وعندي من الأمثلة كثير على هذا المعنى، وربما كان من السهل بأن أبدأ بقصة المادة اللاصقة المسماة «برت» التي صنّعتها ألمانيا.. كانت هذه المادة بمثابة إعجاز في تحقيق الغاية المرادة منها، فهي تساعد على لصق أكيد وفعال ـ وفي الوقت نفسه ـ فإنها لا تسبب أي أذي للمادة الملصوقة ولا للمادة الملصوق عليها الرسم، وهي تخلو من كل الآثار الكيميائية والفيزيقية الضارة التي كانت ملازمة للمواد اللاصقة السابقة عليها، وربما يتعجب القارئ من مثل هذا المديح لهذه المادة، والقارئ معذور وبخاصة إذا لم يكن قد شهد عصر الصمغ الذي لا يلصق(!!) وفي الوقت ذاته يفسد المواد الملصوقة وأرضياتها، ونحن في تخصصنا في طب القلب (على سبيل المثال) كنا نحتاج إلى مادة لاصقة لا تطغى على الشريط الحراري الخاص برسم القلب الكهربائي عندما نلصقه على ورق لنحتفظ به أو لنجري عليه الامتحانات أو لنضمنه بحوثنا العلمية أو رسائلنا الجامعية.. وهكذا فإنه عندما ظهر «برت» كان فتحا عظيما، وهكذا بدأت أرشد كل زملائي إليه، لكن الحال مع أستاذي يختلف، فالأولى، مع كرمه الدائم معي، أن أحضر له عينة من هذه المادة السحرية الجديدة وبخاصة أنه كان ولا يزال مغرمًا بلصق رسومات القلب النادرة أو الصعبة وإعدادها للتدريس وللامتحان، وكم فسدت أو تلفت منه رسوم نادرة بسبب المواد اللاصقة القديمة.
كنت واثقًا أن أستاذي سيثني في اليوم التالي الثناء كله على المادة الجديدة وسيشكرني عليها، وبخاصة أنه بطبعه المغرم باستكشاف الجديد لن يصبر عليها وعلى اختبارها، وبخاصة ـ مرة ثالثة ـ أننا في ذلك اليوم كنا قد صادفنا بالفعل رسم قلب كهربائيًا نادرًا وقال أستاذي مخاطبا رسم القلب ومتغزلا فيه : «ستكون أنت يا جميل من أول ما نجرب عليك المادة اللاصقة التي يقول محمد عنها : إنها سحرية».
وجاء اليوم التالي وكنت طوال ذلك اليوم مع أستاذي في عيادته لكنه لم يشر إلى الموضوع من قريب ولا من بعيد.
كان الحياء الذي يتمتع به أستاذي يجعلني أعامله أيضا وأنا متمتع بقدر كبير من الحياء.. وهكذا فإني من واقع الحياء لم أستطع أن أسأله عن انطباعه عن المادة الجديدة.
ثم مرت الأيام ونسيت الموضوع تماما.
وبعد حوالي ثلاثة أسابيع إذا بأستاذي أول ما دخلت العيادة يقول لي: سامحني.
قلت: لماذا؟
قال: سامحني أولا وسأقول لك.
قلت: لماذا؟
قال: وهل هناك احتمال ألا تسامحني؟
ارتبكت وقلت: العفو!!
قال: بل سامحني أولا.
قلت في ابتسام: قد فعلت مضطرا.
قال: هل تذكر المادة اللاصقة السحرية؟
قلت: البرت.
قال: هي تلك.
قلت: نعم.
قال: لماذا لم تذكر لي طريقة تشغيلها؟
قلت: وماذا حدث؟
قال: هل تعدني ألا تسخر مني؟
قلت: ما الأمر اليوم؟ سماح وعدم سخرية.. إني خائف على نفسي.
قال: لا تخف، وما دمت قد وصلت إلى هذه المرحلة من الاضطراب أو تمثيل الاضطراب فلا يليق بي أن أتعب أعصابك أكثر من هذا، والقصة أنني عندما أخذت منك إصبع البرت هيأت نفسي ليلة طويلة من ترتيب رسومات القلب. فلما بدأت استعماله وجدته منتهيا!! فرميته من توي في صندوق القمامة.. وظلمتك.. وقلت : إنك أحضرت لي إصبعا منتهيا كعينة.. وبعد أسبوعين وفي ظل حاجتي الشديدة إلى المادة اللاصقة سألت صديقي الحاج حسن (صاحب مكتبة كبيرة في الزقازيق) عن صمغ جيد فقال لي: إن هناك مادة جديدة كنتَ أنتَ الذي أرشدته إليها وإلى استحضارها من القاهرة، ولأني لم أكن أذكر اسم المادة فقد سألته أن يريني عينة منها، فإذا بها المادة التي أشرت بها علىّ نفسها وأحضرت عينة منها وقال لي الحاج حسن : إنها متوافرة في أحجام مختلفة فقلت: نجرب الأصغر فلما عدت إلى البيت في المساء وجدت الإصبع وكأنه منته، فقذفت به هو الآخر، واستعوضت الله، فلما كان صباح اليوم إذا بالحاج حسن يسألني عن انطباعي عن المادة اللاصقة فأجبته بما حدث فإذا به يقول : إنه نسي أن يذكر لي كيف يعمل هذا الإصبع اللاصق وأنه يعمل كإصبع الروج تديره من أسفل كلما استعملته لتبرز على سطحه المادة اللاصقة، وتكرر هذا التحريك حتى ينتهي الإصبع..
ولهذا السبب فإني أطلب منك السماح، لأني ظلمتك.
قلت وأنا أبتسم: لكني بالفعل أستحق هذا الظلم لأني لم أوضح هذا المعنى.
قال أستاذي في تواضع: ربما حدث هذا لأني أنا لست على مستوى التكنولوجيا.
قلت: لا.. الخطأ خطئي وأنا أستحقُّ ما حدث.. ولكي أكفر عن هذا الخطأ فسأروي لك بقية التعليمات.
قال: وهل في الأمر تعليمات أخرى.
قلت: إن درجة تشبع المادة الملصوقة بهذا اللاصق تتحدد حسب رغبتك من اللصق! فإذا أردت لصقا مؤقتا يسهل فكه بعد حين فما عليك إلا أن تخفف الضغط، أما إذا أردت تثبيتًا أكثر ، فإن عليك أن تزيد الضغط، ولك أن تتذكر في هذا المقام قول أبي العلاء المعري مخاطبًا غرور الإنسان حين يقول:
خفف الوطء فإن أديم هذه الأرض من أعين ساحرة الإحورار.
***
لا ينتهي هذا الفصل من دون أن أروي قصة ذات مغزى.
فتح أستاذي قلبه وحكي لي في ذلك اليوم موقفا وجد نفسه فيه ذات يوم ولكن الحلم هو الذي أنقذه منه، كانت العادة أن يتقدم أستاذ كل فرع من تخصصات الباطنة بسؤال لأستاذ الباطنة العامة المكلف بوضع امتحان البكالوريوس، وكان أستاذي يفعل هذا بسلاسة وبصفة مستمرة، وفي ذلك العام الذي اشتعلت فيه الفتن في الكلية فوجئ برئيس قسم الباطنة العامة يدخل عليه مكتبه في الصباح ويسأله: هل هذا هو المظروف الذي يحوي السؤال الذي يقترحه؟ وأجاب أستاذي بالطبع: نعم، فإذا بأستاذ الباطنة يمزق المظروف أمام أستاذي قطعا قطعا وينصرف.
وبعد أقل من ربع ساعة فوجئ أستاذي بمسؤول كبير في الكلية يتصل به في التليفون ويسأله عما حدث فإذا بأستاذي في منتهي الهدوء يجيب هذا المسؤول بأن شيئا لم يحدث، ولكن المسؤول أخذ يقص عليه ما حدث بالتفصيل فلم يكن من أستاذي إلا أن قال: إن أستاذ الباطنة هو بمثابة ابني الكبير وليس بيننا ما يستدعي الضيق ولا الغضب من مثل هذا التصرف، ولم يكن في وسع المسؤول الكبير إلا أن يصمت على مضض عندما فشلت محاولته التي بذل من أجلها الغالي والنفيس .. وهو الذي كان يريد بأية طريقة أن يظهر سطوته كرئيس على أستاذي مع أن أستاذي كان يسبقه بما لا يقل عن عشر سنوات في الأستاذية وأكثر منها في السن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق