«عنزة وإن طارت»
م.محمد إلهامي
هل تعرفون مثال: «عنزة وإن طارت»؟!
رويت فيه أكثر من قصة..
قيل إن أميرا خرج يصيد مع صديق له، فاختلف هو وصديقه حول صيد في الأفق،
قال الأمير: عنزة، وقال الصديق: غراب. وأراد خادم الأمير أن ينافقه فأصر على أن الصواب مع الأمير، وأنها عنزة!
فلما أطلقوا عليها السهام، طارت.. فتبين أنها غراب! فقال الخادم المنافق: عنزة، وإن طارت!
وهكذا يُضرب المثل على دناءة المنافق، وأنه تصل به خسة نفسه إلى نفي الحقيقة المشهودة التي لا شك فيها، تحقيقا لرغبة سيده!
وقرأت في قصة المثل رواية أخرى،
رواية ليس فيها هذا الخادم، بل فيها صاحبنا اختلفا حول شيء يلتف أسفل شجرة، قال أحدهما: عنزة،
وقال الآخر: غراب.. فلما اقتربا منه طار الغراب. فقال المخطئ: عنزة وإن طارت!
فصار يُضرب بهذا المثل في العناد!! وهذا هو العناد الذي يورث الكفر،
وهو الذي يتكبر فيه المرء أن يعترف بالخطأ، وتظل هذه الصفة تفعل في نفسه فعلها حتى توصله إلى الكفر،
ولهذا قيل: العناد يورث الكفر.. وضرب الله مثلا للمعاندين في كتابه أكثر من موضع، من ذلك:
{ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سُكّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون}
{وإذ قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}
ومن المشاهد التي لا تغيب عن بالي أبدا،
مشهد قديم، قبل نحو ربع القرن.. كانت إيناس الدغيدي، مخرجة الأفلام المهووسة بالجنس، قد ظهرت في برنامج،
ثم انفلت منها الكلام، فتحدثت على الهواء مباشرة عن حالات هياج جنسي بين الممثلين، وكيف أنها استطاعت السيطرة عليها!
في تلك اللحظة زال من ذهنها أنها تتحدث لعموم الناس، وعموم الناس هؤلاء لم يكونوا مطلعين جيدا -على الأقل في ذلك الوقت- على حالة الانحلال والإباحية التي تشيع في وسطهم الذي يسمونه «الفني».. كان هذا الوسط حريصا على تقديم الفن باعتباره رسالة سامية، وأن هذا الفحش الذي يحصل على الشاشة ليس إلا تمثيلا بريئا خاليا من الشهوة ومن إرادة السوء!
لكن الذي يهمنا الآن،
هو ذلك المقال الذي لا أنساه، كتبه خالد منتصر في «صوت الأمة»، وفيها شنّ هجوما على إيناس الدغيدي، وأنها يجب أن تنضبط وتنتبه، فهي بهذا الذي تقوله تقدم سلاحا للمتطرفين وأعداء الفن، وتثبت ما يقولونه عن حرمة الفن والتمثيل وعن الأخلاق الوضيعة للممثلين.
هذا المقال كان بالنسبة لي النسخة الحديثة من المثل القديم «عنزة وإن طارت»!
إذا كانت المخرجة نفسها قد شهدت بأن هذا الفن يحصل فيه هذا الفحش، وهي من أنصار هذا الفن لا من أعدائه.. أفلا يكون هذا بمثابة اعتراف تام، والاعتراف هو سيّد الأدلة؟!
ألا تكون هذه الشهادة منها بمثابة: وشهد شاهد من أهلها؟
ألا ينبغي بأي إنسان يحترم نفسه وعقله، مهما كان مقتنعا بأن الفن رسالة وبأن ما يراه على الشاشة هو تمثيل برئ لا تدخله الشهوة، ألا ينبغي له بعد اعتراف كهذا أن يتوقف مع نفسه فيراجع مواقفه؟!
كل هذا يجب أن يحدث، فقط لو كان المرء صادقا مع نفسه، ليس عنيدا ولا منافقا.. فأما إن كان عنيدا أو منافقا، فالفن رسالة سامية بريئة والممثلون ملائكة، ولو أنه رأى أفلامهم الجنسية الصريحة!!.. فهي عنزة وإن طارت.
ثم دارت بنا الأيام حتى رأينا بأعيننا أن كثيرا من الناس يعتنقون هذا المذهب، وأطرف ما كان من ذلك، أن بعض الناس كانوا مخدوعين في هذه الأنظمة السياسية، يحسبونها أنظمة وطنية، ويقدمون أنفسهم لها باعتبارهم الحركات المعتدلة، ويلمحون أو يصرحون أو حتى يهددون تلك الأنظمة بأنها إن لم تحتوهم وإن لم تسمح لهم بمشاركة سياسية، فإن البديل عنهم جماعات أخرى متطرفة!
فلما جاءت الواقعة الصاعقة،
ونزل بهؤلاء المعتدلين من العذاب والنكال والسحق ما لم يكونوا يحتسبون، حصل ردة فعل طبيعية في أوساط شبابهم، بل في أوساط عموم الناس ذهبت بهم إلى أولئك الذين يسمونهم «متطرفين»!
لقد بدا كأن أولئك «المتطرفين» كانوا أحسن بصرا وأكثر إدراكا لطبيعة ذلك الواقع وتلك الأنظمة، ولم يكونوا -كما صُوِّروا- مجموعة من الحمقى والمجانين! أو على الأقل، فإن في ذلك الحمق والجنون له ما يفسره ويبرره!
وبدأ الناس يراجعون مواقفهم وآراءهم في هذا الواقع وفي أطرافه وفي السبيل إلى الخلاص.. وأعيد بعث كلام من كان مجرد ذكر أسمائهم شيئا مرعبا!
وإذا بالمعتدل المغدور ينظر حوله في دهشة، وبدلا من أن يراجع نفسه، وينظر في الأسباب التي أودت به إلى هذه الكارثة.. إذا هو يقوم مثقلا بهزيمته مثخنا بجراحه ينادي النظام الوطني من جديد، يصيح به:
ألم أكن خيرا لك من هذا المصير؟!
ألَم يكن كافيا ما قدّمته لك من التنازلات لتقبلني في نظامك؟! ألم يكن الإسلام الذي أقدمه لك أنسب لك وأحسن من هذا الإسلام الذي اكتشفوه، وهذه الأفكار التي بدأت تسري بين الناس؟!
صاحبنا الإسلامي «الوسطي المعتدل الجميل» هذا هو النسخة الأخيرة من القائل «عنزة وإن طارت».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق