تقدم الدراسات التاريخية خطر على الوطنية
كتب السياسي والمفكر الأمريكي مارك بوكانان، في كتابه «موت الغرب» فصلا بعنوان «الحرب على الماضي» يدين فيه المؤرخين الأمريكان الذين يكشفون حقيقة أجدادهم مؤسسي أمريكا، وذلك أن معرفة الحقائق التاريخية تضعف انتماء الأمريكي لبلاده! وتنشئ منه مسخا مشوها يُفرغه من الحماسة للدفاع عن بلاده أو الاهتمام بمصيرها!
وقعت على نص خطير للفيلسوف الفرنسي الشهير أرنست رينان، وهو كعادة الفلاسفة يأخذ الأمثلة ليجعلها قاعدة كلية، والقاعدة التي توصل إليها تقول: إن تقدم الدراسات التاريخية خطر على الوطنية، لأن تشكل الأمة كان ثمرة للجرائم وحروب الإبادة! وهذه فرنسا نفسها كانت وحدتها الوطنية الرائعة نتيجة حرب إرهاب استمرت لمائة عام! ولهذا لعنت الأمة الفرنسية زعيمها الذي جلب لها الوحدة! ولن يعرف قدره سوى المثقفون فحسب!
وفي مذكرات كيسنجر، وهو مؤرخ قبل أن يكون سياسيا، وتلك من مزاياه الخطيرة،
كان مدافعا بقوة عن سياسته التي نفذها حين كان في البيت الأبيض، مع أنها أفضت إلى مئات آلاف الضحايا في كل مكان..
يقول: كنت أتخذ القرارات الصعبة التي أعرف أنها ستقضي على عدد كبير من الضحايا، ولكن هذا كان في صالح الحفاظ على عدد أكبر من الأرواح.
ثم يستعمل في التبرير لنفسه حاسّة المؤرخ، فيذكر أن المؤرخين سيسخرون من هذا الكلام،
لأنهم ببساطة لا يعرفون البدائل الأخرى التي كنت أتجنبها، ويكفيني أن أفعل ما ارتاح له ضميري.
يبدو كيسنجر هنا مستفيدا من الألم والحسرة التي نطق بها تشرشل،
ففي إحدى خلاصاته الشهيرة أنه كان يعض أصابع الندم، لأن الأنظمة الديمقراطية في أوروبا،
بما تولده من بطء في الحركة وضعف في الجماهير ومصالح متضاربة،
هي التي غلَّت يد الساسة الأذكياء الذين كانوا يُبصرون نمو المارد الألماني، إلا أنهم لم يكونوا يستطيعون التصدي له، لكثرة أولئك الذين يتحدثون عن الحكمة وعن الحلول الوسط.
كان تشرشل يرفض فكرة أن نمو ألمانيا واليابان لم يكن ممكنا إيقافه،
وكان يؤكد أنه لو استخدمت أوروبا إجراءات حاسمة في مطلع الثلاثينات لاستطاعت إيقاف هذا الخطر.
ولما أفضى بهذا الكلام إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، سأله هذا الأخير:
ماذا كان سيُقال عن هذه الحرب إذا شُنَّت؟ أجاب تشرشل فورا: سيسمونها الحرب غير الضرورية!
وهكذا عزيزي القارئ ترى رحلة لطيفة في أروقة المؤرخين والفلاسفة والساسة، خلاصتها البسيطة تقول:
افعل ما بدا لك صالحا، ولو كان يبدو غير ضروري، بل ولو كان يبدو شرا محضا، ولا تأبه لقول المثاليين والأخلاقيين،
وإذا استطعت فيما بعد أن تكبت عمل المؤرخين فافعل، فإنهم قد يفسدون الأجيال اللاحقة بما يكشفونه من الحقائق!
تحتاج هذه الأفكار إلى نقاش طويل، لكن الفكرة الأساسية التي برقت في ذهني،
والتي لأجلها كتبت هذه السطور هي الآتي:
1- أن ليس في تاريخنا نحن المسلمين ما نخشى منه!
ولم تزدنا الدراسات التاريخية وتقدمها إلا اعتزازا وافتخارا بماضينا وتراثنا..
بل كان مؤرخونا هم في ذات الوقت فقهاؤنا ومفسرونا ومحدثونا.
2- إذا أردنا أن نرى أمتنا كيف وُلِدت، وكم حربا احتاج إليها النبي، زعيم هذه الأمة، لتأسيس وحدة الجزيرة العربية، وكم قتيلا أسفرت عنه..
فسنرى أن عدد قتلى معارك النبي من المسلمين وغير المسلمين -كما جمعها بعض الباحثين في السيرة- بلغت ما بين الستمائة إلى الألف فحسب،
وكان عمر الحرب التي ولدت هذه الأمة المسلمة سبع سنوات فحسب!
من العام الثاني للهجرة حيث نزل الأمر بالقتال إلى العام التاسع وفيه كانت آخر غزوات النبي.
3- لكن نعم، نحن نتفق مع رينان في أن تقدم الدراسة التاريخية يضر بالوطنية، لكن ليس على مذهبه ولا وفق المعنى الذي قصد..
إن دراستنا التاريخية ستخبرنا دائما أننا أمة واحدة متحدة متماسكة،
وأن هذه الحدود التي وُضِعت في بلادنا وحرستها جيوش الاحتلال ثم وكلاؤه من بعده،
هي الشيء الطارئ الدخيل الذي يجب أن نتخلص منه!
وبعد هذا كله، يأتيك شرذمة من الذين يفتشون في الكتب والتواريخ،
يريدون أن يستعملوا ذلك التاريخ في تشكيك المسلم في دينه، وإخراجه من اعتزازه بنفسه وبأجداده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق