الأحد، 29 يناير 2023

الواقعيون ووحي الشيطان (٨ – ١٠)

 الواقعيون ووحي الشيطان (٨ – ١٠)

د. حاكم المطيري

«إدارة أمريكا شئون مصر بعد الثورة»

لقد كانت أمريكا على علاقة وثيقة بالضباط الأحرار قبل ثورتهم ١٩٥٢م عبر رجالها، وهي التي منعت بريطانيا من التدخل لحماية الملك فاروق يوم الانقلاب العسكري -كما سبق ذكره- وكانت وراء كل القرارات المهمة التي اتخذها مجلس قيادة الثورة!

كما ذكر ذلك خالد محيي الدين – في مذكراته ص ١٨٧- وهو يتحدث عن التدخل الأمريكي مباشرة في شئون مصر بعد الثورة حيث يقول؛ (وذات صباح استيقظ علي ماهر ليقرأ في الصحف نبأ اعتقال كل قيادات الأحزاب السياسية ما عدا الإخوان [المسلمون]، وفوجئ الرجل، فكيف لا يستشار وهو رئيس الوزراء، أو حتى كيف لا يبلغ بالخبر قبل أن يطالعه الناس في الصحف!

وقرر علي ماهر الاستقالة، وقررنا قبول استقالته..

وبدأنا رحلة البحث عن رئيس وزراء جديد، وكان أول المرشحين هو الدكتور عبد الرازق السنهوري باشا رئيس مجلس الدولة، لكن قصة السنهوري تجرنا إلى موضوع خطير هو علاقتنا بأمريكا والسفير الأمريكي، ومستر كافري! والحقيقة أن جمال عبد الناصر كان قد رتب -كما قلت- قبل الثورة علاقة مع الأمريكيين عن طريق علي صبري، ومنحهم قدرا من التطمينات من أن الثورة القادمة لن تقف ضدهم)!

كذا كان يتصور خالد محيي الدين أن جمال هو الذي كان يرتب العلاقة مع أمريكا قبل الثورة وبعدها وليست الاستخبارات الأمريكية هي التي كانت ترتب المشهد كله لجمال وتنظيمه السري لإنهاء النفوذ البريطاني من مصر لتحل هي مكانها لقيادة العالم كله الذي يمثل العالم العربي فيه ونفطه وثرواته درة التاج الأمريكي!

ثم يكمل محيي الدين:

(والحقيقة أيضا أن كافري [السفير الأمريكي]، كان يتصرف -بالحق أو بالباطل- على أساس أنه يمتلك نفوذا في صفوف الثورة!

ولقد أدهشني أن طالعت فيما بعد في بعض وثائق وزارتي الخارجية البريطانية والفرنسية أن كافري، كان يزهو أمام السفراء الغربيين موحيا إليهم بأنه على علاقة خاصة جدا مع الثورة، بل لقد كان يتحدث عنا قائلا: «My boys» أي أولادي [الصحيح رجالي]، والحقيقة أنه كان مبالغا في ذلك أشد المبالغة، فلم نكن أولاده، ولم يكن يمارس علينا نفوذا حقيقيا، لكنه استفاد من غموض الموقف، ومن بعض العلاقات ليتظاهر بأنه يمتلك نفوذا ما)!

وهذا ما كان يتخيله محيي الدين عن نفسه وعن تنظيمه السري «الضباط الأحرار» لا كما هو الواقع ذاته، حيث كان جمال وحده، كما اعترف السادات، الشخص الوحيد الذي كان يعرف أسرار التنظيم ويعرف كل أعضائه، وهو وحده الذي كانت تصب عنده قنوات الاتصال مع الاستخبارات الأمريكية باعتراف محيي الدين نفسه حيث يقول مكملا حديثه عن النفوذ الأمريكي عليهم بعد الثورة، ودور جمال، واجتماعهم مع السفير الأمريكي، وعرضهم عليه مشروع الإصلاح الزراعي: (وبعد أيام من الإطاحة بالملك قيل لي أننا مدعوون على العشاء في بيت عبد المنعم أمين مع السفير الأمريكي!

وذهبنا: نجيب، وعبد الناصر، وبغدادي، وعبد الحكيم، وصلاح سالم، وأنا، وأتى السفير الأمريكي ومعه المستشار السياسي، جلست على يسار السفير، وجلس إلى جواري المستشار السياسي، وفيما كان نجيب وجمال يتحدثان مع كافري، عن فكرة إصدار قانون للإصلاح الزراعي، بدأ المستشار السياسي -وكان اسمه وايفانز، فيما أعتقد- يتحدث معي عن موضوع مثير، فقد أشار إلى تعاوننا مع بعض العناصر ذات التوجه الوطني الراديكالي مثل فتحي رضوان ونور الدين طراف، وغيرهما، وقال: إن خطورة مثل هذه العناصر تكمن في أنهم يصطفون في نهاية الأمر مع الشيوعيين، وأبديت دهشتي فإن هؤلاء جميعا كانوا خصوما للشيوعية، وقلت له ذلك، لكنه أجاب: هذا صحيح الآن لكنهم في النهاية سيقفون مع الشيوعيين، ذلك أن التطرف في الوطنية يقود صاحبه للاتفاق مع الشيوعيين ضد ما يسمونه معا «الاستعمار».

والغريب أيضا أنه هاجم الوفد بشدة وقال: إن عيب الوفد أنه يخضع للضغط الشعبي!

وإنه خضوعا لهذا الضغط ألغى المعاهدة وفجر الكفاح المسلح، ومثل هذا المناخ يشجع الشيوعية هو الآخر..

انتهت المقابلة، وظننت أن الأمر قد انتهى، فقد تعارفنا وانتهى الأمر أو سينتهي عند هذه الحدود، لكن هذه الطمأنينة من جانبي لم تكن في محلها، فعند ترشيح السنهوري لرئاسة الوزارة على أثر استقالة علي ماهر، فوجئت بأمر خطير!

كنا في جلسة مجلس القيادة، وكان الدخول ممنوعا بطبيعة الحال، وأبلغنا الحارس الواقف على الباب أن علي صبري يريد جمال عبد الناصر لأمر هام وعاجل، وكان عبد الناصر منهمكا في الحديث، فخرجت أنا لأستطلع الأمر، وكان علي صبري يلح في مقابلة عبد الناصر فورا، وقلت: إن هذا مستحيل، فألح وقال: إن الأمر هام جدا وعاجل للغاية، فرفضت وقلت: إنه من غير الممكن إخراج عبد الناصر من الجلسة، فقال: إذن أبلغه وعلى وجه السرعة أن السفير الأمريكي غير راض عن اختيار السنهوري رئيسا للوزراء، فالأمريكيون يعتبرونه شيوعيا؛ لأنه وقع على “نداء السلام”، فقلت: لكنني أنا أيضا وقعت على هذا النداء، فرد علي صبري: لكن أنت لم تكن معروفا في هذا الحين، وكافري يقول إن الرأي العام الأمريكي يتعاطف الآن معكم، وهم يعتبرون أن كل من وقع على “نداء السلام” شيوعي فلا تخسروا الرأى العام الأمريكي بهذه السهولة!

دخلت إلى الاجتماع، وأبلغت الرسالة وأنا منفعل جدا، وقلت: إنني أرفض بشدة قبول هذا، لأن معناه الحقيقي أن السفارة الأمريكية تتحكم فينا وفي قرارنا وهذا أمر خطير جدا!

 ورد جمال عبد الناصر بهدوء: وأنا أيضا غير موافق!

لكن الذي حدث بعد ذلك أنهم ناقشوا السنهوري وأبلغوه برأي السفير الأمريكي!

ولعلهم نقلوا له الأمر بحيث يدفعوه إلى الاعتذار، وقد اعتذر فعلا مبديا دهشته قائلا: إن الأمر كان بسيطا للغاية، وأنه فوجئ بهذه الضجة، فقد كان جالسا على أحد المقاهي عندما مر عليه شاب يحمل عريضة يجمع عليها توقيعات للمطالبة بعدم استخدام السلاح النووي في أية حرب مقبلة، ووقع السنهوري، ولم يكن يعرف أن هذا التصرف البسيط سوف يعتبر عند الأمريكيين عملا خطيرا بحيث يضعون صاحبه في مصاف الشيوعيين، ولم يكن يعرف أن هذا التوقيع سوف يحرمه بعد أكثر من عام من منصب رئيس الوزراء!

وعلى أية حال اعتذر عبد الرازق السنهوري، حتى لا يسبب لنا حرجا، بل لعل البعض قد أحرجه لكي يتخذ موقف الاعتذار.

وبدأنا في البحث عن رئيس جديد للوزراء..

ويجب أن نضع في الاعتبار أيضا أن الطرف الآخر -أي الاتحاد السوفيتي- كان يشن علينا حملة عاتية، ويتهمنا بأننا انقلاب عسكري عميل لأمريكا، وعزفت كل الأحزاب الشيوعية باستثناء منظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) نفس المعزوفة..

ولعلي قد تحدثت أيضا عن شكوك ساورت جمال سالم وجمال عبد الناصر إزاء جدوى الهجوم على أمريكا حتى في أيام ما قبل [الثورة] ۲۳ يوليو، وفي ليلة العشاء الشهير مع السفير الأمريكي ومستشاره لاحظت أن السفير كافري، يحاول أن يتعرف على كل واحد منا، وعلى اتجاهاته الحقيقية، وأحسست أن بعض الزملاء يحاولون أيضا إظهار اعتدالهم أمام السفير..

وكان الأمريكيون يبدون بوضوح مصلحتهم في استمرار الثورة في الحكم!

واعتقادهم بأهمية أن تتخذ الثورة بعض الإجراءات الاجتماعية التي تكفل الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وتحل ولو بشكل جزئي مشكلة الفقر، وكانوا يقولون صراحة: إذا لم تحلوا مشكلة الفقر، فسوف تأتي قوة أخرى لتحلها وهذه القوة هي الشيوعيون..

ولقد كان عبد الناصر هكذا دوما ومع كل الأطراف حتى مع إسرائيل، ففي فترة إقامتي بالمنفى وأثناء زيارتي لباريس أبلغني الأستاذ عبد الرحمن صادق المستشار الصحفي في سفارتنا بباريس أنه مكلف من قبل عبد الناصر بعمل علاقة ما بالسفارة الإسرائيلية، وأن هدف العلاقة هو التعرف على كل أفكار الإسرائيليين ورؤيتهم للثورة وموقفهم إزاءها!

ويمكن القول بأن إسرائيل في هذه الفترة لم تكن مدرجة في الأسطر الأولى لجدول الأعداء! وقد كان هناك الانجليز أولا، وضرورة إجلائهم عن أرض الوطن، ولم تصعد إسرائيل في جدول الأعداء إلا بعد أحداث غزة وحلف بغداد.. إلخ.

وفيما أعتقد استمرت العلاقات والاتصالات مع السفارة الأمريكية عبر قناتين تصب كل منهما عند عبد الناصر وحده: عبد المنعم أمين، وعلي صبري، ولعل هذه العلاقة قد استمرت زمنا ليس بالقصير) انتهى كلام خالد وقد أكده غيره من الضباط الأحرار في مذكراتهم!

فالسفير الأمريكي يعترف للضباط الأحرار بأن السبب في وقوفهم مع الانقلاب ضد حزب الوفد، هو رضوخه للشعب المصري وإلغاؤه معاهدة الحماية مع بريطانيا حين خطب النحاس فقال: (وقعت الاتفاقية لمصلحة الشعب المصري، وأنا ألغيها لمصلحة الشعب المصري)!

فأمريكا التي ترفع شعارات الديمقراطية والحرية هي التي تقف وراء كل الانقلابات العسكرية والأنظمة الوراثية والدكتاتورية التي تخضع لها وتنفذ سياساتها على حساب سيادة دولها وحقوق شعوبها!

وقد ذكر الرئيس نجيب في مذكراته ص ١٦٣ ترشيح اسم السنهوري لرئاسة الوزراء -بدلا من علي ماهر الذي رفض قانون الإصلاح الزراعي- ثم التراجع عنه لاتهام الصحف الغربية للسنهوري بالشيوعية لتوقيعه على ميثاق مجلس السلم العالمي الرافض للحروب، ثم ترشيحهم لنجيب لرئاسة الوزارة بالإضافة لقيادة مجلس الثورة في سبتمبر ١٩٥٢م!

 وما زالت أمريكا تفرض سياساتها على مجلس قيادة الثورة عبر رجالها فيه حتى وصل الأمر إلى عزل رئيس مجلس قيادة الثورة نفسه ورئيس الجمهورية محمد نجيب الذي ظل يتلكأ في تنفيذ سياساتها، وكان جمال أكثر مرونة معها، كما قال خالد محيي الدين -ص ٢٣٩-: (وحتى ذلك الحين لم أكن أدرك عمق الخلافات بين نجيب وجمال، كنت أتصور أن المسألة مسألة اختلاف في وجهات النظر، أو حتى صراع محدود على السلطة، أو أنها من نوع الصراع الموجه ضدي من جانب جمال سالم مثلا هو وبعض الزملاء، فهم مثلا كانوا يتصورون أن وجودي معهم عبء على حريتهم في الحركة، وأنا كنت أتصور أن هناك اتجاه أمريكي يريد الانحراف بالثورة عن أهدافها الأولى)!

ومع كل هذه الحقائق التي تنبئ بشكل قطعي عن وقوف أمريكا وراء انقلاب “الضباط الأحرار”، إلا أن محيي الدين لا يضع هذا الاحتمال بالحسبان! ويعزو ما بدا له من توجه نحو الارتباط بأمريكا على أنه انحراف بالثورة عن أهدافها!

هذا مع أن نجيب إلى ذلك الحين هو رمز الثورة وقائدها في نظر الجماهير، كما يؤكده خالد محيي الدين -في ص ٢٥٣- بقوله: (نجيب كان حتى ذلك الحين رمز الثورة، ورمز التغيير عند الجماهير، صحيح أن الجماهير تؤيد مجلس الثورة، لكنها تلتف أكثر بكثير حول شخص نجيب)!

التدخل الأمريكي لبث الخلافات في الجيش:

وقد بلغ التدخل الأمريكي -عبر علي صبري رجل الاستخبارات الأمريكية وحلقة الوصل بينها وبين جمال عبد الناصر وغيره من رجالها- حد إشعال الحرب بين وحدات الجيش المصري، من سلاح الفرسان الذين رفضوا استقالة الرئيس محمد نجيب، وسلاح الطيران وباقي الوحدات التي مع جمال، التي رفضت استقالة مجلس قيادة الثورة، وكانت أمريكا تتابع المشهد بعيون علي صبري، كما يؤكده خالد محيي الدين في مذكراته -ص ٢٧٨- وهو يتحدث عن حال الضباط في مكتب عبد الحكيم عامر وما كانوا عليه من صخب واضطراب (الطيران يصم آذان الجميع، كانت الساعة حوالي السادسة والنصف صباحا، لمحت علي صبري يطل من النافذة ويجفف دموعه!

وسمعت جمال سالم يقول: أيوه كده.. بل ويصرخ: وقولوا لسلاح الطيران يجهز الصواريخ ويضرب سلاح الفرسان!

أما عامر فقد أبدى أنه لم يكن يعرف بخروج الطائرات، لكنه صرخ في الجميع مطالبا بالهدوء ومعلنا: أنا أعلن أمامكم إلغاء القرارات، وأعلن أنني المسئول عن القوات المسلحة، وطالب الجميع بالهدوء!

طوال هذه الفترة كان جمال عبد الناصر جالسا صامتا دون حراك!

 وذهبت إليه قائلا: إيه يا جمال حتسيب البلد يحصل فيها مذبحة؟

 فرد بهدوء: والله أنا مش فاهم حاجة!

 وإلى جواره كان حسين الشافعي يبكي في صمت)!

وهو المشهد نفسه الذي رآه الشعب المصري والعالم كله في انقلاب السيسي ٢٠١٣م الذي كان وراءه الاستخبارات الأمريكية، والذي قام الجيش فيه بعد خلع الرئيس المنتخب محمد مرسي بمذبحة رابعة والنهضة، لتبدأ السفيرة الأمريكية بعده مباشرة بالاتصال بالقوى السياسية، لتعرض عليها المشاركة في الحكومة الجديدة، بما في ذلك عرض المشاركة فيها على حزب النور ذي التوجهات السلفية، تماما كما حدث بعد انقلاب ١٩٥٢م وعرض جمال على الإخوان المشاركة بأربعة وزراء!

وقال خالد محيي الدين في ص ٢٨٥ عن هذه الحادثة وتداعياتها (بعدها بيومين أيقظوني من النوم ليبلغوني أن الصاغ محمد ابراهيم كامل غنام من سلاح المدرعات قد حرك عددا من المدرعات، وأحاط بها بيت محمد نجيب لحمايته من أية محاولة للنيل منه، وأن قوات من المشاة تحاصر هذه المدرعات!

لكي تعرف عزيزي القارئ حقيقة الوضع في هذه الأيام العصيبة عليك أن تتخيل المنظر التالي: رئيس الجمهورية في بيته له حراسته الخاصة، لكن ضابطا من المدرعات يخشى عليه من غدر البعض فيحاصر بيته بمدرعاته ليحميه منهم، وحول هذا الطوق المدرع، هناك طوق أخر من المشاة!

وعود ثقاب واحد، كلمة واحدة، احتكاك ولو طفيفا يمكنه أن يشعل النار بين الطوقين، ليشعلها بين أسلحة الجيش كلها.

أسرعت إلى الصاغ محمد إبراهيم كامل وسألته: ليه كده يا محمد؟

فقال ببساطة: خفت أن يعملوا شيئا ضد محمد نجيب فأتيت لأحميه وأقنعته أن يسحب مدرعاته ويعود.

وفي اليوم التالي لعودة نجيب تفجرت مظاهرات بالآلاف، بل بعشرات الآلاف لتعلن ابتهاجها بعودته، وبرز الإخوان المسلمون بقوة معلنين مساندتهم له، وألقى عبد القادر عودة خطابا حماسيا في المتظاهرين معلنا تأييد الإخوان لنجيب، وخرج نجيب من شرفة قصر عابدين ليحيي الحشود الهائلة التي ملأت ميدان عابدين والشوارع المحيطة به..

 وسألت جمال: ماذا ستفعلون؟

فقال: سنحاول أن نهدئ الوضع.

وبعد فترة ذهب نجيب إلى مجلس الوزراء ليصدر بيانا يؤكد فيه أنه تناسى الخلافات من أجل مصر، وقال: إن أعضاء مجلس الثورة زملائي وإخواني برغم أي خلاف!

وكان ذلك بناء على ضغط من عبد الناصر الذي أبلغه بضرورة إيقاف هذه المظاهرات، حتى يمكن استمرار التعاون.

وبرغم كل ما حاولت من تهدئة للأوضاع ومحاولة إقناع ضباط المدرعات بالهدوء، فإن عبد الناصر قد فاجأني بنصيحة غريبة فقال: أنصحك بأن تأخذ إجازة ثلاثة أو أربعة أيام، وفهمت أن الزملاء من أعضاء مجلس قيادة الثورة يرغبون في أن ينفردوا بالتصرف، وألا يشركوني فيما ينتوون اتخاذه من قرارات!

وأخذت إجازة، وفوجئت بإعلان قرارات ٥ مارس الشهيرة.

لكنني وما دمت أرصد كل ما حدث من وقائع هامة، أود أن أشير إلى واقعة محيرة، بل لعلها ظلت تحيرني لأمد طويل.. ففي هذه الأيام المليئة بأحداث مضطربة وغامضة قابلني صحفي فرنسي مرموق ينتمي إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي هو «روجيه استفان» وكان بالقاهرة ممثلا لجريدة «فرانس أوبزرفاتور» وقابلني ليجري حديثا، وأثناء الحديث همس في أذني قائلا: سأبلغك بنبأ هام، الدوائر الحاكمة في الغرب قررت مساندة جمال ضد نجيب، إنهم الآن يفضلون جمال لأنه سيكون حاكما قويا ومتفهما للأوضاع في آن واحد، أما نجيب فهو حاكم ضعيف وأمثاله سرعان ما يخضعون لضغط الجماهير، ومكنتني هذه الهمسات من أن أعرف الاتجاه الحقيقي للريح معي)!

لقد فعلت أمريكا بالانقلاب العسكري في مصر ١٩٥٢م، ما فعلته بانقلاب حسني الزعيم في سوريا سنة ١٩٤٩م، وهو أول انقلاب عسكري في العالم العربي تنفذه الاستخبارات الأمريكية، وكان خالد محيي الدين قد تخوف أن يحدث في مصر ما حدث في سوريا إلا إنه حدث بحذافيره! وقد حشدت أمريكا خلفه «الإخوان المسلمون» والقوميين البعثيين، الذين وقف خطباؤهم في المسجد الأموي مع الانقلاب ورحبوا به، وكررت المشهد نفسه بعد سنتين فقط بالانقلاب في مصر الذي حشدت خلفه القوميين والإخوان المسلمون، حتى إذا نجح الانقلاب في السيطرة على الأوضاع، كان الإخوان المسلمون هم الضحية!

وكذا مضى مجلس «قيادة الثورة» ينفذ سياسات الاستخبارات الأمريكية، حتى حان الوقت لحل جماعة «الإخوان المسلمون» بعد أن استنفدت أغراض وجودها، وبعد أن تم للعسكر السيطرة على الوضع الداخلي بشكل كامل، واتبعت أمريكا في سياستها لضرب الجماعة من الداخل ما اتبعته بريطانيا معها سنة ١٩٤٢م، في تعزيز الخلافات داخل الجماعة بين الإمام البنا وأحمد السكري، كما ذكر خالد محيي الدين في مذكراته -ص ٢٤٣- بقوله: (وسارت الأمور سيرا هادئا حتى أول فبراير ١٩٥٤م، وكانت جماعة الإخوان المسلمين قد صدر قرار بحلها في ١٥ يناير، وأود هنا أن أقرر للتاريخ أن قرار حل الإخوان قد صدر بالإجماع، أي بموافقتنا جميعا بما فينا محمد نجيب، ومن هنا فإن تنصل نجيب فيما بعد من هذه الموافقة ليس متطابقا مع الحقيقة، وكان السبب المباشر لحل الإخوان هو وقوع تصادم في الجامعة بينهم وبين طلاب آخرين، وأحرق الطلاب الإخوان سيارة وقاموا بأعمال عنف وتخريب، وعقدنا اجتماعا في نفس الليلة، وحضر الاجتماع الشيخ الباقوري، وصدر قرار الحل بالإجماع كما قلت، وتقرر اعتقال ۱۰۰ شخصا من الإخوان، لكننا كنا في نفس الوقت نرى ضرورة الاستمرار في تعميق الخلافات داخل الجماعة، ومن ثم كان هناك اتفاقا على المشاركة في الاحتفال بذكرى وفاة حسن البنا في ۱۲ فبراير، لنعلن أننا لسنا ضد دعوة الجماعة، وإنما ضد هذه المجموعة التي تقودها، وضد قيادة المرشد حسن الهضيبي تحديدا)!

وبضغط جماهير الشعب المصري عاد نجيب للرئاسة وتراجع عن الاستقالة، وجرى الإفراج عن المعتقلين من الإخوان المسلمون، وذلك في مارس ١٩٥٣م، إلا أنهم رفضوا عودة الحياة النيابية ووقفوا مع تعطيلها وحل الأحزاب!

كما ذكر خالد محيي الدين في مذكراته -ص ٢٩٧- (أما «الإخوان المسلمون» فقد انحاز القسم الأكبر منهم إلى جانب نجيب، صحيح أن قرارا بالإفراج عن المرشد العام الأستاذ الهضيبي قد صدر في ۲۹ مارس، وأن عبد الناصر زاره في منزله، وصحيح أيضا أن عبد الناصر كان قد نجح في شق صفوفهم، واستقطاب البعض منهم، لكن الأغلبية كانت مع نجيب، ولعله من المهم أن أقرر أن الإخوان المسلمين لم يؤيدوا عودة الحياة النيابية، بل تحفظوا على عودتها بعد الإفراج عنهم في ۲۹ مارس سنة ١٩٥٣م).

السعودية ودعم الانقلاب:

وقبل تنفيذ ما تعهد به جمال عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة في ٥ مارس من عودة الحياة النيابية والعمل بالدستور، جاء الملك سعود بن عبد العزيز إلى مصر بزيارة رسمية، فتغير كل شيء!

وتراجع جمال عن كل تعهداته وبدأ ترتيب المشهد بشكل عسكري دكتاتوري!

كما ورد في مذكرات محيي الدين -ص ٣٠٤- (وتقرر إعداد مشروع قانون للانتخابات، ومشروع خاص بالجمعية التأسيسية، ومشروع قانون لتنظيم قيام الأحزاب السياسية، وشكلت لجان لإعداد هذه المشروعات من أعضاء المؤتمر المشترك..

وتقرر دعوة المؤتمر إلى اجتماع يوم السبت ۲۰ مارس، أي بعد انتهاء زيارة الملك سعود.

كان ذلك يوم الثلاثاء، ولكن في يوم السبت خرجت أخبار اليوم، وبها تصريح مثير للاهتمام أدلى به جمال عبد الناصر..

قال جمال: «نحن ثوار ولسنا سياسيين»!

وأثار هذا التصريح هواجسي، وسألت جمال عن مغزاه، ولماذا أدلى به في هذا الوقت بالذات وبعد كل ما توصلنا إليه من قرارات في المؤتمر المشترك؟

 فروى لي واقعتين:

الأولى: أن عددا كبيرا من ضباط الجيش وضباط الصف الثاني من الضباط الأحرار، زاروه وأبدوا قلقهم من الاندفاع نحو الديمقراطية، وإنهاء دور مجلس الثورة أو ما كانوا يسمونه “إنهاء الثورة”، وقال إنه خلال هذه المناقشات شعر بالورطة، ولم يجد حججا مقنعة لهؤلاء الضباط الغاضبين، وأحس أن الثورة سوف تنتهي، وأن الزمام سوف يفلت!

وأما الثانية: فهي أنه أثناء عودته هو وعامر من مقابلة للملك سعود احتشدت الجماهير حول عربته وهتفت للثورة، وحيتهما تحية حارة، وأحس جمال أنه يمتلك الآن سندا من الضباط، وأن الجماهير إذا كانت قد أيدت نجيب منذ أيام فإنها أيضا تؤيد الثورة واستمرارها، وارتفعت روحه المعنوية، وبدأ يعيد حساباته من جديد!

وثمة واقعة أخرى لا بد من وضعها في الاعتبار، فقبل زيارة الملك سعود مباشرة، وقعت ستة انفجارات دفعة واحدة في مدينة القاهرة، منها انفجاران في الجامعة، وانفجار في جروبي، وآخر في مخزن الصحافة بمحطة سكة حديد القاهرة! صحيح أنها لم تتسبب في خسائر مادية لكنها أثارت هواجس شديدة وسط الجميع حول مخاطر انفلات الوضع، ومخاطر إطلاق العنان دون قبضة حازمة للدولة، وبدأ البعض يستشعر أن الزمام يفلت، وأن الأمن غير مستقر، وأنه من الضروري إحكام قبضة النظام وإلا سادت الفوضى!

وقد روى لي بغدادي -وعاد فأكد ذلك في مذكراته- أنه في أعقاب هذه الانفجارات زار جمال عبد الناصر في منزله هو وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم ليناقشوا معه تطورات الأوضاع، وأبلغهم عبد الناصر أنه هو الذي دبر هذه الانفجارات لإثارة مخاوف الناس من الاندفاع في طريق الديمقراطية، والإيحاء بأن الأمن قد يهتز وأن الفوضى ستسود، وبطبيعة الحال فإن الكثيرين من المصريين لا يقبلون أن تسود الفوضى بصورة تؤدى إلى وقوع مثل هذه الانفجارات)!

وهكذا كان كل ما فعله السيسي بدعم أمريكي سعودي بانقلابه العسكري على الرئيس المنتخب مرسي سنة ٢٠١٣م وباسم الثورة والدفاع عنها، هو تماما استنساخ لما فعله جمال عبد الناصر سنة ١٩٥٤م بانقلابه على الرئيس محمد نجيب بدعم أمريكي سعودي، حذو القذة بالقذة!

وقال خالد -في ص ٣١٢- عن استمرار زيارة الملك سعود لمصر أثناء هذه الاضطرابات، والذي ظل موجودا حتى يطمئن على تنفيذ الترتيبات الأمريكية (كان الملك سعود لم يزل في مصر، وكنا ممزقين بين متابعة زيارته، والاحتفاء به، وبين محاولة حل خلافاتنا وإيجاد مخرج لهذه الأزمة الخانقة.

وفي ۲۷ مارس وكان يوم سبت حدثني نجيب تليفونيا ليدعوني للسفر معه ومع الملك سعود بالقطار إلى الإسكندرية، وذهبت، وكان هناك أيضا كمال الدين حسين، وما أن تحرك القطار نحو أول محطة في الطريق حتى أحسست بأن هواجسي التي سيطرت علي في الجلسة السابقة لمجلس الثورة كانت صائبة، وأن شعوري بأن هناك ترتيبا خفيا يجري إعداده كان صحيحا، فعلى كل محطة كان هناك حشد من الناس يهتف بحياة نجيب وحياة الملك سعود ثم يهتف: “تحيا الثورة.. ولا حزبية”!

وأحسست أن ثمة ترتيبا لهذا الأمر كله كانت الحشود متوسطة الحجم، حوالي مائتين في كل محطة، لكن الذي يؤكد الترتيب أن الشعارات كانت موحدة، فكيف يمكن التصديق أنه دون ترتيب خاص سرت هذه الشعارات وسط جميع المحتشدين في كل المحطات على طول الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية؟

وأعتقد أن «هيئة التحرير»، وأجهزة الدولة، والأمن كانت وراء هذه الحشود.

وتغير الموقف عندما وصلنا إلى الإسكندرية، فقد كان هناك حشدان.. حشد يهتف للنحاس وفؤاد سراج الدين، وحشد يهتف “تحيا الثورة ولا حزبية”..)!

«هيئة التحرير» التي كانت بمثابة التنظيم الشعبي الثوري الذي أسس بعد الثورة وقيام الجمهورية، كما قال محمد نجيب في مذكراته -ص ١٨٧- عن الإعلان عن «هيئة التحرير» في ٢٦ يناير كجبهة قومية موحدة، بعد حل الأحزاب في مدة المرحلة الانتقالية، حتى وضع الدستور الجديد وعودة الحياة الطبيعية!

وهي فكرة عبد الناصر طرحها في أكتوبر ١٩٥٢م، وأوكل للمفكر سيد قطب مهمة الإشراف والتوجيه الإعلامي لها!

ولهذا كان الإفراج عن الإخوان المسلمون يأتي في سياق تعزيز أمريكا لمركز جمال في مواجهة نجيب الذي قررت خلعه، كما قال محيي الدين -ص٣١٤-: (وحاول جمال أن يزيد من رصيده وأن يقوى صفوفه، فأفرج عن رشاد مهنا، وعن كل الضباط الذين سبق اعتقالهم، كما أفرج عن الإخوان المسلمين، وأفرج أيضا عن عدد من السياسيين..

وبدأت العجلة تدور..

وفي يوم ۲۸ مارس بدأت خيوط التدبير تتضح، فقد أضرب عمال السكة الحديد، وأضرب عمال النقل العام، واعتصموا مطالبين بإلغاء قرارات ٥ مارس ومطالبين باستمرار الثورة، وسارت مظاهرات تهتف «تسقط الديمقراطية.. تسقط الأحزاب»)!

إسقاط نجيب بالتدخلات الأمريكية السعودية:

وما ذكره خالد محيي الدين عن التدخل الأمريكي في هذه الأحداث، وعن وجود الملك سعود في تلك الفترة أكده الرئيس نجيب في مذكراته -ص ٢٥٦- حيث ذكر تفجر المظاهرات المفتعلة بالقاهرة ٢٧ مارس ١٩٥٤م أثناء زيارة الملك سعود للإسكندرية، واستقبال نجيب له، وكان مجلس قيادة الثورة قد حدد ساعة الصفر للانقلاب عليه وقت سفره للإسكندرية لاستقبال الملك سعود!

وقال نجيب عن تلك المؤامرة عليه وعلى الشعب المصري، في مذكراته -ص ٢٦١- (وفي ذلك اليوم جاءتني معلومات مؤكدة أن اتفاقا قد تم بين الأمريكان وبعض أعضاء مجلس الثورة على هذه المؤامرة، وأن قوات الاحتلال البريطاني وضعت في حالة استعداد، وأنها احتلت مواقع متقدمة على طريق السويس القاهرة للتقدم في حالة حدوث اشتباك مسلح لاحتلال القاهرة..

وقال خالد محيي الدين: أن صحفيا فرنسيا اسمه روجيه «استيفانو» من مجلة «لو نوفيل اوبزرفاتور» قال له إنه عرف بحكم صلته الوثيقة بالسفارات الأمريكية والبريطانية والفرنسية أن جمال عبد الناصر وبعض رفاقه أعطوا للأمريكان إشارة بالتساهل في توقيع اتفاقية الجلاء، وإدخال تركيا في حالة العودة إلى القاعدة، وذلك ثمن لتأييدهم في المعركة ضد نجيب..

وبعد أن استعرضت كل ما حصلت عليه من معلومات، حسمت أمري وقررت عدم اللجوء إلى القوة، ورفض اعتقال مجلس الثورة، وعدم تحريك القوات، وترك الأمور كلها للشعب، وكان الشعب معي..

ولكن كان صوت الغوغاء أعلى من صوت الشعب، وأثناء مناقشات مع الضباط حضر إلى منزلي سليمان حافظ ود. السنهوري وعبد الرحمن عزام، وتوسعت المناقشة..

وعندما انتهت المناقشة مع الجميع أيقنت أنني أمام أحد أمرين:

١- إما استخدام القوة العسكرية.

٢- وإما الاستقالة.

وأحمد الله أنني اخترت الاستقالة فقد جنبت البلاد الانقسام..

وقد جرت تلك الأحداث المؤسفة على مسمع ومشهد من الملك سعود، الذي كان يقيم في قصر الطاهرة المخصص لكبار الزوار.

وحاول الملك سعود التدخل لحل الأزمة، فاتصل بي تليفونيا ورجا أن أحضر لمقابلته فرحت إليه، واستدعينا من عنده جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ود. السنهوري فحضروا بعد منتصف الليل تقريبا..

وكما كتبت من قبل: كان الاجتماع هادئا ومرهقا معا، لم أستطع النظر في وجه جمال عبد الناصر وعبد الحكيم، كنت أرى على وجهيها قناع إبليس، ومن أيديها تقطر الدماء، كنت منهكا كملاكم في الجولة الثانية عشرة.. لم أهزم بالضربة القاضية، ولكن هزمت بالنقط بعد كفاح طويل، فقد كانت نقابة المحامين ما زالت تعلن عن الإضراب، وطلبة الجامعة يعقدون مؤتمرا يؤيدون فيه الاتجاه الديمقراطي، وهيئات التدريس في الجامعات أصدرت بيانات تؤيد الديمقراطية والحياة النيابية، ولكني واثق أن قوات الجيش الموالية لمجلس الثورة يمكن أن تتحرك لإطلاق الرصاص على أية هيئة إذا تعرضت خطتهم السوداء للفشل.

قلت للملك سعود: لقد وصلت الأمور إلى نقطة الافتراق، ولم يعد هناك سبيل للتفاهم مع أعضاء مجلس الثورة بعد أن تآمروا علي وعرضوا سلامة مصر إلى الخطر.

بعد لحظات من الصمت أعلنت قراري هو الاستقالة!

وفوجئت بجمال عبد الناصر يعارض هذا القرار، ويصر على عدم الاستقالة، ولم أشهد إصرارا من جمال عبد الناصر على معارضة هذا القرار مثلما شاهدت هذه الليلة، وكان يؤكد إصراره هو وزملائه على بقائي معهم رئيسا للجمهورية ورئيسا لمجلس الثورة، وكنت أصر على الرفض رفضا مطلقا، واستمرت المناقشات ساعات حتى وصل إلينا صوت المؤذن للصلاة صلاة الفجر من المسجد القريب، وكانت الأعصاب أنهكت، والأفكار جمدت، والجسم أصابه الإرهاق وتحت إلحاح الجميع قبلت البقاء في موقعي إنقاذا لمصر ومنعا للحرب الأهلية..

ورحت أودع الملك سعود، في نفس اليوم، في المطار، وراح معي جمال عبد الناصر وباقي أعضاء مجلس الثورة، وصعدت سلم الطائرة مبالغة في تكريم الملك سعود، فظن بعض أعضاء المجلس أنني أنوي الهروب إلى السعودية، ففوجئت بمن يشدني من ثيابي، فأحسست بجانب الإرهاق العصبي والنفسي والجسدي، الذي كنت أعانيه، بطعنة في صدري، وتكاتفت كل هذه العناصر علي، حتى سقطت من طولي، وأسرع أطباء القوات الجوية، ومنهم د. رجب عبد السلام لإسعافي ونقلت من المطار إلى البيت، وكان معي جمال عبد الناصر، وكان يبدو وكأنه مضطرب، يعاني من خوف على صحتي، ودخل حجرة نومي وتمنى لي الشفاء العاجل، كل ذلك ليقنع الناس أنه بريء مما حدث أو مما قد يحدث لي!

وفي اليوم التالي، بدأ عبد الناصر في تصفية حساباته مع الجميع، على ضوء هذه الأزمة، لقد بدأ مجلس الثورة في تتبع القوى السياسية وأخذ يصفيها بالقوة، وبالاعتقال، وبالمحاكمات الصورية، وبقيت في الفراش ثلاثة أسابيع أتابع ما يحدث من الجرائد.

وفي ١٥ أبريل قرر مجلس الثورة:

١- تطهير الصحافة.

٢- منح سلطات للمسئولين في الجامعات لضمان انتظام الدراسة فيها.

۳- البحث في إصدار قانون لحماية الثورة والأسس التي يقوم عليها المجلس القومي أو الوطني..

واعتقل عدد كبير من الضباط الإخوان في الجيش، ولم يلبث أن دفع الإخوان ثمن تأييدهم لعبد الناصر، في أزمة مارس عندما دبر ما سمي بحادث الاعتداء عليه في المنشية يوم ۲٦ أكتوبر، واتهم فيها محمود عبد اللطيف!

ففي ١٩ أكتوبر وقع النص النهائي لاتفاقية الجلاء، وظهر في هذه الاتفاقية ما سبق أن قيل حول العلاقة بين التخلص مني، وبين توقيع الاتفاقية، ونصت على السماح للقوات البريطانية بالعودة للقناة في حالة الهجوم على تركيا، عضو حلف الأطلنطي، وهو الأمر الذي يجعل مصر ترتبط عمليا بالأحلاف، وكان ثمنا فادحا دفعه الموافقون وعلى رأسهم جمال عبدالناصر للاستعمار!

وقارنت بين رفضي لمجاراة الأمريكان في آرائهم أو عروضهم، بينما ظلت الأبواب مفتوحة بينهم وبين عبد الناصر يدخل منها المسئولون وعملاء المخابرات الأمريكية، وتعقد خلال ذلك الصفقات السياسية المريبة، وأرسلت مذكرة بآرائي في اتفاقية الجلاء، ووصلت المذكرة إلى الإخوان المسلمين الهيئة الوحيدة المنظمة والمصرح بوجودها عن طريق لا أعرفه، فقاموا بطبعها وتوزيعها منشورا، وبينما يلقى جمال عبد الناصر خطابا في المنشية في ٢٦ أكتوبر، احتفالا بتوقيع الاتفاقية، أطلقت عليه عدة رصاصات، وسط ۱۰ الآف شخص في السرادق، واتهم محمود عبد اللطيف..

وكانت هذه المسرحية المدبرة محاولة لتحويل عبد الناصر إلى بطل شعبي، ومحاولة لينسى الناس عوار اتفاقية الجلاء، ثم هي فرصة ليتخلص عبد الناصر من القوة الوحيدة الباقية وهي الإخوان!

فقد اعتقل الإخوان، وشكل في أول نوفمبر محكمة الشعب برئاسة جمال سالم وعضوية أنور السادات وحسين الشافعي لمحاكمتهم، وبلغ عدد الذين حوكموا أمامها ۸۹۷ وعدد الذين حكمت عليهم ۲٥٤ وحكم بالإعدام على سبعة من كبار المتهمين، في ٤ ديسمبر، وهم محمود عبد اللطيف، ويوسف طلعت، وإبراهيم الطيب، وهنداوي دوير، والشيخ محمد فرغل، وعبد القادر عودة، وحسن الهضيبي، الذي خفض الحكم عليه إلى المؤبد.

أما أنا فقد تلقيت وعدي في ١٤ نوفمبر، في ذلك اليوم توجهت إلى مكتبي في القصر الجمهوري، فوجدت بعض ضباط البوليس الحربي على باب القصر..

واتصلت بعبد الناصر فقال: سوف أرسل لك عبد الحكيم وحسن إبراهيم، وعندما جاء عامر وحسن إبراهيم قالا لي في خجل وبصوت خافت: إن مجلس الثورة قرر إعفاءكم من منصب رئيس الجمهورية.

وهنا قلت: أنا لن أستقيل الآن لأني بذلك سأصبح مسئولا أمام التاريخ عن ضياع صلة السودان بمصر.

أما إذا كان الأمر إقالة فمرحبا لأنكم تعفونني من مسئولية لم يعد ضميري يحتملها.

وخرجت معهما حاملا المصحف وحده من المكتب، وركبت مع حسن إبراهيم عربة اتجهت بي إلى المرج، إلى منزل كان استراحة ريفية لزينب الوكيل، ثم وضعت تحت الحراسة.

وقال لي عامر: إن إقامتك في المرج لن تزيد عن بضعة أيام، ولكن إقامتي في المرج استمرت من نوفمبر ١٩٥٤م إلى أكتوبر ۱۹۸۳م..).

الانقلاب وحل الأحزاب:

وقد ذكر نجيب -في ص ١٦٨- تعاون الإخوان مع جمال واشتراطهم عليه أن لا يَصدر قرارٌ إلا بعد مشاورتهم، وذكر هجومهم على الحياة النيابية البرلمانية وهو كل ما كان يحتاجه الانقلاب العسكري!

كما ذكر -في ص ١٦٩- إصراره هو على خضوع الإخوان لقانون تنظيم الأحزاب، ورفض جمال ذلك لوقوف الإخوان مع الثورة، ولأنهم ليسوا حزبا، وزيارة جمال والهضيبي لوزير الداخلية سليمان حافظ بهذا الخصوص!

وقد ذكر قبل ذلك -في ص ١٧٢- اضطرابات كفر الدوار في أغسطس ١٩٥٢ وتظاهرات عمال المصنع، وقتل عدد من الشرطة، وإلقاء القبض عل عدد من المتظاهرين وإعدامهم، وهو ما أيده الإخوان، كما أكده خالد محيي الدين!

بينما انقلب موقف الإخوان بعد إلغاء الملكية وطرد الملك، الذي ظل الهضيبي يرفع صورته في غرفته حتى بعد الثورة وخلعه، كما لاحظ ذلك محمود الصباغ في –ص 58- «التصويب الأمين»!

وقد ذكر نجيب -في ص ١٧٩- تداعيات إعلان قرار حل الأحزاب في يناير ١٩٥٣م، وإنهاء الملكية والبدء بالمرحلة الانتقالية لمدة ٣ سنوات لوضع دستور جديد، حيث يقول: (هاجمتنا بلا هوادة، وبلا رحمة، الصحف الحزبية، بمختلف اتجاهاتها: الوفد، الإخوان، الشيوعيون، وغيرهم، وراحوا يقللون من الثورة، ويشككون في خطواتها، ويدعون الناس لإسقاط من هم على رأسها.

وتحول كلام الصحف إلى مؤامرات صغيرة لتحريك طلبة الجامعة، وتحريض العمال، وتهييج المصلين في المساجد، وكان ذنبنا هو أننا طردنا الملك!

ونحاول القضاء على آثاره التي خلفها وراءه!

كان الوفد في ذلك الوقت هو أقوى الأحزاب، وكان زعيمه مصطفى النحاس محبوبا من الجماهير، لكن كان حوله مجموعة من الأشخاص غير المحبوبين، والذين أحسوا أن فرصتهم مع الثورة كانت أقل من فرصتهم معه، فتحمسوا لكل من يسعى للتخلص منها وتضامن مع الوفد الشيوعيون!

ومن جهة أخرى ساهم الإخوان في الحملة!

ورغم ذلك اعتبرنا الإخوان جماعة، فلم يشملها قرار الحل، على أمل أن تدعم الثورة من خلال «هيئة التحرير» التي شكلت لملء الفراغ بعد حل الأحزاب السياسية.

وبرغم كل ذلك، لم أكن متحمسا لهذا القرار، وكالعادة كان يقود الحملة من أجل إصداره سليمان حافظ، وكالعادة أيضا وافقت عليه الأغلبية في مجلس القيادة، فلم أجد مفرا لإعلانه!

وفي الوقت الذي كان يحدث فيه كل هذا خارج الجيش، كان بعض الضباط في داخله يتحركون للقضاء علينا، وهؤلاء الضباط هم الذين اتهموا فيها سمي بانقلاب المدفعية) انتهى كلام نجيب وهو يؤكد بأن استثناء الإخوان من الحل في تلك الفترة كان هدفه شق صف الشعب المصري، وإيجاد قوة شعبية تقف خلف الانقلاب في وجه الأحزاب المصرية.

هذا مع مشاركة الإخوان قبل ذلك في وضع الدستور الجديد، كما ذكر نجيب -في ص -١٩١، حيث جرى في ١٣ يناير ١٩٥٣م تشكيل لجنة وضع الدستور الجديد من ٥٠ عضوا، يمثلون كبار رجال الدستور من الوفد ومن الإخوان (عبدالقادر عودة وصالح عشماوي وحسن العشماوي) والحزب الوطني والضباط الأحرار، وأقرت اللجنة مشروع الدستور الجديد والنظام الجمهوري في أغسطس ١٩٥٤م وفي ١٨ يونيو ١٩٥٣م جرى الإعلان عن إلغاء الملكية، والإعلان عن قيام الجمهورية برئاسة نجيب وفق الدستور المؤقت الصادر في ١٠ فبراير ١٩٥٣م، وقد ذكر نجيب -في ص ١٩٨- قسمه أمام مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة على تولي الرئاسة بتاريخ ٢٣ يونيو ١٩٥٣م وخطبته في الجماهير بخطبة أبي بكر الصديق من شرفة قصر عابدين وجمال يأخذ القسم والبيعة له من الحشود!

وبعد أن رسخت أقدام الانقلاب العسكري، واستقوى النظام الجديد، واستغنى عن دعم الإخوان قلب لهم ظهر المجن!

فصدر قرار من مجلس الثورة بحل الإخوان المسلمين في ١٢ يناير ١٩٥٤م، بعد سنة من حل الأحزاب، كما ذكر نجيب ص ٢١٨، وجرى اعتقال ٤٥٠ عضو من الجماعة بتهمة الاتصال بالإنجليز، ورفض نجيب ذلك، وقدم استقالته!

ثم تراجع نجيب عن استقالته، وعاد للرئاسة كما في مذكراته -ص ٢٣٧- بتاريخ ٢٨ فبراير ١٩٥٤م، وخطب عبدالقادر عودة بالجماهير مرفوعا على الأكتاف أمام شرفة قصر عابدين مؤيدا ومؤازرا لنجيب!  

 وقد أرسل الهضيبي رسالة من سجنه إلى نجيب بعد عودته للرئاسة يذكر له ما تعرض له الإخوان من ظلم كما ذكر نجيب -ص ٢٤٣-.

فلما خرج الهضيبي من السجن وقف مع جمال عبد الناصر ضد عودة الأحزاب، كما في مذكرات نجيب -ص٢٥٣- حيث قال -أي الهضيبي-: (إننا الآن أقوى مما كنا!

ووقع الإخوان في الفخ الذي نصبه لهم جمال عبد الناصر، فقد كان الإخوان هم القوة المرجّحة لفوز إحدى القوتين المتنازعتين في هذه المرحلة: قوتي وقوة عبد الناصر، وكان على عبد الناصر أن يستميلهم إلى جانبه، فإذا ما كسب معركته معي، وسيطر على الحكم استدار عليهم، وتخلص وهذا ما حدث فعلا.

لقد اشتراهم عبد الناصر ليبيعني، ثم باعهم واشترى السلطة المطلقة!

إن خطأ الإخوان في هذا الموقف كان خطأ إستراتيجيا؛ لأنهم تصوروا أن القضاء على الأحزاب كان لصالحهم، بحيث يصبحون الحزب الوحيد، والقوة الوحيدة، ولم يدركوا ببساطة حكاية العصا الوحيدة التي يمكن كسرها، ومجموعة العصي التي لا يمكن كسرها معا، والتي كنا نسمعها ونحن أطفال، ولا نزال نرويها لصغارنا إلى الآن منهم.

والدليل على ذلك أنهم انتهوا إلى السجن والتعذيب والتشريد عندما وصل عبد الناصر إلى الحكم، بينما كان موقفهم في تلك الفترة، ضد الأحزاب، وضد تعدد الآراء حتى أن أحد قادتهم قال للصحف يوم ۲۷ مارس: وفيما يختص بعودة الأحزاب السياسية أملنا ألا يعود الفساد أدراجه مرة أخرى، لأننا لن نسكت على هذا الفساد، بل ولن نؤيد الشعب مجاملة، ولن نطلب تأليف أحزاب سياسية لسبب بسيط هو أننا ندعو المصريين جميعا لأن يسيروا وراءنا ويقتفوا أثرنا في قضية الإسلام.

أي أن الإخوان ظلوا على مواقفهم القديمة، ولم يتعلموا من درس حلهم، ولا من درس وضع قادتهم في السجن، وقرروا أنهم ضد الحياة النيابية، ومع العسكرية!

وقد سبق أن حاول الإخوان إقناعي بمثل هذا الكلام، لكني رفضت!

كان ذلك في ديسمبر ۱۹٥٣م.

وقد سبق أن رويت تفاصيل ما حدث، وقلت:

ولقد حاول الإخوان المسلمون الاتصال بي في ديسمبر ۱۹٥٣، عن طريق محمد رياض، الذي اتصل به حسن العشماوي ومنير الدلة وطلبوا أن تتم مقابلة سرية بيني وبينهم… وطلبوا أن أفوض مندوبا عني للتباحث معهم. فوافقت وعينت محمد رياض ممثلا عني للاجتماع بهم بعد أن زودته بتعليمات، واجتمع محمد رياض مع ممثلي الإخوان المسلمين: حسن العشماوي ومنير الدلة عدة مرات.

وأوضح لهم رياض رأيي في إنهاء الحكم العسكري الحالي، وعودة الجيش إلى ثكناته وإقامة الحياة الديمقراطية البرلمانية، وعودة الأحزاب، وإلغاء الرقابة على الصحف، ولكنهم لم يوافقوا على ذلك وطالبوا ببقاء الحكم العسكري الحالي، وعارضوا عودة الأحزاب وإقامة الحياة النيابية كما عارضوا إلغاء الأحكام العرفية، وطالبوا باستمرار الأوضاع كما هي على أن ينفرد نجيب بالحكم وأن يتم إقصاء جمال عبد الناصر وباقي أعضاء مجلس الثورة! وأن تشكل وزارة مدنية يشترك فيها الإخوان المسلمون، ولكن يتم تأليفها بموافقتهم، وأن يعين رشاد مهنا قائدا عاما للقوات المسلحة! وأن تشكل لجنة سرية استشارية يشترك فيها بعض العسكريين الموالين لي، وعدد مساو من الإخوان المسلمين، وتعرض على هذه اللجنة القوانين قبل إقرارها، كما يعرض عليها السياسة الرئيسية للدولة، وكذلك يعرض عليها أسماء المرشحين للمناصب الكبرى، كأن الإخوان المسلمين بذلك يريدون السيطرة على الحكم دون أن يتحملوا المسئولية!

وقد رفضت هذه الاقتراحات جميعها، وانتهت هذه المفاوضات السرية التي كانت بين محمد رياض والإخوان المسلمين.

وقد تعرض محمد رياض للمتاعب بعد ذلك عندما قال الصاغ حسين حمودة وكان من الإخوان المسلمين أمام محكمة الشعب أثناء محاكمته في شهر نوفمبر ١٩٥٤م: أن اتصالا سريا تم بيني وبين الإخوان بواسطة محمد رياض، وذكر أمام المحكمة آرائي التي نقلها محمد رياض لحسن عشماوي ومنير الدلة والتي ذكرتها سابقا، وصدر أمر بالقبض على محمد رياض بتهمة تدبير انقلاب عسكري مع الإخوان المسلمين، ولكنه استطاع الهرب إلى المملكة السعودية بالطائرة وطلب اعتباره لاجئا سياسيا،  وتمت مقابلة بينه وبين جمال عبد الناصر في جدة سنة ١٩٥٦م، عاد بعدها محمد رياض في سنة ١٩٥٨م، وفي عام ١٩٦٨م اعتقل محمد رياض مرة ثانية بتهمة تدبير مؤامرة ضد جمال عبد الناصر، وأفرج عنه بعد أن توسطت إحدى البلاد العربية، إلا أن الإخوان في لقائهم مع جمال عبد الناصر لا بد أنهم يفكرون بعقلية المعتقل الذي تحرر من سجنه، ويريد أن يوازن بين أموره دون تورط، وكان ذلك إيذانا بانتهاء دورهم!

وكما قلت قبل ذلك: اقترح محمد رياض معاودة الاتصال بالإخوان المسلمين الذين وقفوا بجانبي عند استقالتي، فحذرته من ذلك لفقدان الثقة في اتجاه بعض زعمائهم ومعارضتهم قيام الأحزاب والحياة الديمقراطية!

وعاد محمد رياض في اليوم التالي ليبلغني أنه أرسل رسولا إلى حسن الهضيبي، هو الآن سفير مصر في إحدى الدول الإفريقية وهو السفير رياض سامي يستفسر منه عن حقيقة موقف الإخوان واستعدادهم للخروج في تظاهرات شعبية عند الضرورة!

وقال حسن الهضيبي أنهم لم يتدبروا أمرهم بعد، وإنهم يفضلون الانتظار والهدوء حتى يتم الإفراج عن كافة المعتقلين، وقد كان هذا موقف مكتب الإرشاد للإخوان المسلمين، أما جماهير الإخوان التي خرجت لتأييدي في فبراير بعد استقالتي في مظاهرات ضخمة لم تشهد مصر مثلها، هذه الجماهير التي واجهت نيران الشرطة والبوليس الحربي وخرجت تهتف بعودتي وقت أن كانت قيادة الإخوان في المعتقلات، هذه الجماهير لم توافق مكتب الإرشاد على هذه السياسة بل احتل بعض شباب الإخوان المسلمين مركز الإخوان احتجاجا على ذلك، وكان هذا بداية الانقسام في الإخوان المسلمين الأمر الذي ساعد في القضاء عليهم، إني بمنتهى الصراحة لم أتصور أن يغير الإخوان موقفهم ويؤيدوا جمال عبد الناصر!

ومع ذلك، كان ما فعله عبد الناصر، هو أهم ضربة سياسية في حياته، ولولاها ما وصل إلى الحكم) انتهت شهادة محمد نجيب حول تلك الأحداث، وهو يؤكد بأن هناك دائما فجوة بين جماهير الإخوان التي تقف عادة مع شعبها، والقيادة التي تخضع دائما لتفاهمات سرية مع النظام الوظيفي والنظام الدولي كما حدث في كل بلد عربي وما يزال! 

وما أشبه انقلاب السيسي ٢٠١٣ الذي جاء بعد سنتين من تفاهم الجيش مع الإخوان بعد إسقاط حسني مبارك -وتفاهمهم مع أمريكا من وراء الكواليس، حتى بلغ بهم الأمر أن أحاطوا سنة ٢٠١٢م بدروع بشرية للدفاع عن المجلس العسكري ومؤسسات النظام الأمنية حتى لا يقتحمها الثوار- بانقلاب عبدالناصر على نجيب والإخوان سنة ١٩٥٤م بعد تحالفهم معه ضد الأحزاب الأخرى وعودة الحرية والحياة النيابية!

لقد وقف الإخوان المسلمون مع «الضباط الأحرار» وانقلابهم العسكري، ومع كل ما اتخذوه من إجراءات بما في ذلك حل الأحزاب وتعطيل الحياة النيابية، كما قال خالد محيي الدين في مذكراته ص ٢١١ حيث يقول: (أغلب من أحاطوا بالثورة من مستشارين ومن قوى سياسية كانوا يعملون جميعا من أجل استمرار العسكريين في الحكم، وضد الديمقراطية والبرلمان!

قلت: إن السنهوري وسليمان حافظ وفتحي رضوان كانوا يشجعون الضباط على تحدي الدستور والديمقراطية بحجة أنها ثورة! وأن للثورة قانونها الخاص! كذلك كان الدكتور سيد صبري أستاذ القانون الدستوري يشجع في هذا الاتجاه أيضا، ويقول: إنه لا مبرر للتمسك بالنصوص، وأن البلد في وضع ثوري وبحاجة إلى خطوات ثورية وإلى فقه ثوري.

والإخوان المسلمون كانوا يشجعون هذا الاتجاه كذلك، ربما بأمل ضرب كل القوى السياسية الأخرى، ثم بعدها يتمكنون من احتواء الثورة، ناسين أن افتقاد الديمقراطية قد ينقلب وبالا عليهم، وقد انقلب بالفعل وبالا عليهم وعنفا ضدهم!

وكان يصب في هذا الاتجاه أيضا أن الجماهير الشعبية لم تكن تحترم الحياة الحزبية السابقة، وكانت تشعر بما فيها من فساد وتحلل، وقد اندفعت هذه الجماهير في تأييد الثورة تأييدا مذهلا، خاصة بعد طرد الملك، وصدور قانون الإصلاح الزراعي، والحديث المتصاعد ضد الاستعمار..

وبدأ أساطين القانون الدستوري يدبجون للثورة نصوصا تمكنها من التلاعب بالحياة الحزبية، ويرسمون لها خطوات ماكرة أربكت الأحزاب التي كانت مرتبكة بذاتها وضعيفة وعاجزة عن ممارسة أي فعل يمتلك صفة الاعتراض أو المقاومة.

ففي البداية قالوا: إنه يتعين على الأحزاب أن تطهر نفسها، وتجهد الأحزاب نفسها في تطهير صفوفها وتتصادم داخليا، ويطرد البعض البعض الآخر بأمل الفوز بقبول ما تم فيها من تطهير، ثم تكتشف أن الثورة ترى أن هذا التطهير غير كاف، ثم يسن قانون ملتو ومليء بالمخارج والثغرات يطلب إلى الأحزاب أن تتقدم إلى وزير الداخلية بطلب إشهارها من جديد، ويعطي لوزير الداخلية حق الاعتراض على أي من المؤسسين، وبالفعل تم الاعتراض على مصطفى النحاس، وكان هذا الاعتراض خطوة مبالغا فيها، فقد كان مصطفى النحاس بكل المعايير زعيما وطنيا مرموقا، وارتبك الوفد أكثر فأكثر، فتارة يعلن أنه يرفض الاعتراض على النحاس ويتمسك به، وتارة يعلن أنه سيقبل الاعتراض، وانقسم الوفديون!

وهكذا أدى الخبراء الدستوريون الذين اشتهروا للأسف بأنهم ليبراليون دورهم في مناوأة الدستور والحياة النيابية بمهارة فائقة..

والحقيقة أن الموج المعادي للديمقراطية كان عاليا ومستندا إلى عوامل عديدة، ولم تكن هناك مقاومة سياسية أو طبقية تذكر، فقط كانت هناك بعض التحركات في الجامعة، لكن الجامعة وحدها لا تكفي إذا لم يكن هناك تجاوب جماهيري معها.

ويمكنني أن أقول وبضمير مرتاح إن محمد نجيب كان في هذه الفترة من أكبر المتحمسين لانفراد مجلس الثورة بالسلطة، كل السلطة، وكانت هذه وجهة نظر العديد من الضباط، لكن نجيب يتحمل مسئولية كبرى فقد كان يدفع الأمور دفعا في هذا الاتجاه مستندا إلى موقعه كرئيس لمجلس قيادة الثورة، كذلك يتحمل مسئولية أساسية في ذلك جماعة الإخوان المسلمين، الذين حرضوا وواصلوا التحريض ضد الحياة النيابية والأحزاب السياسية بأمل أن يفرضوا سيطرتهم على الثورة، لكن الأمور انقلبت عليهم)!

موقف الإخوان من قرار حل الأحزاب:

لقد كان حل الأحزاب في مصر -بعد انقلاب الضباط الأحرار- وتعطيل الحياة النيابية البرلمانية قرارا أمريكيا بعد أن بات الضغط الشعبي خلالها يمثل خطرا على الوجود الأجنبي الغربي، فكان الانقلاب العسكري هو الحل، ليقوم هو وباسم الشعب والثورة بتعطيل الحياة النيابية وحل الأحزاب السياسية، وكان ذلك القرار الخطير يحتاج إلى قوة شعبية تقف خلفه، فكانت الإخوان المسلمون! كما قال الصباغ -في التصويب الأمين ص ٥٥-: (أعلنت حكومة الثورة قانون الأحزاب في وقت كانت لا تزال العلاقة بين قيادة الثورة وقيادة الإخوان المسلمين طيبة.. وقد أعلن فضيلة المرشد العام أن القانون ينطبق على الإخوان المسلمين …

وكان هذا القانون ينص من بين فقراته على أن ينتخب كل حزب رئيسه، وأن مدة الرئاسة لأي حزب لا تزيد على عامين يتعين بعدهما أن ينتخب الحزب رئيسا جديدا….

وبوضوح هذا القرار اجتمعت قيادة النظام، وقد كنت لا أزال رئيسا لها بالنيابة، ودرست الموقف وخرجت بنتيجة محددة، هي أن فرصة تطبيق قانون الأحزاب على جماعة الإخوان المسلمين هي فرصة مواتية لكي يخفف الإخوان هذا العبء الثقيل على المرشد العام …

عدول جماعة الإخوان المسلمين عن فكرة اعتبارها حزبا:

حدث أن أعاد جمال عبد الناصر إلى جماعة الإخوان المسلمين أوراق طلب اعتمادها كحزب سياسي في مصر، وأسر إلى ممثلها بأنه يعتزم حل الأحزاب السياسية، ولا يريد أن يحل جماعة الإخوان المسلمين معها في قرار واحد.. فاجتمعت الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين واتخذت قرارا باستمرارها هيئة مع عدم التقدم إلى الحكومة لاعتبارها حزبا ينطبق عليه قانون الأحزاب.

وبصدور هذا القرار من الهيئة التأسيسية [[للإخوان المسلمين] أصبح اقتراح قيادة النظام الخاص غير ذي موضوع، فقد بنى أساسا على أن الجماعة سينطبق عليها قانون الأحزاب، ومن ثم فإن مرشدها العام سوف يتغير كل سنتين… ولكن الوضع القانوني للهيئة عاد إلى الوضع السابق على إصدار قانون الأحزاب، ومن نصوصه أن مدة بقاء المرشد العام للهيئة هي مدى الحياة).

وقد ذكر حسن العشماوي أحد قيادات الإخوان وحلقة الوصل بينهم وبين الضباط الأحرار في مذكراته بأن جمال  قد أسرّ له بعزمه على حل الأحزاب نهائيا، حيث قال: (ولم يخف عني عبد الناصر أن قانون تنظيم الأحزاب ليس إلا خطوة نحو إلغائها، فحرصنا معا على أن لا ينطبق على هيئة الإخوان المسلمين، وقد بذل عبد الناصر في هذا السبيل جهدا لا أنكره، برغم معارضة بعض زملائه له، وبرغم ما وجد في هذا من متاعب من الإخوان أنفسهم الذين لم يكن لزاما علي أن أبلغهم واحدا واحدا بما أسره إلى عبد الناصر من عزمه على إلغاء الأحزاب القائمة نهائيا)!

فرح الإخوان بنجاح الانقلاب والخلاف بين قياداتهم حول الموقف منه:

قال الصباغ في التصويب الأمين -ص ٨٣ -: (كان طبيعيا أن يفرح الإخوان كافة بنجاح الانقلاب.. لأن كل فرد منهم سواء المدنيين أو العسكريين قد أسهم بنصيب في إنجاحه، فعم البشر جميع تشكيلات الإخوان المسلمين لزوال عهد سبق أن غدر بهم فطعنهم من الخلف أن يفرحوا كل هذا الفرح وهم لا يدرون شيئا عما يدور وراء الكواليس من خلاف عميق بين قيادتهم وبين قيادة الانقلاب أدى إلى فقدان ثقة قيادة الإخوان بقيادة الانقلاب عند أول لقاء وقع بين فضيلة المرشد العام وجمال عبد الناصر في اليوم السابع من نجاح الانقلاب.

وقد ساعد إخفاء هذا الخلاف عن جماهير الإخوان على استمرار تعاطف أعداد كبيرة من الإخوان مع الثورة وهي لا تعلم شيئا عن تغيير رأي المرشد العام في قيادة الثورة.. هذا التغيير المفاجئ الذي لم تسبقه أي مقدمات معلنة…

كما ذكر الصباغ الخلاف بين قادة الدعوة وقادة الثورة، قال –ص 84-: (مما يذكر أن أول لمحة لوجود شيء غامض بين قيادة الإخوان وقيادة الثورة، كانت من رهط من قدامى الإخوان جمعهم حرصهم على الدعوة من أن تضيع مجهوداتهم لإنجاح الانقلاب هباء إذا ما ساءت العلاقة بين الحكومة والإخوان.

وإنني أشهد أنني كنت واحدا من هذا الرهط لم يجمعنا التنظيم السري ولكن جمعتنا إرادتنا في دفع سياسة الجماعة إلى ما يمكنها من الاستفادة من نجاح الانقلاب لتحقيق هدفها في توجيه الحكومة إلى الحكم بشريعة الإسلام.. باعتبارنا من أبناء هذه الدعوة ولقادتها علينا حق النصيحة شرعا.

وإنني أذكر أننا كنا حوالي عشرين رجلا نجتمع بدار الكتاب العربي في الأيام الأولى للثورة لنفكر في أثر بعد المرشد العام عن القاهرة رغم وقوع هذا الحدث الخطير، واستمرار صمت الجماعة عن إعلان علاقتها بهذا الانقلاب الذي لم ينجح إلا بسواعد الإخوان، وتقديمهم جميعا أنفسهم فداء للتخلص من عهد فاروق الذي تجسدت في آخر أيامه خيانة مصر والعروبة، وتعرضت فيه الجماعة للحل والقتل والحبس والاعتقال والتعذيب والمصادرة…

 كنا نخشى مغبة استمرار بقاء المرشد العام بالإسكندرية وصمت الإخوان عن إعلان دورهم في الانقلاب، وعلاقتهم به، في الوقت الذي نشرت فيه كل الأحزاب السياسية في مصر تأييدها للانقلاب.. كنا نخشى أن يؤدي ذلك إلى سوء العلاقات بين الثورة والإخوان، ولما ينقضي على تضحية الإخوان لإنجاح الانقلاب إلا أيام قلائل.. فلما اقتربنا من اليوم الخامس دون أن يظهر ما يبين للناس دور الإخوان في هذا الانقلاب وعلاقتهم به قررنا أن نذهب مجتمعين إلى المركز العام لنطالب السكرتير العام الموجود في القاهرة وهو الأخ الكريم الأستاذ عبد الحكيم عابدين بضرورة أن يصدر المركز العام بيانا لتوثيق العلاقة بين الثورة والإخوان.. حيث لا يجوز أن ينفك وثاق متين أراده الله بين الجماعة وبين الحكومة لمجرد إهمال من المسئولين في المركز العام في واجباتهم، ولم نكن نرى أن غياب المرشد العام في الإسكندرية يصلح أن يكون سببا للوقوع في هذا الخطأ الكبير.. فما أقرب الإسكندرية إن كان لنا بها حاجة ملحة.

ولم يملك الأخ عبد الحكيم عابدين إلا أن يسلم بصحة منطقنا، فأمسك القلم على الفور وبدأنا جميعا نتعاون في إعداد صياغة أول بيان يصدر من جماعة الإخوان المسلمين يعلن للناس بأن الثورة هي ثورة الإخوان! ويعلم الإخوان بأن الثورة هي ثورتهم، وقد طابت نفوسنا جميعا لصدور هذا البيان ونشره في الصحف، ونحن لا ندري شيئا عما يدور وراء الكواليس من خلافات بين حكومة الثورة وقيادة الإخوان.. هذه الخلافات التي تفاقمت تدريجيا وانتهت بحل الإخوان، واعتقالهم، وتعذيبهم، وقتلهم دون رحمة أو عدل أو وفاء.

وهكذا أدت السلبية الرابعة لمعارك ١٩٤٨م إلى تدمير كل ما جناه الإخوان من نصر في هذه المعارك، ثم وقوعهم تحت نير حكام طغاة مستبدين.. لم يكن أحد من قادة الإخوان يجهل أن هذا سيكون مآل هؤلاء الحكام الذين أسهموا في تسليمهم قيادة مصر، وتقديم إخوانهم فداء لنجاح الانقلاب دون اتخاذ الضمانات الكافية لمنع هذا الطغيان الكبير الذي أوقع مصر كلها فيما تعانيه حتى ليوم من مصاعب سياسية، واقتصادية، وهزائم عسكرية لم يسبق لها في هذا البلد الطيب مثيل من قبل.. ولله عاقبة الأمور).

وقال الصباغ في ص ٩٩ عن عجز الجماعة عن (أي مقاومة في حالة صدام الثورة بها.. حيث كان إخوان الدعوة العامة القدامى أمثال صالح عشماوي، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، وأنس الحجاجي، والدكتور محمد سليمان لا يدخرون جهدا في توضيح عدم ثقتهم بالمرشد العام، وكان المرشد العام لا يدخر جهدا في توضيح عدم ثقته بالثورة، وكانت قيادة الثورة تحاول أن تستفيد من هذا الموقف بمحاولة احتواء من يعلنون عدم ثقتهم بالمرشد).

وذكر الصباغ في تصويباته دور الإخوان في حماية الثورة (الانقلاب) فقال -ص72-: (اتفق الإخوان الذين أسندت إليهم أمانة الحفاظ على مستقبل الدعوة، والذين يغامرون به، فيضعونه بين يدي ضباط لا يحددون الحكم بالإسلام هدفا من أهداف الثورة، اتفقوا مع هؤلاء الضباط على أن يتولى الإخوان الدفاع عن الانقلاب من الناحية الشعبية، وذلك بنص كلام الأخ صلاح شادي في [مذكراته ص ١٧٢] في آخر كلامه عن المناقشات التي دارت بين مجموعة الإخوان وبين جمال عبد الناصر عن الموقف الداخلي فقال: اُتفق على أن يتولى الإخوان مسئولية الانقلاب وحمايته والدفاع عنه من الناحية الشعبية، أي أن الضباط الأحرار يقومون بالجانب العسكري في الانقلاب، ويقوم الإخوان بالجانب الشعبي!

 واقرأ معي أيها القارئ العزيز كيف يصف الأخ حسن عشماوي قيام شباب الإخوان بهذه المهمة في صفحة ٣١ من كتابه «الإخوان والثورة» فيقول:

كل مصري كان يعلم أن طريق السويس ومناطق القتال كانت محفورة من الفدائيين، وكل مصري كان يعلم أن السفارات الأجنبية والمراكز الحساسة في القاهرة والأقاليم، ومنازل عبد الناصر وزملائه وأشخاصهم كانت تحرسها مجموعات من الإخوان في زي مدني، ليدفعوا عنها أي اعتداء من جانب المتطرفين!

 وكل مصري كان يعلم أن رحلة الرئيس نجيب وزملائه في أقاليم مصر لم تنجح إلا بسبب الإعداد الذي تم لها من جانب الإخوان!

يرحمك الله يا أخ حسن إذ تسجل لنا حقيقة تاريخية عن صدق الإخوان إذا وعدوا، وجليل عملهم إذا عملوا، فمن يتحمل مسئولية ضياع هذه الجهود الصادقة التي أثبتَ؟ رواه دعاة الإسلام بسواعدهم، وسهر عيونهم، دون عمل أي ضمانات لحمايتهم، إذا تحققت بديهيتك التي سجلها لنا الأستاذ صلاح شادي في كتابه وهي تقول: إن تدخل العسكريين في السياسة وتوليهم الحكم يؤدي إلى انحرافهم إلى الطغيان الشديد مما لا يمكن لأحد أن يحده أو يقف في مواجهته، كما أنهم يتعرضون للانحراف عن المبادئ والأهداف التي قاموا من أجلها أكثر من غيرهم لتجمع السلطة في أيديهم!) انتهى كلام الصباغ وكأنما يتحدث عن انقلاب السيسي ٢٠١٣م لا عن انقلاب العسكر سنة ١٩٥٢م.

تنصل جمال عبد الناصر من الالتزامات التي توقعها الإخوان:

وذكر الصباغ تنصل جمال عبد الناصر من أي التزام يقتضيه مشاركة الإخوان في حماية الانقلاب فقال في ص79: (إنك أيها القارئ العزيز لتجد دليل هذا الكلام واضحا فيما نشره الأخ صلاح شادي في كتابه “صفحات من التاريخ حصاد العمر ص ٨٣” فأنت تجد في هذا الكتاب ما نصه: وفي يوم ٣٠ يوليو سنة ١٩٥٢م الساعة السابعة صباحا تم اللقاء بين المرشد وعبد الناصر لأول مرة في منزل الأخ صالح أبو رقيق لقربه من مقر القيادة العامة للجيش، وقد دار الحديث بينهما من منطلق ما اتفق عليه عبد الناصر مع الإخوة الذين كانوا يجتمعون معه قبل قيام الحركة كما سبق أن ذكرنا بالتفصيل.. غير أن عبد الناصر بدأ يتنصل شيئا فشيئا من بعض الالتزامات التي تقتضيها المشاركة المتفق عليها.. فمثلا عندما قيل له بوجوب التشاور مع الإخوان في الأمور الرئيسية في السياسة العامة قبل اتخاذ أي قرار نهائي سواء في النواحي السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وذلك بصفتهم شركاء في المسئولية. هنا رفض عبد الناصر وقال عبارته التي كان يكررها في مناسبات مختلفة “إنه لا يقبل وصاية من اي جهة على الثورة”! وهنا وجه المرشد حديثه متسائلا يتعجب إلى حسن عشماوي ألم تتفقوا على المشاركة يا حسن؟ فأجاب بلي اتفقنا.. وهنا ظهر على المرشد العام عدم الارتياح أو الاطمئنان لدرجة أنه لم يشارك في الحديث تقريبا حتى نهاية الجلسة التي دامت حوالي الساعتين، بعدها انصرف عبد الناصر.

أبدى المرشد للإخوان عقب انصراف عبد الناصر عدم اطمئنانه إلى اتجاه هذه الحركة، وعدم ثقته بالقائمين عليها، لما بدا من تنصل المسئول الأول الفعلي من التزاماته، ووعوده، التنصل الذي بلغ حد الكذب، وذلك في أول خطوة في طريق الحركة، ورتب على ذلك أنه لا يمكن اعتبارها حركة إسلامية تسير على الخط والهدف الذي يتبعه الإخوان.. وإنما يمكن اعتبارها على أحسن الوجوه حركة إصلاحية ويبتغي القائمون بها الانفراد بالعمل، وأنه يجب أن يكون تعامل الإخوان معهم قائما على هذا الفهم. انتهى.

فأنت ترى أيها القارئ الكريم أن الأستاذ المرشد قد خرج من اللقاء الأول له مع عبد الناصر في اليوم السابع بعد نجاح الانقلاب، بنتيجة محددة هي أن كل ما نقله إليه الإخوة الكرام المؤتمنون على مستقبل الدعوة، وهم يضعون رجالها في خدمة الانقلاب، لم يكن له وجود في ذهن عبد الناصر، وأنه صارح المرشد العام بذلك في مواجهتهم، فعبد الناصر لم يتزحزح في هذا اللقاء عن المبادئ التي أعلنها على هؤلاء الإخوان …

فإن عبد الناصر لم يسلم للإخوان بوجهة نظرهم ولكنه قال إنه لن يعلن أي ارتباط بالإسلام قبل نجاح الانقلاب ولكنه سوف يأخذ الأمور تدريجيا بعد ذلك كما جاء نصا في نفس كتاب الأخ صلاح شادي صفحة 170 حيث قال:

«أقر عبد الناصر ذلك وأكد تمسكه بالإسلام أساسا للتغيير المنشود، وأوضح أن هدفه الإسلام.. إلا أنه قال: إن المصلحة عدم المجاهرة بذلك في بادئ الأمر.. ولكن تؤخذ الأمور تدريجيا حتى لا يحارب أعداء الإسلام الحركة في أول عهدها»…

…وتم أول لقاء بين عبد الناصر والمرشد حسن الهضيبي يوم ٢٨ يوليو، حضر عبد الناصر إلى منزلي حيث كان ينتظره المرشد العام وعبد القادر حلمي وحسن العشماوي وصلاح شادي، وقال عبد الناصر ونحن نصعد درجات السلم: أنا خايف على الأولاد من نشوة النصر!

ووجدتني أقول له بسرعة، نصر إيه؟ ده لسه المشوار طويل.. عايزين ننظف البلد، ونطهرها من الفساد، وتقوم المشروعات.. وعندما ودخل عبد الناصر وصافح المرشد فوجئت به يقول للمرشد: قد يقال لك إن إحنا اتفقنا على شيء.. إحنا لم نتفق على شيء.

والواضح من مبادرة جمال عبد الناصر للمرشد العام بهذا النص فور المصافحة أنها تعقيب على حديث سابق تم بين المرشد وبين جمال عبد الناصر بشأن الانقلاب، وأن هذا الحديث لم يعلم به أحد من الإخوة صلاح شادي، وحسن العشماوي، وعبد القادر حلمي، وصالح أبو رقيق.. حيث عقب صالح أبو رقيق فور سماعه لهذه المفاجأة بقوله: وكانت مفاجأة فقد كان اتفاقنا أن تكون الحركة إسلامية ولإقامة شرع الله.. واستمرت المقابلة في مناقشات أنهاها المرشد بقوله لجمال عبد الناصر: اسمع يا جمال.. ما حصلش اتفاق.. وسنعتبركم حركة إصلاحية إن أحسنتم فأنتم تحسنون للبلد، وإن أخطأتهم فسنوجه إليكم النصيحة بما يرضي الله «وانصرف جمال وقال لنا المرشد: الراجل ده ما فهش خير.. ويجب الاحتراس منه» انتهى).

مشاركة الإخوان بحكومة الانقلاب:

لقد كانت أمريكا تدير المشهد السياسي في مصر آنذاك عبر العسكر والإخوان والسعودية، كما قال خالد محيي الدين في مذكراته -ص ١٩٦- عن ضم الإخوان المسلمون للوزارة بعد الثورة وأن: (تشكيل وزارة نجيب الأولى كان إيذانا ببدء الخلاف مع جماعة الإخوان المسلمين، فقد اقترح عبد الناصر أن نمثل الإخوان في الوزارة الجديدة، واقترح الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين: الشيخ الباقوري وأحمد حسني، ووافقنا، لكننا وبينما كان الوزراء يستعدون لحلف اليمين فوجئنا بمنير الدلة وحسن عشماوي يحضران ليرشحا شخصين آخرين أحدهما أخو المرشد العام، قائلين: إن المرشد اقترح في البداية، لكن مكتب الإرشاد يرى تعديل الاقتراح، وربما كان الخلاف عميقا إلى هذا الحد داخل الجماعة، وربما كانت هناك محاولة من الجماعة لإظهار سطوتها إزاءنا، وأنها قادرة على التلاعب معنا وبنا، ورفضنا ذلك بشدة وحدة.

وتحدى الباقوري أوامر الجماعة وقبل الوزارة، وحدث بذلك أول شرخ في العلاقة بيننا وبين الإخوان، وتضاعف الشرخ في صفوف الجماعة، ذلك الشرخ الذي لعب عليه عبد الناصر كثيرا مستفيدا منه في استقطاب عناصر هامة من الجماعة ومن جهازها السري، إلى صفه وضد الهضيبي، مما أربك الجماعة فيما بعد إرباكا شديدا، لكن عبد الناصر والزملاء في مجلس القيادة أخطأوا أيضا في حساباتهم مع الإخوان فقد اتفقنا في الأيام الأولى على إصدار قرار بالعفو عن المسجونين السياسيين.

وركز عبد الناصر وعدد من الزملاء على ضرورة الإفراج عن السجناء من الإخوان المسلمين، وكانوا جميعا محكوما عليهم في قضايا إرهاب واغتيالات، وهذا الإفراج وبرغم أنه أكسب الثورة علاقات حسنة في صفوف الجماعة، إلا أنه كان -في واقع الأمر- تشجيعا خفيا للتيار المؤيد للإرهاب والعنف في صفوف الجماعة، فإذا كان المحكوم عليهم في قضايا نسف وقتل وإرهاب يفرج عنهم بهذه السهولة، فلماذا لا يكررونها مرة أخرى، بأمل الحصول على عفو من حاكم آخر أو حتى من نفس الحاكم!

لكن الغريب في الأمر هو أن هذا القانون قد طبق على الإخوان المحكوم عليهم في قضايا إرهاب واغتيالات، ولم يطبق على الشيوعيين!

وأذكر أننا كنا مجتمعين في مجلس القيادة عندما دخل علينا سليمان حافظ وقدم مشروع القانون الخاص بالإفراج عن المسجونين السياسيين، وسألته ببساطة: هل يطبق القانون على الشيوعيين؟ فأجاب بزهو: لا، فقد وجدت لهذا الأمر مخرجا، قلت: كيف؟ فقال: قلنا إن الشيوعية ليست جريمة سياسية، وإنما هي جريمة اجتماعية اقتصادية!

 فقلت: لكنها جريمة سياسية، وإذا قلتم كده ولم تفرجوا عن الشيوعيين، تبقى بايخه قوي، خصوصا، وأن التهمة الموجهة لهم هي محاولة قلب نظام الحكم [الملكي قبل الثورة]، وتغيير النظام الاجتماعي، وهم بذلك يحاكمون كمتهمين في جريمة رأي، فالأفضل عندي هو الإعلان أنه لن يفرج عن الشيوعيين لأسباب سياسية بدلا من استخدام تفسيرات غير قانونية وغير منطقية، فرد مندهشا: حيرتوني قلتم بلاش الشيوعيين، فلقينا الحل، وبعدين رافضين وتقولوا بايخه قوي!

فضحك الزملاء في المجلس وقالوا له: معلش، أصل خالد مختلف في هذا الموضوع.

والحقيقة أن عبد الناصر كان يضمر في هذا الوقت الدخول في تصادم مع الأحزاب السياسية، فأراد أن يكسب الإخوان إلى صفه في هذه المعركة، ولكنه في نفس الوقت لم يسمح بإعطائهم أي نفوذ داخل الثورة، بل ومارس داخلهم لعبة استقطاب البعض إلى صفه، فأحدث انقساما خطيرا في صفوفهم، وشجعه ذلك على المضي قدما في طريق تصادمه مع القوى الحزبية عامة..)!

وهنا يتحدث خالد عن جمال واتخاذه كل هذه القرارات الخطيرة وكأنه لا وجود لأمريكا واستخباراتها في المشهد، وهي التي اعترض سفيرها على ترشيح السنهوري لرئاسة الوزراء فالتزم الضباط الأحرار بقرارها!

ومع تأكيده في مذكراته -ص ٣٣٠- بتوجه مجلس قيادة الثورة نحو تعزيز العلاقة بأمريكا حيث يقول (كنت دوما أقول له: يا جمال أنا مختلف معكم، أنا عايز انتخابات وديمقراطية وأنتم مش عايزين، وأنا شايف أنكم متجهين نحو علاقة مع أمريكا وأنا أرفض ذلك، فالأفضل أن أنسحب بدلا من تفاقم المشاكل)!

تنظيم «الضباط الأحرار» يحل «النظام الخاص» للإخوان ثم يحل الجماعة:

لقد كان مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار يرون بأنهم الممثل الشرعي والوحيد للجيش والثورة والدولة والإخوان، وأنه لا بد من حل الجماعة بعد أن قامت الدولة، وأن تنضم الجماعة إلى “هيئة التحرير” التي كان يراد منها أن تكون حزب الثورة، وأن تكون الجماعة قاعدتها الشعبية، ولما لم تقبل الجماعة ذلك؛ اكتفى جمال منهم بحل التنظيم الخاص للجماعة، والذي كان بقيادة عبدالرحمن السندي، قائده السابق، وهو ما استجاب له مرشد الجماعة الجديد المستشار حسن الهضيبي، وهو ما أضعف الجماعة، وجعلها بعد ذلك لقمة سائغة لأعدائها، وقد أفاض محمود الصباغ وهو أحد مؤسسي النظام الخاص في شهادته في «التصويب المبين» بما يؤكد بأن ما جرى هو بتفاهم بين «الضباط الأحرار» ومرشد الجماعة وبعض قياداتها العسكرية في «الضباط الأحرار»، كان ضحيته قائد النظام الخاص عبد الرحمن السندي وأعضاء مجلس قيادة النظام!

فقال الصباغ -في ص ٧- (فإن عبد الرحمن رحمه الله كان من خيرة الإخوان الذين وهبوا حياتهم للدعوة منذ بداية الشباب، وحمل مسئولية من أضخم مسئولياتها طوال حياة الإمام الشهيد، وبعضا من حياة الإمام الهضيبي، وهي مسئولية قيادة النظام الخاص، واستمر كذلك حتى صدر قرار بفصله من الجماعة ومن الدعوة يحمل اسم «مكتب الإرشاد» في وقت كانت علاقته هو وإخوانه أعضاء مجلس قيادة النظام بالإمام الهضيبي على أقوى ما تكون..

وقد كان لهذا القرار وقع شديد على قلوب الكثيرين من الإخوان الذين علموا لعبد الرحمن صدقه وجهاده، خاصة وقد تجاوز نص القرار سلطات مكتب الإرشاد الشرعية، فإذا حق لهذا المكتب أن يفصل من يشاء من رجال جماعة الإخوان المسلمين فإنه لا يحق له شرعا أن يفصل أحدا من الدعوة..

 فالدعوة لله، وجماعة الإخوان للإخوان.

وقد اندفع هؤلاء الإخوان الثائرون على هذا القرار بالذهاب إلى منزل الإمام الهضيبي يستوضحونه أسباب هذا القرار، وأسباب تعمد نشره، ونشر صورة تجمعه مع أعضاء مجلس قيادة الثورة وهم في منزله في جميع الصحف المصرية الصادرة في نفس اليوم؟).

وقد بدأ عبد الناصر التخطيط لذلك مبكرا، كما قال الصباغ -ص ٧٦ -: (أن جمال عبد الناصر بدأ تفكيره في إنشاء تنظيم جديد يضم أعضاء من ضباط الإخوان المسلمين، وأعضاء من ضباط الجيش الذين يتصفون بالشجاعة وكتمان السر وإن كانوا من غير المتدينين بعد مقتل الإمام الشهيد حسن البنا في سنة ١٩٤٩م، وكان قادة النظام الخاص بما في ذلك عبد الرحمن السندي لا يزالون في السجون، وأنه استقطب من ضباط التنظيم السري للإخوان لهذا التنظيم..

(ب‌) أن جمال عبد الناصر كان حريصا وهو يدعو لفكرة التنظيم الجديد وقبل أن يأخذ تصريحا من فضيلة المرشد العام بالتنفيذ على أن يدعو ضباط النظام الخاص الذين يستطيع أن يستقطبهم إلى مقاطعة عبد الرحمن السندي حتى لا يصل إلى عبد الرحمن السندي أخبار نشاطه لإنشاء تنظيمه..

وقد انتظر عبد الناصر فعلا حتى خرج عبد الرحمن السندي من السجن، واصطحبه ومعه الأخ عبد المنعم عبد الرؤوف إلى فضيلة الأستاذ الهضيبي الذي وافق جمال عبد الناصر على فكره، واشترط فقط أن يكون تنظيم جمال صديقا للإخوان المسلمين وليس من تنظيماتهم..).

وقال في ص ١٥٢ عن ترجح قتل جمال لسيد فايز مسئول النظام الخاص في عهد الهضيبي (ويؤيد هذا الرأي الفني أن مجلس قيادة الثورة كان بكامل هيئته في زيارة للإمام الهضيبي بمنزله ليلة إبلاغ قرار فصل أعضاء من قيادة النظام الخاص من الدعوة ومن الجماعة إلى الجرائد اليومية فصدرت في اليوم التالي تحمل نص القرار وتحمل أيضا صور أعضاء مجلس قيادة الثورة وهم بمنزل الإمام الهضيبي في زيارة ودية للغاية)

وقال في -ص ١٦١-: (وبوقوع أول صدام سنة ١٩٥٣م بين الثورة والإخوان توقف عرضنا لهذه القضية، لغياب المختصين داخل المعتقلات، حتى نجح الشعب في إجبار الثورة على خروج محمد نجيب من المعتقل وكذلك الإفراج عن جميع الإخوان المسلمين الذين اعتقلوا معه وعادت الجماعة أقوى مما كانت وأصبح لها جريدة باسمها يرأس تحريرها الأخ الشهيد الأستاذ السيد قطب الذي اتخذ له مكتبا بدار أخبار اليوم، يباشر منه مسئوليته كرئيس لتحرير جريدة الإخوان المسلمين. وهنا بدأت في التحرك ثانية لعرض القضية الدامية على المسئولين عنها بين يدي الله.

أخذت معي صورة من نص المذكرة لمقابلة الأخ الشهيد الأستاذ السيد قطب في مكتبه بدار أخبار اليوم وكان هذا هو اللقاء الأول والأخير مع فضيلته، حيث لم يشأ الله أن يكون بيننا عمل مشترك بعد هذا اللقاء..).

وقال الصباغ -في ص ٤٠- عن طلب قيادة الثورة حل النظام الخاص الذي كان يمثل خطرا في نظر بريطانيا وأمريكا وكان حلها شرطا ضروريا قبل حل الجماعة نفسها:

 (الأمر الثاني فهو قيام ثورة ١٩٥٣م، وأن طلب إلغاء النظام الخاص جاء رغبة من قيادة الثورة، وقد حرص الأستاذ عبد القادر عودة على تلبيتها.. وأحب أن أؤكد أنه لا تثريب على الأستاذ عبد القادر عودة في أن يعمل على إجابة رغبة مجلس قيادة الثورة، فقد كان هذا المجلس على وفاق تام مع قادة الدعوة في هذا الوقت من الزمان.. كان لهذه المخالفة البسيطة التي أقدم عليها فضيلة الأخ الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة بنية مخلصة، وحب أكيد لخدمة الدعوة، أثر خطير على استواء الصف داخل النظام.

فقد أعلن رأيا بصفته وكيل الجماعة يقول بأنه يرى أنه لا داعي للنظام الخاص للقيام بفريضة الجهاد.. حيث فتحت الثورة ميادين التدريب العسكري للشباب في الحدائق العامة والطرقات).

وقال الصباغ أيضا في ص ٤٢: (اقتضت مصلحة البلاد العليا أن يبدأ شعب مصر مناوشات عسكرية ضد القوات الإنجليزية المحتلة لمنطقة القنال، وقد التقت إرادة الحكومة مع أماني الإخوان المسلمين في الاشتراك في هذه المناوشات بغية إقلاق مضاجع الإنجليز فيضطرون إلى التفكير الجدي في الجلاء عن القتال، وبذلك تكون حكومة الثورة قد نفذت مبدأ من مبادئها الستة ويكون الإخوان المسلمون قد نفذوا مبدأ من أهم مبادئهم الخمسة “الموت في سبيل الله أسمى أمانينا”.

وقد بدأت قيادة النظام في وضع الخطة لعملياتها في القنال، كما كلفت الثورة أحد ضباطها وهو الضابط كمال رفعت بقيادة عمليات عسكرية ضد الإنجليز في القنال…

وفي الواقع فقد وضع الأخ الشهيد الأستاذ يوسف طلعت مسئول النظام الخاص عن منطقة الإسماعيلية كل رجاله في خدمة العمليات العسكرية التي تفرضها الظروف، دون أن يعلم الضباط كمال رفعت شيئا عن هوية هؤلاء الرجال أكثر من أنهم ثمار نشاط مدير مكتبه للعمليات، المخلص الأمين، والفدائي المقتدر).

وقال الصباغ -في ص ٥٠-: (كانت عمليات حرب العصابات التي يقوم بها إخوان النظام ضد الإنجليز في القتال مستمرة، لا تتأثر بكل هذه السلبيات التي تواجه قيادة النظام، في سبيل الوصول إلى الاستقرار الأمين الذي كان عليه الأمر في حياة الإمام الشهيد.

ولم تكن قيادة الثورة بعيدة عن هذه العمليات، بل إنها كلفت أحذ الضباط الأحرار، كما سبق أن ذكرنا وهو الضابط كمال رفعت بقيادة المتطوعين لإحداث عمليات عسكرية ضد قوات الاحتلال في منطقة القنال، وكان معظم المتطوعين معه من الإخوان المسلمين سواء يدري أو لا يدري، فلم يكن الإخوان يهتمون إلا بإزعاج المستعمر بأي وسيلة دون ضرورة إلى تعريف أو إعلان.

وكانت العلاقة بين قيادة الثورة وقيادة الإخوان علاقة ود وتفاهم حتى هذا الوقت، وشعرت قيادة الإخوان أن من واجبها أن تستعد لمواجهة أي تحركات من الجيش الإنجليزي تهدف إلى إحباط حركة ٢٤ يوليو ١٩٥٢، وما كان أيسر على هذه القوات أن تفعل ذلك وهي رابضة على أرض القنال ما لم تجد مقاومة عنيفة تمنع وحداتها من التوجه إلى القاهرة) انتهى!

وهكذا استطاعت أمريكا أن تحتوي “الضباط الأحرار” ومجلس قيادة الثورة من جهة، وتحل النظام الخاص لجماعة الإخوان من جهة أخرى، وتجعل مجاهدي الجماعة تحت قيادة الضباط الأحرار ليقاتلوا بريطانيا في القنال، لتحل مكانها أمريكا، وتسجن بعدها الإخوان!

فصل قيادات النظام الخاص من الجماعة بطلب قيادة الانقلاب:

وقد ذكر الصباغ -ص ٥٩- ذهاب د. حسين كمال الدين إلى سويسرا وجلوسه شهرين، ثم عودته ورفضه لقرارات المرشد بخصوص استئناف العمل مرة أخرى بالنظام الخاص، بعد عودة عبد الرحمن السندي إلى قيادته، حيث رفض حسين هذا القرارات كما رفضها مجلس قيادة الثورة، وهو ما اضطر الصباغ إلى الذهاب إلى المرشد الهضيبي في قريته لإبلاغه رفض حسين كمال، والاطمئنان بأن الهضيبي ليس في إقامة جبرية، وقد وعده الهضيبي بالعودة للقاهرة لحل مشكلة حسين، ثم رفض الهضيبي بعد ذلك تغييره كما وعد، مما اضطر قيادة النظام الخاص إلى تقديم الاستقالة الجماعية، وتفاجأوا بقبول الهضيبي لها، ثم الإعلان عن فصلهم من الجماعة، وهو ما اشترطه جمال عليهم، حيث يقول- ص ٦٢-: (ولكنني فوجئت بعد ذلك بصدور قرار من مكتب الإرشاد للإخوان المسلمين يقضي بفصل أربعة من الإخوان من الجماعة، ومن الدعوة نشرته جميع الصحف السيارة وهم: عبد الرحمن السندي، وأحمد زكي حسن، وأحمد عادل كمال، ومحمود الصباغ، ولقد سعدت جدا بصدور هذا القرار رغم ما فيه من مخالفة للواقع، وسجدت لله شكرا فور قراءته، لأنه يضع عن كاهلي مسئولية كبيرة مستعصية الحل، وفي نفس الوقت فإنه لا يحرمني الأجر، لأنه نقل المسئولية إلى رجال من المسلمين، وأعفاني منها، فلم أكن من الخوالف، ولكنها كانت مصلحة الدعوة أن أعمل فعملت، ومصلحة الدعوة أن أعفى فقعدت في داري لا يسمع لي أحد صوتا، إلا أنني وأنا منتش بصدور هذا القرار ذهبت إلى عملي ومعي إحدى الجرائد في الصباح، فقابلت أخي مصطفى مشهور زميلي السابق في قيادة النظام، وزميلي أيضا في العمل، وأطلعته على القرار فتعجب، لأننا مستقيلون ولسنا مفصولين، وقد نقلت له كيف قابل قلبي هذا القرار بحمد الله والثناء عليه، وقد لفت نظرنا أن أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا مجتمعين بالمرشد العام وببعض أعضاء مكتب الإرشاد في منزل المرشد العام في الليلة السابقة، وكان هذا الخبر منشورا ومزينا بالصور في نفس الجريدة التي نشر فيها قرار الفصل).

فقد فصل تنظيم «الضباط الأحرار» قيادات «النظام الخاص» من الجماعة كلها لا فقط من قيادة النظام، وهو ما كانت تريده أمريكا!

وقال الصباغ في ص ٦٤ – ٧٢ (وسوف يوضح الفصل القادم السلبية الرابعة من سلبيات معركة ١٩٤٨م [وهي المواجهة المسلحة مع السلطة] وهي وإن كانت قد أصابت الجماعة من خارج صفوفها، إلا أنها وليدة خطأ سياسي وقع فيه عدد من قادة الجماعة الأعزاء وهم لا يشعرون، ذلك أن جمال عبد الناصر اقترح على المرشد العام تنظيم الضباط الأحرار في تنظيم جديد لا يشترط أن يكون عضوه من المتمسكين بالإسلام، ولكن يكفي أن يكون وطنيا مستعدا أن يحمل رأسه على كفه في سبيل تطهير مصر من حكم فاروق الفاسد، وقد وافق فضيلة المرشد العام على هذا الاقتراح واشترط أن يكون التنظيم الجديد صديقا للإخوان وليس من الإخوان، حتى يعاون الإخوان هذا التنظيم في عمله الوطني، وقال إن الوطنية جزء من الدعوة ولكن أهداف الدعوة أكثر بعدا وأكثر شمولا، ثم عين الأخ صلاح شادي حلقة اتصال بين قيادة الإخوان المسلمين، وقيادة الضباط الأحرار. وليس هناك أدنى شك في أن هذه السلبية الرابعة قد عرقلت سير الجماعة من خارج صفوفها، وعرضتها إلى الحل، وعرضت رجالها إلى إعدام البعض وسجن الكثيرين وتعذيب الأغلبية الساحقة من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية تعذيبا وحشيا لم يسبق له مثيل امتد إلى كل عامل للإسلام من الجماعات الأخرى غير جماعة الإخوان المسلمين، وإن كانت جماعة الإخوان المسلمين هي المحور الرئيسي لكل هذا الاضطهاد والتعذيب الذي استمرت آثاره إلى اليوم وقد مضى على بدئه سبعة وثلاثون عاما).

أثر فكر الهضيبي على جماعة الإخوان وأخطاء صلاح شادي:

وقال في ص ١٠٧عن أسباب وقوع تلك الأخطاء وارتباطها باختيار المرشد الهضيبي: (المفاهيم الخاطئة وأثرها في اختيار المرشد العام الجديد: وتحت تأثير هذه المفاهيم الخاطئة التي ختمها القدر بحوادث سنة ١٩٤٨م تحركت هذه المجموعة التي قامت بأعمال القيادة السياسية للإخوان في عهد الثورة لترشيح المرشد العام للإخوان المسلمين من رجال القانون المشهود لهم بحب الفكر الإسلامي من بين رجال القضاء.. ليطمئنوا إلى أن قيادة الدعوة ستكون في أيد قانونية لا تسمح بأي عمل غير قانوني تقوم به الجماعة، فيتعرضون مرة ثانية لما تعرض له الإخوان سنة ١٩٤٨م.. وزيادة في التأكيد على تحقيق هذا الهدف رشحوا الأخ الكريم الشهيد عبد القادر عودة وهو أيضا من رجال القانون وكيلا للجماعة ليقطعوا كل صلة بين الأخ صالح عشماوي وبين توجيه سير الدعوة.. وذلك لعقيدتهم الخاطئة بأن صالح عشماوي يحظى بتأييد جناح النظام الخاص، والتي أفصح عنها الأخ صلاح في كتابه “صفحات من التاريخ.. حصاد العمر” وبذلك خسرت الجماعة رائدا من أقدم روادها.

المرشد العام يؤكد بنفسه أثر هذا الفهم الخاطئ في اختياره مرشدا:

وإنه لمما يؤكد صحة هذا الاستقراء لحكمة ترشيح كل من الأستاذ الهضيبي والأستاذ عبد القادر عودة لمنصب المرشد العام والوكيل العام وهما من رجال القضاء أن فضيلة الأستاذ الهضيبي في أول لقاء له مع قيادة النظام الخاص بمنزل الأخ الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة لخص مهمته في الإخوان المسلمين في كلمتين حيث قال فضيلته: جئت لأطهر الإخوان المسلمين من الجريمة!

وقد رددت على فضيلته في نفس الاجتماع، وأنا أقدر أثر ما أذاعته وسائل الإعلام المعادية في رؤوس كل المحبين للدعوة الإسلامية الذين لا يعلمون شيئا عن نشاطها العسكري، فقلت على الفور: يا فضيلة المرشد إنك تحدثنا عن فكر إبراهيم عبد الهادي [رئيس الحكومة قبل الثورة].. فهو وحده الذي أضفى على أعمال الإخوان صفة الجرائم.. والحقيقة أن الإخوان لم يرتكبوا أي جريمة.

فانتبه فضيلة المرشد العام إلى ما قلت، وتغير أسلوبه في المناقشة والتخطيط وكانت النتائج التي فصلناها قبل ذلك عن سير النظام الخاص في مواجهة سلبيات سنة ١٩٤٨م هي المظهر العملي لأسلوبه الجديد مع الأسف الشديد).

وقال -في ص ١١٨-  (لقد خصص الأخ صلاح صفحات كثيرة من كتابه يثبت لنا فيها أنه عرف جمال عبد الناصر، وعمل مع جمال، ومع الضباط الأحرار منذ زمن بعيد قبل الثورة، وأنه اشترك معهم في عمليات وطنية مثل محاولة إغلاق قناة السويس في وجه الملاحة الدولية، وذلك بإغراق باخرة مدنية في مجراها، وأنه خطط مع جمال جميع عمليات تأمين الثورة من الداخل بجهود الإخوان المسلمين الذين كلفهم بحراسة المرافق العامة جميعا، والاستعداد لمواجهة الإنجليز إذا فكروا في التقدم نحو القاهرة لإجهاض الثورة، ولا يخفى ما في هذه العملية من خطورة وتضحية، وأنه يضمن لجمال ولضباطه الأحرار أن لا يتقدم إلى مراكز القيادة في الثورة أحد من ضباط النظام الخاص للإخوان في الجيش لتكون الثورة وقياداتها جميعا من الضباط الأحرار فقط، ويكون ضباط النظام الخاص للإخوان في الجيش مجرد عساكر يأتمرون بأوامر قياداتهم العسكرية! فيكلفهم جمال بأخطر عمليات الثورة وهي محاصرة قصري عابدين ورأس التين، دون أن يكون لهم أي صوت في توجيه الثورة إلى الوجهة الإسلامية، وذلك بأن أخفى عن إخوانه من ضباط النظام الخاص في الجيش ما أؤتمن عليه من أسرار قيام الثورة، رغم أنهم جاءوا إليه وقد علموا بما يدور في الجيش ليستوضحوا الحقيقة فلم يبصرهم بها، بل وطلب منهم أن يسمعوا ويطيعوا لقياداتهم في الجيش.. ونحن نصدق الأخ صلاح في كل ما سود به هذه الصفحات، ونسأله ما هو العائد على الدعوة الإسلامية نظير كل هذه المجهودات التي بذلت، كل هذه المخاطرة التي عرضت لها الإخوان لو فشلت الثورة؟

لقد بعت الإخوان للثورة بلا أدنى ثمن يا أخ صلاح، وهبتها أرواحهم وأموالهم وثمار دعوتهم نظير ثقتك الشخصية بجمال!

فأنت الذي عاهدته على أن يكون للإخوان حق المشاركة في الحكم بعد الثورة، وأنت الذي ذكرته بالبيعة على أن يكون الحكم بالإسلام، وأنت الذي نقلت على مسئوليتك إلى المرشد العام أن جمال عبد الناصر سيلتزم بذلك كله، واستصدرت الأمر من المرشد العام بأن يوضع الإخوان بكل إمكاناتهم في تأمين الثورة، فأكدت بذلك لجميع الإخوان أن الثورة ثورتهم، فأحبوها وأحبوا جمال، هللوا لقيامها، وافتدوها بأرواحهم ثقة منهم في كلمتك، وقدرتك على التخطيط والتنفيذ، ومعك مجموعة الإخوان حسن عشماوي، وعبد القادر حلمي، ومنير دله، وصالح أبو رقيق.

فماذا كانت النتيجة؟ ذبحهم جمال، وذبحك معهم. وذبح الإخوان جميعا. وأضاع جهودهم المضنية لنشر الدعوة).

وانتهى المشهد كما هندسته الاستخبارات الأمريكية، وكان الجميع فيه ضحية “الواقعية السياسية”، وما زال للحديث هنا بقية!



الواقعيون ووحي الشيطان (٦- ١٠)



الواقعيون ووحي الشيطان (7- 10)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق