الأحلام الكبرى لا تموت.. 12 عاما على الربيع
لم تكن انتفاضات شعوب دول الربيع العربي قبل 12 عاما من أجل كماليات حياتية تعيشها غيرها من الشعوب المتقدمة، لكنها كانت فورات براكين اختمرت، ولم يعد باطن الأرض يحتملها فانفجرت، وأحدثت تلك الزلازل التي كان مركزها في 5 دول (تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن) لكن شظاياها ورياحها وصلت بدرجات متفاوتة إلى دول أخرى تحركت حكوماتها سريعا للتعاطي الإيجابي بهدف تمرير تلك الموجة كما حدث في المغرب (السماح لحزب العدالة والتنمية بالحكم بعد انتفاضة فبراير) والأردن التي سمحت ببعض الهوامش الجديدة للعمل العام.
لم تكن الدول الخليجية بعيدة عن تلك الشظايا والتداعيات حيث شهدت البحرين انتفاضة كبرى ولكن خطأها هو غلبة الطابع الطائفي عليها، مما حرمها من توصيف الثورة الشعبية، وقد تحركت غالبية الحكومات الخليجية سريعا لمواجهة تلك الرياح العاتية لمنع وصولها إلى عواصمها، خاصة أنها تابعت كيف تعلقت عيون شعوبها بتطورات ذلك الربيع، وربما رصدت أجهزتها الأمنية تحركات لبعض المجموعات الراغبة في التغيير مبكرا.
أحلام لصيقة بالإنسان
لم تكن بعض النظم الاستبدادية العربية وحدها المتضررة من الربيع العربي بل سبقها إلى تلك المخاوف الكيان الصهيوني وداعموه من الحكومات الغربية، وبذا تكونت جبهة صلبة للثورة المضادة، لم يكتف ضلعها الإقليمي بمواجهة الخطر على حدوده، بل رأى أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم على عقر دار تلك الثورات، ووأدها في مهدها قبل أن يستفحل خطرها عليه، فتم ترتيب الانقلاب على الثورة المصرية، وتم تحويل الثورات الليبية والتونسية واليمنية إلى حروب أهلية، وجرت محاولات للانقضاض على الثورة التونسية، تعثرت قليلا لكنها نجحت أخيرا في أن تغزو الثورة من داخلها، وعبر رئيس انتسب يوما إلى الثورة وفاز في الانتخابات حاملا أحلامها وطموحاتها، قبل أن ينقلب عليها، ويُسخّر كل إمكانيات الدولة، والدول الحليفة له ضدها.
تخطئ قوى الثورة المضادة حين تتوهم أنها نجحت في وأد أحلام شعوب الربيع العربي في الحرية والكرامة والديمقراطية والعيش الكريم، ذلك أن تلك الأحلام هي لصيقة بالإنسان منذ ولادته، فقد خلقنا الله أحرارا، كما أنه منحنا الكرامة {ولقد كرَّمْنا بني آدمَ وحملناهم في البرِّ والبحرِ ورزقناهم من الطيباتِ وفضّلناهم على كثيرٍ مِمّنْ خلقنا تفضيلًا}.
وهذه الأحلام أو لنقل الحقوق اللصيقة، هي جزء من كيان البشر لا يمكن لأحد التنازل عنها، حتى وإن اضطر إلى أن يتحمل غيابها القسري لبعض الوقت كما يتحمل بعض الآلام الجسدية الأخرى حتى يبرأ أو يعالَج منها أو حتى يموت دون التنازل عنها.
شعوب ذاقت الحرية
لم تفلح جهود الثورات المضادة على مدى اثني عشر عاما في وأد تلك الأحلام التي عاشتها بعض الشعوب العربية واقعا لبعض الوقت بعد انتصار ثوراتها في جولتها الأولى، حيث عرفت معنى الانتخابات النزيهة وصفوف الانتظار الطويلة في حر الصيف أو برد الشتاء للإدلاء بأصواتها في انتخابات رئاسية أو برلمانية، بعد أن تيقنت أن لأصواتها قيمة في حكم بلدها ورسم مستقبلها، ذاقت تلك الشعوب حلاوة الحرية والديمقراطية والكرامة لبعض الوقت في ما يشبه العرض الترويجي للسلع النفيسة التي يحتاج تملُّكها الكامل إلى دفع ثمن كبير، وهو ما تدفعه قوى التغيير حتى الآن.
استخدمت قوى الثورة المضادة كل إمكانياتها العسكرية والأمنية والإعلامية لوأد أصوات التغيير، قتلا وحبسا، وملاحقة وتهجيرا، لكنها حتى اللحظة لم تنجح في مهمتها رغم أنها تدعي العكس أمام جمهورها، فالهبّات الشعبية تظهر بدرجات متفاوتة بين الحين والأخر، على طريقة الكر والفر في مواجهة تلك الآلة القمعية المفترسة، حدث ذلك في مصر مرات، وحدث بدرجة أكبر في تونس بعد انقلاب الرئيس قيس سعيّد، ولعل المظاهرة الحاشدة يوم 14 يناير/كانون الثاني الجاري في ذكرى ثورة الياسمين كانت المظهر الأكبر للتمسك بالحلم مهما كانت المعوقات، وحدث ذلك وإن بدرجة أقل في ذكرى الثورة الليبية.
لم يقتصر الحلم على شعوب الموجة الأولى للربيع العربي بل وجدنا موجة ثانية شملت السودان والجزائر، وأسفرت عن تغييرات كبرى حتى الآن، كما شملت جزئيا لبنان والعراق، وحتما ستنتقل إلى شعوب أخرى.
لا استقرار ولا تنمية
رفعت قوى الثورات المضادة شعارات الاستقرار والتنمية، فلا حققت هذا ولا ذاك، ولعل نظرة عامة إلى الدول التي تمكنت منها مثل مصر وتونس وسوريا واليمن، تؤكد أنها الآن تعاني بصورة أكبر من ذي قبل من ارتفاع الأسعار، وتراجع الإنتاج، وغياب فرص العمل، وتراكم المديونيات المحلية والدولية، أي أنها تصنع بنفسها البيئة المحفزة على الثورة مجددا، وعند درجات معينة من الغضب وعدم قدرة المواطنين على تحمّل المزيد من الأعباء، لن تنفع الجيوش وقوات الشرطة في مواجهة الغضب المكبوت الذي لن يكون لديه ما يخسره.
التمسك بالحلم، والسعي لتحقيقه مهما كلف من ثمن ومهما طال الزمن، لا يقتصر على شعوب الربيع العربي في موجتيه الأولى والثانية ولا حتى أي موجة جديدة، لكنه مسار عالمي سبقتنا إليه شعوب أخرى في أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، وتمكنت من تحقيق أحلامها في الحرية والكرامة، وإنهاء الأنظمة العسكرية والاستبدادية، وإحلال الحكم المدني محلها، وإخضاعه لقواعد الرقابة والشفافية والتداول السلمي، وحتما ستحقق شعوبنا العربية أحلامها أيضا مهما طال الزمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق