الاثنين، 17 أكتوبر 2022

نبضات المحبين (5)

نبضات المحبين (5)

لماذا جنازة القرضاوي مختلفة؟!

 عندما تلقيت نبأ وفاته، كنت أجهز نفسي للسفر إلى إسطنبول. وهناك كان لدي اجتماع، وبعد ذلك كنت سأتجه إلى مدينة سِرت بعد اجتماع إسطنبول، لإلقاء محاضرة أكاديمية في افتتاح العام الدراسي للجامعة في صباح اليوم التالي.

إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد وافت المنية العلامة الشيخ يوسف القرضاوي وانتهت رحلته في الدنيا وصعدت روحه الطاهرة إلى جوار ربه عز وجل.
وبعد وصول ذلك الخبر إليَّ تغيرت خطتي وبرنامج أعمالي من جديد، وعندما انطلقت إلى إسطنبول، جاءتني عدة اتصالات تبلغني بالخبر إذ ظنوا أنه لم يصلني بعد، وذكروا الشيخ رحمه الله بكل خير وأثنوا عليه أيما ثناء ودعوا له بالرحمة. وبمجرد وصولي إلى إسطنبول، حجزت على الفور تذكرة على متن رحلة الدوحة بعد ثلاث ساعات، ثم ذهبت مباشرة إلى الاجتماع الذي كان مرتبا من قبل وحضرته لمدة نصف ساعة فقط، ثم عدت على الفور إلى المطار.

حقا لقد مات عالمٌ، هو عالِمٌ بالمعني الحقيقي لجميع المسلمين، عالم كرس حياته للإسلام وقضايا المسلمين، عالم لم يكن همه أن يُحصِّل المعرفة والعلوم ويعلمهما فقط، بل استوعب مقتضيات العلم ووعى مناهج توظيفه في الواقع، وهو بلا شك عالم بالمعنى الحقيقي للكلمة. كما أنه أيضا شخص أشعر أنني شخصيًّا قريب جدًّا منه.

فمنذ أن عرفت نفسي عرفته أيضًا، ومنذ أن عرفته كنت قريبًا منه بأفكاره ومواقفه وإخلاصه حتى لو لم ألتق به. حتى أنني لا أتذكر متى قابلت هذا العالم شخصيًا لأول مرة، ربما قابلته في المؤتمرات والاجتماعات الأولى التي حضرتها.

مجلس الفتوى الأوربي:

في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حضرت اجتماعا في إسطنبول لمجلس الفتوى الأوربي، والذي كان هو مؤسسه ورئيسه، وكان حضوري بورقة قدمتها باللغة العربية لأول مرة عن “الإسلام والعلمانية في تركيا”. وفي هذه المناسبة العلمية، أتيحت لي الفرصة للتحدث معه عن كثب.

وفي عام 2016 عُقد مهرجان “شكرا تركيا” في إسطنبول بمناسبة موقف تركيا مع مسلمي العالم والمساعدات الإنسانية ووقوفها إلى جانب المظلومين في العالم. وعلى الرغم من أن كبر سِنِّ الشيخ ومرضه أيضا، إلا أنه لم يتردد في القدوم من الدوحة والمشاركة في تلك الفعالية. وقد أعرب فيها عن سبب مشاركته بتلاوته قول الله تعالى “هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ” وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، “من لا يشكر الناس لا يشكر الله”.

وفي كلمته في تلك الأمسية ضمن فعاليات المهرجان، أكد الشيخ كثيرا بأسلوبه المتميز أنه من الواجب على جميع المسلمين الوقوف إلى جانب تركيا فيما تمثله في عالم اليوم بالقيم والمواقف والنضال، وخص الرئيس أردوغان بالشكر وكثير من الأدعية. وإن واحدة من أكثر عباراته التي ما زلت أتذكرها حتى الآن قوله: “شكرا لتركيا، لأنه منذ نور الدين زنكي، حفر الأتراك اسمهم في صفحات التاريخ بمواقفهم الإسلامية وخدماتهم التي تميزوا بها في الأوقات الصعبة للأمة الإسلامية”.

لقاء مع أردوغان

كما أنني ما زلت أتذكر بوضوح شديد لحظة لقائي به في الزيارة التي قمنا بها مع الرئيس أردوغان، بعد انتهاء فعاليات المهرجان. فعلى الرغم من أنه كان على كرسي متحرك ولا يستطع الوقوف، فإنه عندما اقترب منه الرئيس، طلب الشيخ من المحيطين به أن يمسكوا بذراعيه ويساعدوه على الوقوف لاستقبال الرئيس والوفد المرافق له. ولما قالوا أنت مريض ولا داعي لذلك أصر الشيخ على طلبه بغضب وارتفع صوته قائلا فيهم: “هذا القائد الشجاع الكريم المتواضع لا يمكن أن أستقبله وأنا جالس”.

وقبل ثلاث سنوات، اتصل بي سكرتير مكتب الشيخ في قطر. وطلب نسخة من أحد كتبي التي عرف الشيخ أنه صدر باللغة العربية، فقلت هذا يشرفني، وأرسلتها على الفور. ولقد كان من دواعي سروري أيضا أنني علمت من بعض المعارف الذين زاروه من تركيا أن الشيخ قد طلب من سكرتيره تلخيص مقالاتي المنشورة باللغة العربية ولقد كانت سعادتي غامرة لكن بصراحة رغم هذه السعادة فإنني شعرت بالمسؤولية التي عليَّ حين علمت أن الشيخ رحمه الله كان يتابع ويقرأ ما أكتبه.

كل علماء العالم

وفي وقت قصير للغاية بعد إعلان خبر الوفاة، اجتمع كل علماء العالم الإسلامي المشهورين من جميع أنحاء العالم للمشاركة في جنازة الشيخ القرضاوي. وبصرف النظر عن واجب الجنازة، فقد تحولت إلى بيئة خصبة للقاء والمحادثة والتشاور بين مسلمي العالم بدلا من جو الحداد. فقد كان سرادق العزاء الذي أقيم لمدة يومين وكذلك اللقاءات خارج السرادق، منتدى علميا وأدبيا حيث نوقشت فيه قضايا العالم الإسلامي بأكمله بالتفصيل من خلال آراء الشيخ القرضاوي وأعماله وجهوده.

لا شك أن العالِم أيضا يموت وهكذا تكون جنازته، وربما يؤثر موته كثيرا في العالَم كله، لكنني رأيت في هذه الجنازة مقدار البركة التي تتجلى في لقاء هذه الكوكبة من العلماء الذين شهدوا تشييع هذا العالِم الجليل إلى مثواه الأخير. ولأكون صادقا أكثر مع نفسي ومعكم، كان ذلك مشهدا لم أره في أي جنازة أخرى في حياتي.

ثلة كبيرة من العلماء كالعلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو من موريتانيا، والشيخ عصام البشير من السودان، والشيخ يوسف القره داغي من العراق، والشيخ علي محمد الصلابي من ليبيا، والشيخ أحمد الريسوني من المغرب، والأستاذ إسماعيل هنية، والأستاذ خالد مشعل من فلسطين، والأستاذ وضاح خنفر، والأستاذ أحمد منصور من مصر، والشيخ محمد الصغير، وإبراهيم منير، ومحمود حسين، والشيخ كريم راجح من الشام، والأستاذ الدكتور علي أرباش، والأستاذ الدكتور محمد غورماز من تركيا، وغير هؤلاء مئات العلماء والمفكرين والسياسيين الذين لا أستطيع ذكر أسمائهم.

وفي اللقاءات والمناقشات التي جرت أثناء جنازة الشيخ القرضاوي، لفت انتباهي شيء عجيب، وهو بينما كان الجميع يتحدثون عن تجاربهم وذكرياتهم الخاصة مع الشيخ رحمه الله، تكشف للجميع مدى الود الذي أبداه القرضاوي للجميع، وهو الأكبر سنا منهم جميعا، فقد كانت لديه روابط ودية مع كل هؤلاء الناس. حقا كان لديه صداقات مثيرة للاهتمام مع أولئك على تفاوت أعمارهم بين الثلاثين والأربعين والخمسين، وهو شيخ كبير سنا وعلما.

والأمر الأكثر إثارة للاهتمام أيضا هو أن كل هؤلاء، الذين توجد بينهم اختلافات علمية وأدبية وفكرية متعددة، قد اجتهدوا جميعا ونجحوا في تحقيق آثار عظيمة فيما يتعلق بالفضيلة والفكر والذوق الأدبي وفقا لمنطلقاتهم وآفاقهم.

موت العالم

أعتقد أنه إذا كان للمرء أن يسأل ما المختلف في القرضاوي، الذي جعله مقبولا بدرجة كبيرة في مثل تلك الدوائر الواسعة، فيجب أن تكون تلك النقطة هي أول شيء يجب الإشارة إليه. ألا وهي روابطه بالآخرين وصداقاته التي حفظ حقوقها ولم يبخل بها على من يستحقها على أساس العلم والفقه والسياسة والكفاح والأدب والشعر وفوق كل ذلك على أساس الفضائل.

قال الأستاذ الدكتور محمد غورماز في كلمته التي ألقاها في سرادق العزاء “يذكرنا هذا الموقف بمقولة موت العالِم كموت العالَم”. وفي الواقع نحن نتذكر هذه المقولة في كل مرة يموت فيها أحد العلماء المخلصين العاملين. فإن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. القضية هي أن كل عالِم لديه عالَم. وبداية هذا العالم ونهايته ليست سهلة كما تبدو. ويمكن للعلماء الحقيقيين الذين يعرفون حق هذا الطريق فقط أن يلاحظوا جيدا ويعرفوا كيف يتم بناء عالم قائم على أساس المعرفة الحقيقية ومن يمكنه الاستمتاع بسلوك طريق العلم والمعرفة، ومن يمكنه الوصول إلى غايته وإلى أي جانب سيصل، وكيف ستكون نهايته، وعلى ماذا يمكن أن يحصل في نهاية ذلك الطريق.

وهم كذلك لا ينشرون كل هذه المعارف مع الجميع. وحتى لو أرادوا نشرها ومشاركتها بين العامة، لا يمكنهم ذلك، لأنه لا يمكن للجميع فهم تلك الحقائق التي شهدوها والحقائق التي وصلوا إليها، وعرفوا أهميتها ومقتضياتها، وهذا باب واسع من مخاطبة الناس على قدر عقولهم. وعلى الرغم من ذلك، يمكن لأولئك الذين يرغبون في خوض تلك التجربة ودخول عالم العلم أن يحظوا بنصيب من العلم على قدر إمكانياتهم الخاصة، وبالطبع سيكون ما يتلقونه في ذلك المضمار وفقًا لما لديهم من بضاعة وتجربة في ذلك الطريق.

على أي حال، فإن أولئك الذين يهتمون بالغوص في هذا المجال دون أن ينضجوا ويميزوا قواعده، سرعان ما ترتفع أصواتهم كالطبل الأجوف. لذلك فمن الضروري معرفة حدود هذا العالم وضوابط الدخول إليه، فليتنا نتمهل ونلقي نظرة عليه قليلا قبل أن نظن أننا أفضل فهما وأكثر وعيا ونحن ما زلنا لم ننضج بعد، فكثيرون هم أولئك الأغمار الأصاغر الذين تَزَبَّبوا قبل أن يَتَحَصْرَمُوا، ورامُوا الطيران بغير ريش وزاحموا العلماء وخاضوا فيهم دون حق علمي أو أدبي. رحم الله العلامة الشيخ يوسف القرضاوي.


بعد العطش عثرت على ماءٍ روي!


د. مصطفى بولند داداش*

بعدما أكملت دراستي في إستانبول؛ عدت إلى بلدي «أورفا» المعروفة في كتب التاريخ الإسلامية بـ«الرُّهَا»، وعُينت واعظًا في حران مسقط رأس ابن تيمية، وهي آخر عاصمة للدولة الأموية في عهد مروان الثاني المشهور بمروان الحمار.

وكنت في الرابعة والعشرين من عمري، وكان علماء «أورفا» معروفين بتمسكهم بمسلك التصوف، ولم يكونوا يحبون ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، حتى كانت طائفة منهم لا يتحملون سماع اسمه، وكانوا معتادين على مطالعة الكتب الصفراء - كما يقال - ولا يحبذون ما يأتي من المعاصرين من العلماء، مهما يكن علمهم غزيرًا، ومهما يكن قولهم صوابًا. 

وحينما ذكرت لهم بعض ما يقول الشيخ القرضاوي - بدون تصريح باسمه - يُعجبون به، ويسألونني من القائل؟ فإذا أجبت بأن قائله هو يوسف القرضاوي - وهو عالم مقيم بقطر - يقولون: إن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر من المعاصرين، ولا بد أنه أخذ من كتب القدماء، ولا يريد أن يذكر ممن أخذ! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؟

وكان واحد منهم أكثر مرونة وصاحب إنصاف، وكان واعظًا قديمًا تتلمذ على يد العلماء الكبار اسمه أحمد سرا أوغلو، وليس أقل علمًا من غيره من علماء بلدنا. زارني يومًا مع طائفة من الوعاظ في بيتي بحران، لم يكن يعرفني، ورأى مكتبتي مليئة بالكتب العربية، وهي ميزة في نظر المشايخ الذين لا ينطقون بالعربية، واعتبرت وجودهم في بيتي فرصة لتعريفهم بشيخي العلامة القرضاوي؛ فأخذت كتابًا من كتبه ولعله كان «الإيمان بالقدر»، وقرأت شيئًا منه، ثم أخذت المجلد الأول من «فتاوى معاصرة» وشنَّفت آذانهم بفتوى منه، وتعجبوا بما سمعوا، لا سيما أن الأستاذ أحمد أعجبه ما سمع، وطلب مني أن أعيره عدة كتب من كتب الشيخ..

أعطيته «الإيمان بالقدر»، وسلسة من كتب الصحوة الإسلامية، وكنت أقول في نفسي: ربما يُرجع الكتب إليَّ بعد عدة أشهر، ولكن الرجل اتصل بي بعد أسبوع وأخبرني بأنه قرأ جميع ما أخذ مني، وطلب مني كتبًا أخرى، وفرحت بما سمعت منه؛ لأنني كنت أعتقد أن علماء بلدنا لا بد أن يتعرفوا على الشيخ القرضاوي، هدية الرحمن إلى الأمة الإسلامية في هذا العصر.

وكان حالي كحال من تألم من العطش مع أحبائه، فعثر على ماءٍ روي، ثم أراد أن يسقي إخوانه وأحباءه، أو مَن وجد كنزًا وأحب أن يُشرك فيه مَن يحبه.

هذا كان شعوري وتعاملي مع أبناء بلدي من العلماء. ثم أعطيت الشيخ أحمد ما يريده من كتب الشيخ، وأذكر أنه قرأ المجلد الأول من الفتاوى في أقل من أسبوع، وصار مغرمًا به، وكان يسبقني إلى المكتبة الوحيدة التي تأتي بكتب الشيخ إلى «أورفا»، وكنت أرجع من المكتبة فارغ اليد؛ لأن الشيخ أحمد حضر إلى المكتبة، وأخذ الكتاب قبلي.

وكان موضوع كلامي معه دائمًا الشيخ القرضاوي، وكتبه، وماذا فعل الشيخ، هل خرج له كتاب جديد؟ هل استمعت إلى خطبته في الجمعة؟ لماذا لم يحضر في برنامج «الشريعة والحياة»؟ عساه بخير؟

وحينما وُلد حفيده سمَّاه بيوسف القرضاوي تيمنًا باسمه، مع دعائه الدائم بأن يجعل الله حفيده مثل سميِّه. وصار الشيخ القرضاوي - بحمد الله سبحانه وتعالى - خصوصًا بين الشباب من طلاب الشريعة معروفًا بكتبه القيمة وشخصيته العالية.

.....

* د. مصطفى بولند داداش خبير في المجلس الأعلى للشؤون الدينية بتركيا

- المصدر: «العلامة يوسف القرضاوي.. ريادة علمية وفكرية وعطاء دعوي وإصلاحي».



نبضات المحبين (1)

نبضات المحبين (4)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق