هل سيكون عاما جديدا من الجنون (4) كيف نهزم المستحيل؟
هذا هو المقال الرابع والأخير في هذه السلسلة التي بدأت بمناسبة بدء العام الميلادي الجديد، الذي يوشك شهره الأول على الرحيل، متحفزا ليجر وراءه بقية الشهور، تاركا المجال لحالة الجنون -التي تسيطر على غالبية الدول العربية- أن تستمر أكثر مما ينبغي؛ محطمة آمال وتطلعات شعوبها، ومكرسة حال اليأس التي تعيشها، وصولا إلى الاقتناع باستحالة الخروج من هذه الحال، واستحالة نجاح عملية الإصلاح، وترسيخ الاعتقاد بأن أية جهود تبذل فيها فإن مصيرها المحتوم هو الإخفاق المطبق. فهل نستسلم لذلك، لنكمل العام الحالي مع هذا الجنون المستحيل، أم سنشهد قريبا تحركات جادّة لهزيمته، ووضع حد نهائي له؟
إن تحليل الواقع السياسي المحلي والإقليمي والدولي، في المرحلة التاريخية الراهنة بكافة سياقاتها؛ يؤكد أنه لا يمكن القيام بعمليات إصلاحية شاملة في الدول العربية إلا عن طريق أنظمة الحكم نفسها، فهي التي تملك القرار والأدوات والإمكانيات.
تحدثنا في المقال السابق عن أبرز مجالات الإصلاح التي تحتاجها غالبية الدول العربية، بغض النظر عن نوع نظامها السياسي، وذكرنا أن عملية الإصلاح عملية معقدة وطويلة، ولكنها ليست مستحيلة، وأوضحنا قبل ذلك حالة الانزواء والانطواء والهروب التي تعيشها النخبة العربية التي انزوى أكثر من 90% منها في كنف السلطة، ما أضعف قدرتها على المساهمة في عملية الإصلاح الشاملة التي تحتاجها دول المنطقة. إذن فما السبيل لمواجهة هذا المستحيل وبدء عملية الإصلاح؟
الإصلاح مسؤولية السلطات الحاكمة
هذه الحالة تلقي بالمسؤولية الكاملة على أكتاف السلطات الحاكمة، للقيام بعملية الإصلاح برمتها، وإشراك كافة المؤسسات والهيئات والكفاءات، لتدلي بدلوها فيها، كلٌّ وفق اختصاصه، ضمن برنامج وطني شامل، يصب في النهاية لصالح تحقيق الأهداف العليا وعلى رأسها:
- استقرار نظام الحكم، وتثبيت شرعيته بدون استبداد، أو قمع أو ترهيب.
- تحقيق الانفراج السياسي على كافة المستويات.
- معالجة الأزمات القائمة، المزمنة والمستجدة، التي تعاني منها الدولة.
- إشاعة القانون والنظام انطلاقا من الدستور والحقوق والواجبات. والتنظيم المؤسسي للدولة، بما يساعد السلطة على القيام بواجباتها تجاه الشعب.
- التخلّص من كافة المظاهر والسلوكيات السلطوية الشمولية المدمرة.
- محاربة الفساد والرشوة والمحسوبية، وتعزيز الحرية والعدالة والمساواة.
- تصحيح العلاقة مع الشعب، وتعميق ولائه لنظام الحكم، بدون جبر أو قمع أو تهديد.
- وضع الأسس الصحيحة لبناء الأجيال القادمة المتمسكة بهوية الدولة، وأهدافها الوطنية والقومية، وقيمها الدينية والاجتماعية.
- إطلاق عجلة التنمية والابتكار والتطوير في كافة المجالات، وعلى جميع المستويات، بمساهمة كافة المؤسسات والفئات.
- زيادة الفاعلية والتأثير على المستويين الإقليمي والدولي. والسيادة الكاملة واستقلالية القرار.
ويجب التنبيه هنا على الفرق بين الإصلاح والتغيير، فكما يقول الدكتور سعد الكبيسي في كتابه "فاعلية الإصلاح"، فإن كل إصلاح هو تغيير، وليس كل تغيير بالضرورة إصلاحا، فقد يكون التغيير عملا سلبيا وإفسادا في الأرض، يبدأ بفساد الفكر والمنهج، وفساد الإدارة، فتكون نتيجته مدخلا لاضطراب الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وكثيرا ما شهدنا العديد من الدول العربية بعمليات تغيير وطنية واسعة؛ سياسية واقتصادية واجتماعية وتعليمية وثقافية، ولكنها عمليات تغيير محدودة تصب مباشرة في صالح ترسيخ دعائم نظام الحكم، والتجاوب مع الإملاءات والمقايضات الخارجية، وليس بهدف القيام بإصلاح وطني شامل على نحو ما ذكرنا آنفا. ومما يؤكد ذلك؛ ارتباط عملية التغيير بنظام الحكم، وإلغاؤها مباشرة فور سقوطه وتغييره بنظام آخر.
الجهود الفردية أو المؤسسية المحدودة التي تُبذل من حين إلى آخر، برعاية وتمويل هذا الطرف أو ذاك من الدول والمؤسسات الغربية، لدراسة أوضاع الدول العربية، وتحديد مجالات الإصلاح، واقتراح الأدوات والآليات اللازمة للقيام به (الإصلاح)؛ هي جهود عبثية محكوم عليها بالإخفاق.
إن تحليل الواقع السياسي المحلي والإقليمي والدولي، في المرحلة التاريخية الراهنة بكافة سياقاتها؛ يؤكد أنه لا يمكن القيام بعمليات إصلاحية شاملة في الدول العربية إلا عن طريق أنظمة الحكم نفسها، فهي التي تملك القرار والأدوات والإمكانيات، لتقود هذه العملية، والتي ستحقق:
- التخطيط السليم لها، وتحديد مجالاتها وأهدافها ومراحلها ومواقيتها.
- توجيه كافة المؤسسات والهيئات والكفاءات للمشاركة فيها.
- توفير الضمانات اللازمة لنزاهتها واستقلاليتها.
- الإشراف على سيرها والتأكد من تحقيقها أهدافها والتزامها بمخططاتها.
- القبول بمخرجاتها، والتوجيه بتنزيلها على أرض الواقع.
- ضمان عدم تدخل أي أطراف إقليمية أو دولية فيها.
أما الجهود الفردية أو المؤسسية المحدودة التي تُبذل من حين إلى آخر، برعاية وتمويل هذا الطرف أو ذاك من الدول والمؤسسات الغربية، لدراسة أوضاع الدول العربية، وتحديد مجالات الإصلاح، واقتراح الأدوات والآليات اللازمة للقيام به (الإصلاح)؛ هي جهود عبثية محكوم عليها بالإخفاق، لأن السلطات العربية الحاكمة لا تعترف بها، وغالبا ما تتهم المشاركين فيها بالعمالة والعمل على زعزعة الاستقرار لصالح أجندات خارجية.
تدشين عملية الإصلاح
هل تتحرك أنظمة الحكم لقيادة الدفّة، وبدء عملية الإصلاح الشاملة، على المستويين الوطني والقومي؟
من المؤكد أنها تستطيع ذلك، ولكن الإجابة مرهونة بمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، نذكر منها:
- اعتراف النظام الحاكم بمشاكله الداخلية، ومعرفته بأسبابها الحقيقية والنتائج المترتبة عليها. رفض النظام للتقارير المضللة التي تقدّمها الأجهزة المختصة في المجالات المختلفة لتبرير إخفاقها، وإثبات ولائها، والمحافظة على مصالحها ومكتسباتها.
- اقتناع النظام بأن أساليب القمع والترهيب وسياسات الإغراء والإقصاء والاستعداء، لن تحقق له الشرعية الشعبية، ولن تحقق له الاستقرار، ولن تساعده على حل مشكلاته، ولن تسجل اسمه في الصفحات البيضاء في تاريخ أمته.
- إيمان النظام بأن الإصلاح الداخلي هو الطريق الوحيد لتثبيت أركانه، واكتساب ثقة الشعب، وحل المشكلات المزمنة والطارئة التي تعاني منها الدولة في سائر المجالات.
- وجود الإرادة الصادقة لدى النظام للقيام بالإصلاح الشامل، ووضعه على رأس الأولويات.
- استعداد النظام للقيام بحملات التطهير اللازمة لبدء عملية الإصلاح، واتخاذ الإجراءات اللازمة ضد مراكز القوى التي تسيء استخدام السلطات الموكلة إليها، وتغذي بؤر الفساد المنتشرة في كافة مؤسسات الدولة ومشروعاتها.
- قدرة النظام على مواجهة الضغوط الخارجية الحريصة على استمرار المشكلات وتصعيد الأزمات، لتستمر في سيطرتها على النظام وتحكم قبضتها على خططه وبرامجه وسياساته، بل وعلى قياداته.
وبقدر ما تبدو عليه عملية الإصلاح من تعقيدات تشبه المستحيل، بقدر ما هي ممكنة وميسورة إذا تحققت العوامل السابقة، ونستدل على ذلك بخطة التغيير 2030 التي تبنتها جميع الدول العربية بلا استثناء، استجابة لمتطلبات خطة الأمم المتحدة لأهداف التنمية المستدامة 2030. حيث تجاوبت الدول العربية مع هذه المتطلبات، ووضعت الخطط التنفيذية لها على المستوى الوطني، وشكلت الفرق اللازمة لذلك، ودربتها على القيام بالأعمال المنوطة بها، ونفذت تلك الخطط وفقا للمعايير والإجراءات والخطوات التي وضعتها الأمم المتحدة، مع الالتزام الكبير بالجداول الزمنية والنماذج والبرامج والسياسات، والتعاون التام مع لجان المتابعة والتقويم التي تجتمع دوريا للتحقق من مدى التزام الدولة بتفاصيل أهداف خطة التنمية، وقياس مؤشرات النجاح، ورصد المشكلات والمعوقات التي تعترضها. بل إن بعض الدول العربية أدرجت هذه الأهداف ضمن خطتها الإستراتيجية الوطنية التي حددت سقفها الزمني بـ 2030.
إن هذا التجاوب الكبير مع خطة الأمم المتحدة، أحدث تغييرات كبيرة في بنية المجتمعات العربية، على الرغم من أنها خطة دولية لا تخدم الأهداف الإصلاحية الشاملة التي تحتاجها الدول العربية، والتي تتغافل الأمم المتحدة عنها. وطبعا، هذا ليس هو المثال الوحيد، ولكنه المثال الأكبر.
ومن المؤكد أن الإصلاح الشامل ليس عملية سهلة، وأنه يصطدم بالكثير من المعوقات الداخلية والخارجية المتشابكة، والتي تغلغلت في أنظمة الحكم وأجهزتها لعقود طويلة، ولكن ذلك يجب أن يدفع الدول العربية المأزومة التي تعاني من انسدادات سياسية مرعبة جعلتها تخضع لمسلسل طويل من الابتزازات؛ إلى أن تتحرك لوضع حد لذلك كله، بإطلاق عملية الإصلاح الحقيقي الصادق والشامل.
(انتهى)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق