المتحولون.. الرقص حول الكرسي!
كان أخطر ما واجه ثورة يناير 2011 في مصر هؤلاء الذين تحولوا بين عشية وضحاها من أعداء للحراك الشعبي والتظاهرات وكل مظاهر الاحتجاج إلى قادة للاحتجاجات بل ثوار، كان أمنية كل منهم أن يصل إلى ميدان التحرير ويلتقط صورة له وسط الجموع الشعبية والمتظاهرين يتباهى بها أمام أبنائه في يوم ما -تخلصوا منها منذ سنوات- ليثبت وجوده في الثورة.
ظهر منهم إعلاميو ثورة ومثقفوها وأيضا موظفو الحكومة الذين سعوا بكل طاقاتهم لإثبات انتمائهم إلى الميادين، بدأ هذا حينما أيقنت هذه الفئات أن مبارك ووريثه قد ذهبا ولن يعودا، كان هذا التوقيت بعد موقعة الجمل التي حدثت صبيحة الخطاب العاطفي الذي ألقاه مبارك ليلة الثلاثاء الأول من فبراير.
كانت موقعة الجمل هي الضربة القاضية لمبارك الشخص وليس النظام -فما زال باقيا- وبعدها بأيام جاء إلى الميادين كل الراقصين حول الكراسي، كانت عناوين الصحف الحكومية صبيحة يوم التنحي أولى إشارات التحول نحو الميادين والثورة والثوار من الشباب وأصحاب التاريخ القديم من المعارضين لحكم مبارك.
صبيحة ذلك اليوم أيضا تحولت أنظار قيادات المؤسسات الحكومية والوزارات إلى موظفيها الذين كانوا منبوذين، وأصبحوا الآن أبطال، ولا تتخيل كم النفاق الذي شاهدته من قيادات كبرى ومحافظين ووكلاء للوزارات للكثير من الموجودين في الميدان، مهما كان تاريخهم أو حجمهم الميداني، وقد استغل الكثيرون هذا الموضوع في الحصول على امتيازات لهم ولذويهم، الغريب أيضا تعامل الشعب من أبناء “حزب الكنبة” مع هؤلاء.
أتذكّر قيادة تلفزيونية قابلتها عشية ذلك اليوم، كان من أصحاب العلاقات مع أجهزة الأمن ومن الداعمين لتوريث جمال مبارك، اقترب مني وطلب قائمة بأسماء القيادات التي سنرشحها لتولي المناصب في ماسبيرو، استمر السير بنا حتى ميدان التحرير، فإذا به يصرخ “أنا في الميدان معقولة؟” كانت فرحته المصطنعة أكبر من فرحتنا بتنحي مبارك وتكليفه مجلسه العسكري.
لا بد للتاريخ أن نذكر أن هناك قلائل ممن ظلوا على ولائهم لمبارك ووريثه، ولعلنا نذكر الصحفي عبد الله كمال فقد ظل محافظا على ولائه للمخلوع، لكن أمثال عبد الله كمال يؤكدون القاعدة التي هي جزء رئيسي في معضلة أي تغيير في مصر.
سلّموا القط مفتاح الكرار!
الصف الثاني في أي نظام ودولة هو عصبها، يسمونه الدولة العميقة أو بيروقراطيي الدولة، هؤلاء الذين يتغيرون مع كل نظام ويصبحون رجال كل الأنظمة، هم جزء من شعب “اسم الله عليه.. اسم الله عليه”، هم من يطلقون اللحية إذا حكم الإخوان المسلمون، ويرفعون صور لينين إذا حكم يساري مصر، ويطبعون ملابس عليها صور عبد الناصر حين يجيء حاكم ناصري قومي، فالشعب المصري على هوى رئيسه.
الصف الثاني من قيادات الدولة العميقة أهم فئة بين هؤلاء جميعا، ربما سبقوا الإعلاميين والمثقفين، ويؤمنون بأن الحاكم طالما على الكرسي، فهو صاحب الدولة، مفهوم من الضرورة تغييره مهما كانت صعوبات التغيير.
بعد يناير رُفع شعار تطهير المؤسسات ولم يُنفذ أي تطهير، كانت خطة دخل فيها كل الفاعلين في يناير، بأنها فترة وستعود الأشياء إلى طبيعتها، حمل الجميع أوراقهم إلى صاحب السلطة نظام مبارك الذي لم يسقط، اختار القائم على الأمر من يثق في ولائه، فقد “سلّم القط مفتاح الكرار” كما يقول المثل الشعبي المصري، كانت جملة شائعة في عام الثورة والعام الذي يليه بأنها فترة وستمضي.
جاءت قيادات هم الصف الثاني والثالث لدولة مبارك، حتى في العام الذي حكم فيه الإخوان المسلمون، للأسف الشديد اعتمد الوزراء عليهم، بعد أن أطلقوا لحاهم وصاروا يوقفون الأعمال من أجل أداء الصلوات، وهم من كانوا بالأمس يبلغون أجهزة الأمن عن المصلين
السادات والراقصون مع السلطة
مات جمال عبد الناصر ودولته ترفع رايات الحرية والاشتراكية والوحدة، شعارات القومية العربية، وقضية فلسطين هي الأهم في هذه الرايات، التصنيع والعدالة الاجتماعية، وجاء أنور السادات، وبعيدا عن ملابسات المجيء فقد تخلص من رجال عبد الناصر ـالعهد البائدـ كما كان موظفو الدولة وبعض الإعلاميين يسمون نظام الملكية، صار حينذاك نظام ناصر هو العهد البائد.
كان الخلاص من نظام عبد الناصر سهلا إلى أقصى حد، تم إلقاء القبض على الوزراء وقيادات الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي اللامعين في ساعات قليلة، كان خيال هؤلاء أن الجماهير العريضة ستهب لنصرتهم، وأن صفوفا من الأجهزة الحكومية والأمنية ستقدّم استقالتها معهم، وكما قال السادات الذي مضى على خط جمال عبد الناصر بممحاة كما نقول نحن -الناصريين- قال “سأحاكمهم بتهمة الغباء السياسي” حين قدّموا استقالتهم ولم يكلفوه عناء البحث عن طرق للخلاص منهم.
لم يفهم أولئك طبيعة المصريين، ولا قيادات الصف الثاني ولا الإعلاميون، وللتاريخ نذكر أن العديد من الإعلاميين والمثقفين تعرضوا للتنكيل والفصل من أعمالهم لتمسكهم بمبادئهم، منهم الإعلاميون عبد الوهاب قتاية ومحمد الخولي ومحمد عروق والسيد الغضبان وبهاء طاهر، ومسرحيون وكتّاب صحفيون.
دولة عبد الناصر بشعاراتها وراياتها الوطنية والقومية ما لبثت أن تعرضت لهجوم ضارٍ بداية من سنوات الانفتاح، وصارت كل المعاني التي تغنى بها المطربون والشعراء معاني بالية، وجلبت الفقر للمصريين وأفقرت مصر، كل ذلك على لسان وأقلام من تغنوا بها من قبل.
هيكل والسادات
لم يكن محمد حسنين هيكل الصديق الأقرب لناصر ولسان حاله فحسب، بل يمكن أن نضعه في مقام عبد الله النديم مع الزعيم أحمد عرابي، أول من دعم أنور السادات، بحسب هيكل فإن السادات الآن هو “الشرعية”، خطيئة كبرى ضمن خطايا هيكل في مسألة الشرعية، كان آخرها “الرئيس الضرورة” ما بعد يونيو 2013.
الصفوف التالية في قيادات عبد الناصر لم تقف كثيرا عند توجهات الرئيس الجديد، لذا لا تستغرب عند البحث في التاريخ القريب لتجد من كانوا في تنظيمات يوليو صاروا وزراء ومحافظين ورؤساء لجان برلمانية، مشاهير عشنا معهم، مفيد شهاب، حسين كامل بهاء الدين، محمود شريف، كمال الشاذلي، وغيرهم كثيرون كانوا مع السادات وبعده مع مبارك، لا يهم السياسات مَن مع مَن أو مَن ضد مَن، مفهوم متأصل في الشعب المصري، وإذا بحثت فستجد الآكلين على كل الموائد في السنوات الأخيرة كثيرين، منهم من باع تاريخه كله، ومنهم من كان تاريخه سلسلة من الانحناء أمام السلطة وهم لا يخجلون.
نعم هناك من تمسّك بالقيم وبمبادئه، وعانى الكثير في حياته من أجل الحفاظ على ضميره كما يراه، لم يهادنوا لكنهم القاعدة التي تؤكد الاستثناء، رجال كنا نقابلهم ونفتخر بصمودهم، لكن الغالبية كانت تحيا تحت شعار عاش الملك.
إن أي تغيير قادم لا بد له أن يعي مسألة التطهير الذي طُرح ما بعد يناير، وليس بالضرورة أن يقف عند الأشخاص، بل يجب امتداده ليصل إلى مفاهيم تفصل بين الأنظمة والدول، فالنظام يحكم بصفته يدير أمور الدولة في مدة زمنية محددة، أما الدولة فهي الكيان الجامع، فلا النظام يساوي الدولة، ولا يمكن لأي دولة أن تصير هي النظام أو الرئيس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق