متفقون على ارحل.. مختلفون على ما بعده
نور الدين العلوي
لست أتراجع عن تقييمي للحظة وللمرحلة بأن الانقلاب في تونس ميت ينتظر دفنه، لكني أعجز عن وضع تقدير زمني للرحيل وقد زادت مظاهرات يوم الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير في تشويش الصورة. لقد كانت مظاهرات مختلفة التقت كلها دون حواجز أمنية ودون حدوث مشاحنات بين مكوناتها في شارع الثورة، حيث طاب للتونسيين اللقاء منذ الثورة. تجلى الاتفاق الجماعي على "ارحل"، لكن لم أفلح في التقاط مؤشرات على ما بعد الانقلاب. هنا لا تزال الفُرقة واضحة وتوشك أن تدفعنا للقول الموجع إن سلامة البلد المؤقتة تقتضي بقاء الانقلاب، فالفوضى الاجتماعية معلقة فوق رؤوس الجميع.
صحيح أن الاتفاقات السياسية لا تبرم في الشوارع المتحركة وإنما في الكواليس والمكاتب الخفية عن الجمهور المتوتر، لكن طاولة الحوار لم توضع (دعني أقول لم أرها حتى الآن وإن كان الجميع يتماوت في انتظار الآخرين. إني أتذكر بعض طرق الثعالب في الصيد).
جمهور بلا قيادة حاسمة
يوم الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير (جانفي) حضر جمهور جبهة الخلاص بأغلبيته من حزب النهضة، وكان الجمهور الأثقل وزنا أو الأكثف عددا، واقتحم الشارع الكبير من بوابات كثيرة. وتقول تقديرات محايدة إنها المظاهرة الأكبر بعد مظاهرة النهضة منفردة يوم 27 شباط/ فبراير 2021.
كانت وقفة الخماسي الحزبي قد سبقت إلى منصة المسرح مجتمعة بوقفة هيئة الدفاع عن الحريات التي عرفت بمجموعة العياشي الهمامي. لفتت الوداعة الأمنية نظر الجميع، فقد غابت التكشيرة الأمنية المعتادة ولم تتشدد الدوريات الخارجية في منع وصول الوافدين من الجهات الداخلية، واستشعر البعض اضطرابا في التعليمات صبت كلها في صالح المظاهرات التي صارت مظاهرة ترفع بانسجام شعار "ارحل".
لكن اللافت أن القيادة التي تنطق الجمل الحاسمة وتطرح خرائط الطريق في مثل هذه المواعيد كانت غائبة أو تتخفى، ونخص بالذكر قيادة جبهة الخلاص الوطني. لقد كانوا هناك شبه صامتين إلا من جمل مكررة بلا منصة قيادة. كان الجمهور يتعطش للحسم ولقد عاد كثيرون من المظاهرة بأسئلة حائرة: لماذا تأخر الحسم؟
تذكرت مونديال قطر
في الدورة الكروية التي شارك فيها الفريق التونسي كان الجمهور التونسي في الدوحة قد لفت الانتباه بانضباطه وحماسه، ولكن الفريق (القيادة) خيب الآمال ولعب بطريقة ذليلة فخيب ظن جمهوره. تلك الروح المسكينة للفريق ذكرتنا بمسكنة قيادة مظاهرة 14 كانون الثاني/ يناير؛ كلما اشتد حماس الجمهور تخلفت القيادة عن تحمل المسؤولية والحسم. هل هو الخوف أم الحسابات الفردية؟ أم الارتهان إلى جهات حاضرة بالغياب؟
نجزم بوجود حالة من عدم الرضا عن تسليم أمر الشارع إلى شخص مثل نجيب الشابي ومن قرّبه إليه من قيادة جبهة الخلاص، ولقد سمعت جملا تتكرر من جمهور النهضة خاصة: هذا الرجل ليس لهذه المرحلة، وذهب البعض إلى أن اعتماده كواجهة هو أحد أخطاء قيادة الحزب التي لا ترغب في المواجهة منفردة. لكن هذا التوجه الغاضب لا يجد إجابة عن سؤال واضح: من يمكن أن يكون بديلا عنه؟ في رحلة البحث عن قيادة فاعلة للشارع تغيب قيادة الحزب ولا يرضى الجمهور بالبديل الظاهر، وهذه معضلة ستكبر في الأيام القادمة، ليعود سؤال ممض: من لهذا الشارع يقوده؟ (في الكرة كما في السياسة نفتقد إلى رأس الحربة المهاجم).
عقدة النقابة
نقدر أن هناك قيدا وضعته المعارضة حول رقبتها طائعة هو النقابة، لقد تحولت النقابة إلى عقدة لدى قيادة المعارضة الجادة وأعني جبهة الخلاص بكل مكوناتها وخاصة مكونها النهضوي. خيال هذه المعارضة مكبّل بفكرة إشراك النقابة في كل حل مستقبلي. يقول الجميع إن النقابة هي السند الأقوى للانقلاب، بل هي جزء منه ولا تزال تناور لإنقاذه بما تلوح به من حوار وما تطرحه من مبادرات من خارج الدستور المرجعي. لكن الطمع في التحاقها بالمعارضة وعودتها إلى الدستور لم ينقطع، فمن قائل إن الأسلم إبعاد النقابة عن الانقلاب، ومن قائل إن وجود النقابة في المعارضة ضرورة لحوز الرضا الخارجي (عقدة أخرى سنعود إليها لاحقا).
تتجاهل (بل تتعامى) المعارضة الجادة أن النقابة ليست نقابة فعلا وإنما هي حزب سياسي أقلي أو "صفر فاصل"؛ حضرت مكوناته كلها فلم تغط مدارج المسرح، ورفعت شعارات استئصالية أثارت سخرية الشارع. هنا تتجلى صورة من صور خوف المعارضة وعقدة نقصها؛ لأنها تتوهم أن لهذه النقابة قوة فعلية على الأرض، وهو نفس الخوف الذي كبّل الحكومات وجعلها ترضخ للابتزاز النقابي منذ أول حكومة منتخبة.
ونجزم بأن خوف حزب النهضة وواجهتها (السيد نجيب الشابي) من النقابة هو الذي تسرب إلى بقية مكونات الجبهة فكبلها، ونجزم بأنه مادامت المعارضة تنتظر التحاق النقابة بها فالانقلاب مطمئن إلى بقائه (الأسوأ من ذلك طلب التغطي بالنقابة وجعلها مظلة حوار وطني). وهذه مفردة نجاح للحزب الاستئصالي المتخفي في النقابة، وهو دوره منذ الثورة إن لم نقل منذ زمن الاستقلال؛ نقابة تحمي منظومة الحكم ولا تعارضها إلا بخطاب سفيه ضمن أدوار مرسومة استقوت بالجهة التي منحتها جائزة نوبل.
نقول لو (التي تفيد المستحيل) تحررت المعارضة من عقدة النقابة ولوحت مجرد التلويح بأن ما بعد الانقلاب سيبدأ بإنهاء الاقتطاع الآلي من الأجور لفائدة النقابة، وأن التعددية النقابية ستفعل طبقا للدستور (الذي يقر الحق النقابي والتعدد النقابي)، وأن الحكومات القادمة لن تقدم منحا للنقابات، فإن انكسار النقابة (أو حزبها الاستئصالي) سيفاجئ الجميع وسيكون خطوة هامة بل ضربة قاصمة للانقلاب، إذ يضع النقابة السند تحت التهديد المباشر. لقد قلنا لو، فالخائفون من اليسار الاستئصالي ضيّعوا على الناس ثورتهم.
في لحظة من اللحظات نتوقع أن يسبق الانقلاب إلى تهديد النقابة بهذه الإجراءات، فتأتيه النقابة ذليلة مكسورة وتكف عن مبادراتها وتخرج من مسرحياتها المعارضة وتعلن الولاء المطلق. (وقد بدأ الانقلاب يلوح بذلك من خلال استقبال رئيسة حكومته لنقابة أخرى محتقرة).
الخشية والأمل
أخشى ما نخشاه في هذه المرحلة التي يغلب عليها التردد والخوف أن نقول إن سلامة البلد تقتضي بقاء الانقلاب، فتذهب توقعاتنا بنهايته أدراج الرياح. فالمعارضة حتى الآن لم تجهز حلا وإنما تكتفي باستنزاف جمهورها المتحمس.
نعم كانت معارضات كثيرة قد اجتمعت في الشارع، وهذا بث أملا كبيرا لكن الأمل مطعون بالفُرقَة، إذ لا يكفي الاتفاق على شعار ارحل وإنما تقتضي اللحظة وبشكل حاسم وسريع خارطة طريق لما بعد الانقلاب؛ تبنى على رؤية موحدة ولو بحدها الأدنى. وقد قرأنا التراخي الأمني في قمع المظاهرات في وجه من الوجوه دعوة ضمنية أن اتفقوا لنفسح لكم الطريق.
ولنوضح في جُمل أخيرة، هناك موقع سليم (وهو الموقع الوحيد السليم سياسيا وديمقراطيا) تقف عليه جبهة الخلاص، وهو الحفاظ على دستور 2014 والانطلاق منه في طريق الحل. وهنا يقع واجب الالتحاق بهذا الموقع على من التحق بشعار ارحل بعد جهد ضائع في دعم الانقلاب الذي سبقت إليه جبهة الخلاص، بقطع النظر عن اضطراب قيادتها الحالي. هنا يكون اللقاء وتوضع طاولات الحوار وهنا توضع نهاية الانقلاب، هنا يصبح للإجماع على ارحل بقية قابلة للفهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق