وربما يهدف كيليتشدار أوغلو إلى تقديم تلك الضرورة وما تقتضيها من ضمانات.
العلويون
هذا من ناحية رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، أما ما هو خاص بالحكومة، فكما هو معلوم أنه بعد تلك التصريحات مباشرة، جاء خطاب الرئيس أردوغان عن العلويين في تركيا، وقد أعلن أن الأعمال المتعلقة بالعلويين -التي أُعلِن عنها أخيرا- كانت بالفعل قد بدأت منذ فترة طويلة ووصلت إلى مرحلة متقدمة. فهناك مطالب عديدة للعلويين في تركيا، وقد بدأت تتزايد أكثر فأكثر منذ تسعينيات القرن الماضي على وجه الخصوص. وإذا تساءلت عن ذلك الماضي، فلتعلم أنه كان ممنوعا على العلويين حتى التعبير عن أنفسهم وهويتهم على أنهم علويون. وهذا ما قدمه حزب الشعب الجمهوري للعلويين، الذين لم يعدّهم أكثر من مصدر لتجميع الأصوات الانتخابية، وتعمّد طوال سنوات الحزب الواحد تهميشهم وإنكار هويتهم والتجاهل التام لمعتقداتهم وتقاليدهم، والعمل بكل طاقة لطيهم تحت مظلة العلمانية.
هذا وقد شرع العلويون في السعي وراء هوياتهم ومعتقداتهم منذ ثمانينيات القرن الماضي، للتعبير عن أنفسهم وبناء مجتمع خاص بهم، نتيجة لعمليات الجذب العلماني الطويلة هذه. وفي الواقع كانت هذه عملية متنامية وموازية لظهور عمليات اكتشاف الهويات الدينية والثقافية التي تطورت بالتوازي مع الهجرة السريعة والتوسع العمراني والمدنية في العالم وتركيا. ولم يعد هناك شيء يمكن تمريره والتغاضي عنه، على حد تعبير رئيس سابق في تصريحات له “لم يكن هناك أحد من هؤلاء قبل ذلك، من أين جاء هؤلاء العلويون، ومن أين جاء هؤلاء الأكراد، ومن أين أتى هذا الحجاب؟”.
ولا شك أن الحركة الاجتماعية وما فيها من ديناميكية متنامية دائما ما تطرح مشاكل جديدة أو مطالب جديدة للسياسي. ومهمة السياسة هي محاولة فهم هذه المطالب الجديدة والسعي لتلبيتها والوفاء لأصحابها، إلا أنه لا يمكن الوفاء باحتياجات الأطراف التي تتعلق بظلم الآخرين والتعدي عليهم والانتقاص من حقوقهم. ولكن ما هي المطالب الكردية التي تمثل تعدّيا على الأتراك وما هي المطالب العلوية التي تمثل تعدّيا على السنة؟ وفي هذا الصدد يمكننا القول إن الإدارة السياسية المتميزة تنظر إلى كل تلك المطالب الاجتماعية وتلبيها.
لكن واحدة من أهم المشاكل هي أن فئات مختلفة من المجتمع لا تقبل التنازل عن رغباتها الخاصة، رغم ما تحتويه من انتهاك لحقوق الآخرين والتعدي على حرياتهم. وفي هذا السياق، يمثل حظر الحجاب مطلبا لا يمكن تحقيقه دون انتهاك حقوق الآخرين وحرياتهم.
لكن الأخطر من ذلك في هذه المرحلة هو أن مَن يطالبون بحظر الحجاب يرونه حقّا لأنفسهم لفرض القيود على حقوق الآخرين.
ويا له من حق غريب، ذلك الحق في تقييد حقوق الآخرين. وبكل تأكيد، لا يوجد شيء من هذا القبيل يمكن أن يقبله العقل والمنطق.
لكن سياسة حزب الشعب الجمهوري في تركيا كانت دائما ترى أن لديها الحق في تحديد دين المواطن وثقافته ومعتقده ووعيه التاريخي وحتى ملابسه، وقد مارس هذا الحزب شتى أنواع الاستبداد والاستبعاد للمعارضين لتلك السياسات التي ينتهجها.
ولقد كان العلويون والأكراد وأولئك اللائي يرتدين الحجاب مظلومين وضحايا لهذا الفهم وسياسات هذه العقلية لمدة ثمانين عاما. أما حكومة حزب العدالة والتنمية، فقد لبّت مطالب العلويين والأكراد والمحجبات، ومنحتهم الحق في التعبير عن هويتهم الخاصة. وعلاوة على ذلك، فإنه بينما يعمل حزب العدالة والتنمية على حل هذه المشكلة، فإن السياسة التي اتبعها حتى الآن كشفت عن اختلافه والفارق بينه وبين عقلية حزب الشعب الجمهوري وسياساته. وهو بدلا من تجاهل أولئك الذين لديهم مطالب اجتماعية، وممارسة الضغوط عليهم في إطار التصنيف والتفئيت، فإنه استمع لهم حتى النهاية، وحاول الاستجابة لمطالبهم.
وفي حين لم يتحدث حزب العدالة والتنمية عن العلويين، ولم يحاول فرض عقليته ومبادئه ومنطلقاته الخاصة به عليهم، بل على العكس، تحدّث معهم واستمع لهم، وحاول التعرف عليهم وفهمهم كما يعرّفون أنفسهم وكما يقدّمون هوياتهم للآخرين، نجد أنه -من ناحية أخرى- لم يكن حزب الشعب الجمهوري ونظام الحزب الواحد مستعدين في أي وقت للاعتراف بالعلويين أو الأكراد أو المحجبات وفقا لعقلياتهم ومنطلقاتهم الخاصة، بل إنه كان يتصرف دائما بناء على ثقافته ومبادئه التي يعتنقها، ونرى اليوم النتيجة التي خلّفتها تلك السياسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق