ماذا نفعل ردًّا على حرق المصحف؟
نحن الآن في عالم احتكرت فيه الدولة عناصر القوة، وصارت الشعوب بمثابة الأسرى لدى السلطة، وهذا هو حال الناس في الشرق والغرب، والفارق بين حريات الناس في بلادهم هو كالفارق بين أنواع السجون ومدى حصول بعض المساجين على حقوق أحسن من بعض.
أبدأ بهذا التقرير لأني أحتاجه في موضوع حرق المصحف الذي جرى في السويد اليوم..
الشعوب في زماننا هذا لا تكاد تستطيع أن تفعل شيئا، وآخر ما تستطيعه الشعوب أن تتحدث على مواقع التواصل الاجتماعي، أو أن تنفذ حملات مقاطعة لمنتجات دولة ما، فأما ما فوق ذلك فلا بد فيه من استئذان السلطة والحصول على موافقتها.
بل حتى الحديث على مواقع التواصل الاجتماعي وتنفيذ حملات مقاطعة يكون محفوفا بالمخاطر إن كان ذلك على غير رغبة السلطة القائمة، وقد يودي بصاحبه إلى السجن أو الموت، بحسب شراسة هذه السلطة وطبيعة تعاملها مع شعبها.
حاول أن تتذكر، كم مرة (حتى في الغرب الذي تحسب أنه متمتع بالحريات) استطاعت المظاهرات مهما كانت مليونية وحاشدة أن تؤثر على قرار الدولة السياسي؟
من هو في مثل سني الآن يتذكر المظاهرات المليونية التي اندلعت في أوروبا اعتراضا على حرب العراق، فكان ماذا؟.. رجعت المظاهرات إلى البيوت، وذهبت الجيوش إلى العراق، وكانت أحسن نتيجة أن خرج رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ليقول: آسف!!
هذه هي أحسن نتيجة.. هناك من المظاهرات ما لم يؤدِ إلى شيء على الإطلاق، ليس أولها "احتلوا وول سترتيب" ولا آخرها "السترات الصفراء"
لا أود أن أطيل في هذا الموضوع.. الخلاصة أن هذا العالم الذي نعيش فيه، وهذا النظام العالمي الذي وِحدة بنائه "الدولة الحديثة"، وطبيعة عملها "المراقبة والمعاقبة" (بتعبير فوكو) والسيطرة والهيمنة.. هذا النظام قد وظَّف كل التقنية بل وكل الأفكار لتكون القوة محتكرة في يد السلطة، وتكون الشعوب بمثابة المساجين والأسرى.
حتى هذا المتطرف السويدي، لما أراد أن يحرق القرآن ذهب فأخذ تصريحا بذلك من السلطة!
ثم وفرت له السلطة أدواتها في الحرق، وأهمها: قوة الحراسة! ليمارس "حريته" في حراسة الشرطة!!
وهذه السلطة لم تكن لتوافق على هذا العمل إلا وهي تستشعر عمليا أنه لا خطر أبدا من "أنظمة" العالم الإسلامي.. فآخر ما ستفعله الشعوب -كما قلنا- التنفيس عن غضبها بالحديث في مواقع التواصل أو تدشين حملة لمقاطعة منتجات السويد! لا أكثر من هذا!
وأقصى ما ستفعله الأنظمة أن تصدر بيان إدانة أو تسحب سفيرا.. وهذا كله ليس بالثمن المؤلم ولا بالعقوبة المخيفة التي تخشى حكومة السويد منها.
فإذا خرج "متطرف" مسلم، فاستطاع النيل من هذا الذي أحرق المصحف، أو خرجت مظاهرات من المسلمين لتخرب -مثلا- في السويد .. فحينئذ ستستعمل السويد قوتها في القبض على هؤلاء المسلمين داخلها (مما قد لا يعرفه الكثيرون أن كثيرين من المسلمين في السويد محبوسون الآن في تهم اعتراض على حرق مصحف، منذ العام الماضي على الأقل).
فإذا خرجت مظاهرات في الدول الإسلامية لتهاجم سفارة السويد أو مبعوثيها أو استثماراتها، فإن هذه الدول ذاتها ستتولى من خلال شرطتها وجيشها ونظامها القانوني تأديب هؤلاء المسلمين ووضعهم في السجون، أو ربما قتلتهم أيضا! وسيتفق الجميع ساعتها على وصفهم بالمتطرفين والإرهابيين... إلخ!
وهكذا فإن حرق المصحف هو في حقيقته عمل سياسي سلطوي قام به النظام في السويد، والمقصود به إذلال أنظمة "إسلامية" في المقام الأول.. فكلا من الفاعل والمفعول به نظام سياسي يحتكر التصرف.
وما دامت حركة الأنظمة لن تبلغ مرحلة إعلان الحرب أو قطع العلاقات أو تجميد الصفقات ومراجعة الاتفاقيات أو منع استيراد المنتجات أو طرد البعثات وتصفية الاستثمارات وحث الجاليات على العودة.. ما دامت حركة الأنظمة لن تبلغ شيئا من هذه التصرفات المؤثرة فلا إشكال.. لنحرق المصحف.
ولهذا.. يجب أن نفهم الآتي: إن المعركة الحقيقية التي تؤثر على مستقبلنا كأمة، هي معركة استرداد هذه الأنظمة، هي معركة قدرتنا على إنتاج أنظمة تعبر عنا، نحن الذين نختارها، أنظمة تفرزها الشعوب لا يصنعها الاحتلال.. هذا هو الحل الوحيد الذي سيجعل لنا قدرة على التأثير في مثل هذه المواقف في قابل الأيام.
ما لم نفهم هذا، وما لم نخض هذه المعركة، فكل ما نفعله في مواقف كهذه هو مجرد هوامش!
هل معنى هذا أن نتوقف عن الحديث على مواقع التواصل أو إصدار البيانات أو إقامة الفعاليات؟
الإجابة: لا.. بل نفعل كل ما هو ممكن، من أول الحديث على مواقع التواصل فما فوقه.. أنا هنا (بوضوح شديد) أقدم دعمي لكل فعالية مهما كانت في فضح وتقبيح وإدانة ما حصل..
ولكن، ولكن، ولكن.. يجب أن نفهم أن كل هذه الأمور هي بمثابة المسكنات والمخدرات والدهانات الوقتية التي لا تعالج شيئا ولا تغير شيئا.. وغاية ما فيها أنها تعطينا بعض الوقت والفرصة لنعرف بعضنا وننتقي العناصر الصالحة للعمل وتمكننا من جس نبض الأمة ومن إيقاظها.
يوم أن كنا دولة قوية كان الذين يرغبون في سب سيدنا محمد يتخوفون وهم في قلب عواصمهم الغربية، وكانت مجرد رسالة تهديد من أمير أو سلطان تكفي لوقف العمل القبيح وإخماده في مهده!!
معركتنا في بلادنا.. وكل الخيوط، كل الخيوط، تنتهي إلى هذه الأنظمة الحاكمة التي تسيطر علينا فتقيدنا وتكبلنا وتحدد لنا سقف حركتنا، وهي ذاتها التي تُمكّن لعدونا وتغريه بافتراسنا وتمزيقنا وإهانتنا!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق