بالأمر المباشر (الخيانة كوجهة نظر- 3)
جمال الجمل
(تجار الأوطان)
لا يليق بمقام العرش أن ينشغل الحاكم بالتجارة، فإذا كنت مهتما بمشاريعك لهذه الدرجة، فاترك الحكم وتفرغ للتجارة.
صاغ المندوب البريطاني تحذيره لحاكم مصر في شكل نصيحة، لكن الود الظاهر والابتسامة المصطنعة لم تُخف خشونة الكلمات.
والواقع أن الخديوي عباس حلمي الثاني كان مولعا بجمع المال، وتحكي زوجته الثانية في مذكراتها أنها كانت تتعجب من تفقده الدائم بنفسه للعمارات التي كان يبنيها، حتى أنه كان يصعد "السقالات" ويسأل في التفاصيل الدقيقة، ويعمل بنفسه في مزارعه الخاصة، وعندما سافرت معه في "شهر العسل" فوجئت به يركب الجرار الزراعي ويستصلح الأراضي في مزرعة دالامان (جنوب غربي تركيا) التي ورثها من أجداده في صفقة سياسية بين محمد علي والباب العالي.
وتضيف جافيدان هانم في كتاب "حريم" المنشور في ألمانيا قبل سنوات: إنها لاحظت أن الخديوي يدقق في التفاصيل والمبالغ الصغيرة إذا وصلته في شكل بنود مفصلة، لكنه كان يوقع بسهولة على المبالغ الكبيرة التي لا تتضمن أية تفاصيل. وبطريقتها اللطيفة في التعبير لم تصف جافيدان هانم زوجها بصفة "البخل"، لكنها كشفت لنا عن غرام بعض الحكام بـ"الفكة" وانغماسهم في الفرعيات وأسئلة من نوع بكام؟ ومنين؟ بينما يهملون (أو يجهلون) الأساسيات والخسائر الاستراتيجية الأخطر. ولعل قصة مفاوضات عباس للتنازل عن العرش مقابل مخصصات مالية تكشف لنا عن نظرة الحاكم إلى سلعة "خلو الرِجل السياسي" باعتبار أن "الشرعية" مجرد سلعة لها ثمن، مثل كل شيء في الأوطان من الأرض والمصانع وخطوط السكة الحديد وبيع الألقاب والنياشين والأنواط، إلى البشر أنفسهم.
لم يكن عباس الثاني استثناء بين الحكام في حبه للمال وانشغاله بالتملك، فهو يشبه الكثير من رؤوس البلاد المنكوبة بحكامها، حتى أن عددا لا بأس به من المؤرخين المخدوعين والمخادعين يقدمون الرجل نفسه باعتباره من الحكام العظام في مجال التحديث والتشييد والإنشاء وكثرة المشاريع التي أنجزها في عهده..
ومن الإنصاف أن نعترف بسلامة أقوال المؤرخين من حيث التناول الإحصائي، فقد شهدت البلاد بالفعل تشييد الكثير من المدارس ومحطات المياه ومشاريع الري وحفر الترع وشق الطرق وبناء العمائر، وإنشاء الأحزاب والصحف وتدعيم البرلمان الوليد..!
لكن هذا المظهر العظيم لإنجازات "علي بابا" يخفي خلفه صورة اللص الذي يرتدي ثوب التجار. وأنا أكتب صفة "اللص" هنا، لأنني أخشى من التسرع في إطلاق صفات أخطر من "تاجر السياسة" ومن "اللص"، مثل "العميل" و"الخائن"، لهذا أتمهل وأترك لكم تحديد الصفات، لما بعد قراءة قصة الخديوي مع "بولو باشا" و"العشيقة الفرنسية"، وقصص خطايا كثيرة لا تزال تتواصل في قصور حكامنا حتى اليوم..
(كامل- أمين- ثابت)
لن أكتب عن قصة الجاسوس الصهيوني الشهير إيلي كوهين الذي اقترب من رأس السلطة في سوريا، حتى كاد أن يصبح رئيسا عربيا، فالقصة لم تعد مبهرة، لأنها كانت محاولة فاشلة، وبعدها تواصلت محاولات الصهاينة بنجاح أكبر، حتى جاهروا بتصحيح الفشل القديم، وأعلنوا عن وصول جواسيسهم إلى سدة الحكم في أكثر من دولة عربية..
لسنا بصد تدقيق الإعلان الصهيوني المخجل للجامعة العربية وسكانها وسكونها، لكننا بصدد مراجعة التاريخ لفهم الكيفية التي يصل بها الجواسيس والأسافل إلى دوائر السلطة ومراكز الحكم.
وكنت قد أشرت في مقال سابق إلى حالة شاب فاشل وفاسد اسمه "محمد فودة"، وصل إلى منصب سكرتير وزير الثقافة المصري، ولم يكتف فودة بذلك بل تمدد في علاقاته واتصالاته وزيجاته حتى صار "وزيرا للفساد" في عصر مبارك، وتم القبض عليه ومحاكمته وإدانته بالسجن كفاسد. وعقب ثورة يناير عاد فودة ليتصدر المشهد الإعلامي ككاتب ومالك صحف، وحينها كتبت مقالا تحذيريا (في 19 تموز/ يوليو 2015) بعنوان "بعودة يا فودة". وهاتفني الأديب جمال الغيطاني رحمة الله عليه محييا المقال ومتسائلا عما يحدث في البلد، وحاكيا عن جوانب خطيرة في ظهور فودة، وضرب موعدا للقاء بيننا بعد إجازة عيد الأضحى ليحكي لي ما لا تتسع له مكالمة الهاتف، وكنت أعرف أن لديه الكثير بحكم اقترابه من الكواليس وصراعه القديم مع الوزير فاروق حسني الذي منح "فودة" تأشيرة المرور لمركز السلطة.
دخل الغيطاني في غيبوبة مفاجئة وتوفي قبل أن نلتقي، ولم يهتم أحد بتنظيف الساحة من فودة وأمثاله، فكتبت مقالا هجائيا ساخرا ومباشرا بعنوان: "واحد من جنودك يا سيدي"، معارضا مضمون قصيدة أمل دنقل الشهيرة، واتهمتُ السلطة برعاية الفساد والفاسدين. وفي ختام المقال كتبت ووضعت عددا من النقاط (..) مكان الصفة التي يطلقها الناس على "فودة"، بعد نشر تحقيقات قضية الفساد وظهور طريقة توظيفه لزوجته "الفنانة" في تمرير أعماله، وقلت إن: "الرقيب الداخلي هو الذي حذف الكلام مكان النقط، ليس خوفا من قانون، ولكن لأنكم تعرفون أكثر منه، فالفاسد في بلادنا لم يعد يخاف ولا يختشي، ويتباهى بفساده على الملأ، وعايزينها تكبر وتبقى قد الدنيا؟!.. ربنا يهديكم".
ثم اختتمت المقال بتنبيه آخر: "إذا حذف رقيب آخر هذا المقال، سأكتبه على سحابة كبيرة في واجهة السماء، وإذا لم يحذفه، فانتبهوا لشعاع الأمل، وتلك الثغرة في الجدار، واعلموا أن المستقبل ينتظركم هناك خلف ذلك الجدار الأصم المبني بهذا النوع من الحجارة الغبية".
مرة أخرى أقول إن المقال لا يناقش قضية "فودة"، كما لا يناقش قضية الجاسوس كامل أوي، أمين أوي، ثابت أوي، شريف أوي، صادق أوي، لكنه يناقش ميكانيزمات صعود هؤلاء من سفح المجتمع إلى قمم السلطة.
وهي القصة التي تنطبق على حالة الفتى "بول بولو" الذي ولد في أسرة متوسطة في مدينة مارسيليا الفرنسية، وكان محتالا وشقياً. وخلافاً لشقيقه الذي صار قسّاً مشهورا، لم يتجه بولو للعلم ولا للدين، عاش حياة الليل وعمل في مهن صغيرة لأوقات قصيرة، مثل مساعد حلاق، وبائع كابوريا، وتاجر صابون، وموزع أقمشة، ومصور فوتوجرافي. ولما فشل في كل ذلك غادر مارسيليا متجها إلى باريس حيث عمل في "الكباريهات" مستغلا وسامته وأسلوبه اللين في الاحتيال، الذي ساعده في الزواج من راقصة عاش من ريع عملها، ثم هاجر معها إلى الأرجنتين، وهناك سرق أموالها وعاد مسرعا ليكمل مسيرته في النصب والزواج بأسماء مستعارة للتهرب من ملاحقة الشرطة.
في هذه البيئة تعرف بولو على مغنية أوبرا سابقة (اسمها مارسيل جاي) كانت متزوجة من "إمبراطور الشمبانيا" فرناند مولر، ولما مات ترك لها ثروة كبيرة..
القصة متوقعة طبعا بعد أن صار فيها "أرملة ثرية" و"صائد نساء"، فقد نصب بولو شباكه حول مارسيل وتزوجها وأصبح يتحكم في ثروة ضخمة، وتجارة مهمة، خاصة بعد تمرد مزارعي الكروم الذي كان بمثابة ثورة خفية سميت بعد ذلك باسم "ثورة الشمبانيا"، وهي الثورة التي أدت إلى وضع قواعد وتشريعات جديدة لاستقرار وتنظيم التجارة الهائلة، التي اعتبرها بعض خبراء الاقتصاد أحد العوامل الخفية في قيام الحرب العالمية الأولى..!
لكن أين عباس منذ هذا؟ وأين مصر؟ وأين علاقة "بولو" بالسياسة في كل هذا؟
(السكرتير مدبر شؤون الرز)
نحن الآن في ربيع سنة 1914، طبول الحرب العالمية الأولى ستدق في منتصف السنة، وفي نهايتها ستعزل بريطانيا آخر خديوي من حكم مصر، وتجعلها "سلطنة" منفصلة نهائيا عن تبعية الباب العالي، وفي باريس تخرج امرأة أربعينية حسناء في عجلة من أمرها، تعبر قوس النصر باتجاه حديقة مونسيو التاريخية، ثم تدلف إلى منزل فخم في شارع فالسبورج المواجه للحديقة، وتقول للحارس: أريد أن أقابل مسيو بولو.
الحارس: السيد غير موجود
* هل مدام مارسيل بالداخل؟
- نعم موجودة.
* أبلغها أن مدام لافارج في الخارج وترغب في مقابلتها.
كانت السيدة هي السوبرانو ومغنية الأوبرا الشهيرة ماري لافارج، وكانت مارسيل (زوجة بولو) زميلة لها قبل أن تتزوج من السيد مولر إمبراطور الشمبانيا) وتعتزل الغناء وتصبح سيدة مجتمع في أوساط الطبقة العليا، ولما بدأت محاكمة زوجها الثاني "بولو باشا" في قضية التجسس عاملتها المحكمة بتوقير واحترام، وكانت شهادتها صادقة ومهمة في التحقيقات، ومنها تأتي هذه المعلومات:
في لقاء شارع فالسبورج قالت مدام لافارج لصديقتها: كنت في جولة فنية أنهيتها في أوبرا القاهرة بدعوة من حاكم مصر، وأثناء عودتي إلى فرنسا التقيت على متن السفينة بيوسف صديق باشا (السكرتير الخاص للخديوي وأمين صندوق الرز)، وبعد التعارف وإبداء الإعجاب بغنائي في أوبرا القاهرة، تحدثنا في أمور كثيرة، منها طبيعة زيارته لفرنسا للقيام بترتيب بعض الأمور المالية والتجارية لخدمة سيده، وسألني عن مدى معرفتي بمصر وقناة السويس، وأخبرني أنه يبحث عن شخص موثوق يقدم بعض الخدمات المهمة لصالح الخديوي مقابل مكافأة مجزية، وقد فكرتُ في أن زوجك هو الرجل المناسب لهذه المهمة.
لماذا فكرت في هذا الأمر برغم انشغالك في الفن؟.. سألتْ مارسيل..
وأجبت لافارج: فكرت في تقديم شخص أعرفه جيدا لأتمكن من كسب بعض المال، خاصة وأن مسيو بولو لديه علاقات وثيقة مع كبار السياسيين ويستطيع تنفيذ أي مهمة بسهولة.
(صفقة القرون)
عاد بولو من السفر ورحب بالعرض، ورتبت مدام لافارج أول لقاء له مع "سكرتير الرز" بنجاح، وتم فيه الاتفاق على لقاء مباشر بين بولو والخديوي، وأبدى بولو رغبته في زيارة القاهرة في أسرع وقت.
حدث ذلك كله خلال أيام قليلة في شهر أيار/ مايو 1914، وفي شهر تموز/ يوليو أبلغهم صديق باشا أن الخديوي سيأتي إلى باريس في أوائل شهر تموز/ يوليو لقضاء زيارته السنوية غير الرسمية وإنهاء الأمور المالية التي تم الاتفاق عليها. وجاء الخديوي وبرفقته صديقة فرنسية تدعى "أندريه دي لوزانج" كانت تتدخل في كل شيء، وصوتها العالي يكسر البروتوكولات في التعامل مع الخديوي!
كان "بولو" يعرف لوزانج من قبل كفتاة ملاهٍ اسمها الحقيقي "جورجيت ميسني"، هجرت منزل عائلتها وسكنت مع صديقة لها في مسكن صغير بالإيجار، وكانت تقدم خدماتها لزبائن الملاهي الليلية مقابل فرنكات قليلة، لكنه تعامل بذكاء التاجر وتغاضى عن التاريخ "المشين" لصالح المستقبل "المرغوب"، ودعا الخديوي ورفيقته إلى منزله في فالسبورج، ثم إلى سباق للخيول في لونجشامب، واشتعلت الصداقة بين الحاكم والمغامر بسرعة الهيدروجين. وقبل أن تنتهي الزيارة بأيام صارح عباس صديقه الجديد بالصفقة الموعودة: وهي ترتيب أمر التفاوض مع شركة قناة السويس للحصول على عقد تجديد الامتياز: سوف تحصل على 150 مليون جنيه من الشركة.. 100 لي، و 10 لك، و40 مليونا لدعم البرلمان المصري الجديد..
اعترض بولو بلطف: 40 مليونا لدعم البرلمان؟.. هذا كثير جداً، وعشرة ملايين فقط لي؟.. هذا قليل جداً.
قال الخديوي: سأعوضك من نصيبي، تمهل وسوف تحصل على مكاسب أخرى كثيرة، المهم عندي أن تجيد تنفيذ ما أطلبه منك وتحافظ على السرية التامة.
ظهر القلق على وجه مدام لافارج، لكنها لم تنطق بكلمة، فقط نظرت باتجاه "بولو"، فأومأ لها مبتسما ومطمئنا، وأخبرها بعد الاجتماع بأن حقها في الصفقة هو 10 في المئة من أرباحه وأنه سوف يكتب لها عقدا بذلك في أسرع وقت. وقد أوفى بولو بوعده بعد أيام، وعاش فترة من السعادة الغامرة وجموح الأحلام، فالفرصة التي هيأتها له مدام لافارج نقلته إلى مستوى لم يحلم به في تحصيل المال والتنعم بالسلطة، خاصة عندما أنعم عليه الخديوي بلقب "باشا"، فاتخذه هوية جديدة تروق له، وصار يتعامل باسم "بولو باشا" ويوقع شيكاته وعقوده بالاسم الجديد، الذي حصل عليه في نهايات آب/ أغسطس وأوائل أيلول/ سبتمبر بعد أسابيع قليلة من لقائه بالخديوي وسكرتيره رجل الرز الوفير.
(رصاصة في الحفلة)
لم يسمع بولو دوي رصاصة "جافريللو" في سراييفو، التي أطلقت الحرب العالمية الأولى، فقد كان مشغولا بنشوة اللقاء المزمع مع ملك مصر (كانت ترجمة لقب "الخديوي" في أوروبا تعني "نائب الملك")، ثم غطى دوي حصوله على لقب "الباشاوية" على طبول الحرب التي بدأت تدق في أوروبا.
وقد كان "بولو" معذورا في عدم تقدير ما يحدث من مخاطر حوله، لأن صعوده الشخصي كان ملحوظا ومخدرا لعقله، فقد زاد وزنه كثيرا في أوساط النخبة السياسية العليا في فرنسا، حتى أنه دُعي إلى الإليزيه والتقى الرئيس مرتين، وتوثقت علاقته بالوزراء ونواب البرلمان وملاك الصحف وكبار الصحفيين. ثم دخل مرحلة جديدة من التعامل بالملايين في صفقات مضمونة الربح وسريعة العائد مع علاقات على مستوى الملوك والحكام، لكن في مقابل نشوة بولو كان القلق يتصاعد داخل "لافارج"، فبدأت تطارد بولو بالأسئلة المزعجة: ما مصير صفقتنا لو دخلت فرنسا الحرب؟.. ماذا لو أعلنت ألمانيا الحرب على فرنسا؟.. ما مصير قناة السويس إذا توسعت الحرب؟
كان بولو يرد عليها بثقة: توقفي عن هذه الوساوس، الأمور كلها في يد الخديوي، والخديوي في يدي، لقد منحني ثقته الكاملة، حتى أنه عهد إلى برعاية ولديه والإشراف على حياتهما ودراستهما في أوروبا، والاتصالات بيننا لا تنقطع.
بعد أيام قليلة دوّت رصاصة أخرى في حفل بولو السعيد، وكانت هذه المرة في إسطنبول حيث يستكمل الخديوي عطلته الصيفية، فأثناء خروجه من بيت الصدر الأعظم انطلقت الرصاصات باتجاهه، أصيب الخديوي إصابات غير قاتلة ونجا من محاولة الاغتيال، لكن الإشارات التي أرسلتها المحاولة كانت غير مطمئنة، فهناك جهة ما ترغب في الخلاص من الخديوي، وهذا يعني أن أمورا كثيرة ستتبدل، لكن هل تنتهي الصفقات؟ أم تفتح المتغيرات أبوابا لصفقات جديدة تناسب المرحلة الجديدة؟
كان بولو يثق في أن لكل مرحلة صفقاتها، حتى أنه لما عرض على الخديوي مرة فكرة إنشاء بنك لتهريب أمواله من مصر إلى الخارج، واعترض الخديوي على الفكرة قائلا له: ليست مناسبة.. ابحث عن فكرة أخرى.. قال بولو عبارته الواثقة: فكرة واحدة فقط؟.. إن عندي الكثير، وكلما رفضت فكرة سأقدم عوضا عنها عشر أفكار، وكلي ثقة أنك ستجد من بينها ما يروقك.
ثقة بولو لم تكن خداعا للآخرين، ولا مناورة لإخفاء خوفه من الغد، كان يقينا أشبه بالإيمان، وهو يقين يمنح القوة لذلك النوع من الأسافل الذين يعرفون جيدا أن فرص نجاحهم وصعودهم في أزمنة السوء أفضل كثيرا من أزمنة الاستقامة، لذلك لا تقلقهم الحروب والأزمات وخسائر الشعوب، لذلك لما دخلت تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا، وعادت لافارج تطلق تخوفاتها أمام بولو وتسأل عن مصير الخديوي وقناة السويس، قال لها بولو: كل شيء مضمون فلا تقلقي وتوقفي عن الشك.
سألته: أليست لديك أية شكوك فيما يحدث؟
رد بولو بحسم: سأثبت لك أنني واثق من النجاح، ودخل إلى غرفة مكتبه، ثم خرج وفي يده عشرة آلاف فرنك، وقال لها: هذه أموال أرسلها الخديوي، والدفع مقدما يعني أن العمل ليس مهددا بالتوقف.
اطمأنت لافارج لفترة قصيرة حتى ذاع خبر عزل الخديوي من الحكم، فقد اعتبر الإنجليز أن الخديوي عدو للمملكة وحليف لأعدائها من الألمان والترك، وهذا يكفي لعزله، بما يعني انتهاء صفقة قناة السويس بشكل قطعي، لأن الخديوي فقد سلطته على كل شيء في مصر حتى أمواله الخاصة، كما وضع الإنجليز مصر نفسها تحت الحماية وتم إنهاء تبعيتها للسلطنة العثمانية في أي قرار سياسي أو التزامات مالية..
ومع ذلك لم تنته القصة، لكنها تحولت إلى مسارات أكثر غموضا وإثارة، نتعرف عليها في المقال المقبل.
tamahi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق