الإجرامُ الدعويّ في تسويغ فحش الغلاء وتردّي الأوضاع المعيشية
تتهاوى العملة بسبب السّياسات الفاشلة، ويزدادُ التّضخّم وترتفع الأسعار ارتفاعًا فاحشًا فيسلّ بعضُ أهل العلم والدّعوة ألسنتهم على المنابر والشّاشات والصّفحات الزّرقاء للتّعامل مع فحش الأسعار وإنهاك الغلاء فيقدّمون خطابًا دعويًّا كارثيًّا ليكونوا مساهمين في الجريمة؛ جريمة الفتك بالمواطن المسكين وتضييع البلاد في غياهب الفشل الاقتصادي والعجز المعيشيّ من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
لا تصدّقوا الأعرابي
كلّما ارتفعت الأسعار استحضرَ فريقٌ من الدّعاة والوعّاظ قصّةً لأعرابيّ مسكين تتداولها وسائل التّواصل الاجتماعيّ بكثرة وهي “قيل لأعرابيّ: لقد أصبح رغيف الخبز بدينار؛ فأجاب: واللهِ ما هَمَّني ذلك ولو أَصبَحَتْ حبّةُ القمحِ بدينارٍ فأنا أَعبُدُ اللهَ كما أَمَرَنِي، وهوَ يرزُقُني كما وعَدَنِي”.
يُرادُ لهذا الأعرابيّ أن يكون هو نموذج المسلم الصّالح كلّما ارتفعت الأسعار وأحرق الغلاء أكباد الشّعب المسكين؛ وهذا القول فيه ترسيخٌ لجانب الإيمان بالرّازق جلّ وعلا وترسيخ اليقين وتعزيز التّوكل على الله تعالى في قضيّة الرّزق؛ غير أنّ استحضاره في إطار التّعامل مع الغلاء الفاحش النّاتج عن السّياسات الكارثيّة، وفشل المنظومات الحاكمة في إدارة المشهد الاقتصاديّ في ظلّ انقسام المجتمع إلى طبقتين؛ طبقةٍ متنفّذة تعيش التّرف وتتقلب في الأموال المنهوبة، وطبقةٍ تمثّل الغالبيّة من الشّعب تعيش مسحوقةً محطّمة همّها كيفيّة تحصيل قوت يومها، وفوق هذا عليها هي وحدها أن تتقبّل هذا الغلاء وتطفئ نيران التدهور الاقتصادي بيقينها البارد بأنّ الرّزق مقسوم ولو بلغ ثمن حبّة القمح دينارين فعليها ألّا تكترث ولا تعبأ بذلك.
هذا الأعرابيّ يمثّل إبرة تخدير يحقنها بعض الدّعاة والوعّاظ في عقول المسحوقين وأرواحهم، ليحسبوا أنّ علاج هذا الواقع المُزري المتردّي عندهم وحدهم وعليهم هم إيجاده واستعماله.
توظيفُ هذا الأعرابيّ في بعض الخطاب الدّعوي صرفٌ لأنظار المفتوك بهم عن سبب مشكلتهم الحقيقيّ وعلاجها المنطقي، وإنّك لتعجب أن تزخرَ مواقع التّواصل الاجتماعيّ ومنابرُ بعض الدّعاة بهذا الأعرابيّ بينما يغيبُ تمامًا ذلك القول المنسوب لعليّ بن أبي طالبٍ تارةً ولأبي ذرّ رضي الله عنهما تارةً أخرى وهو “عجبتُ لمن لا يجد قوتَ يومه كيف لا يخرج على النّاس شاهرًا سيفه!”.
كذبٌ على الإسلام وافتراء على الله تعالى
في كتابه “الإسلام المفترى عليه” يقول الشّيخ محمّد الغزالي رحمه الله تعالى: “إنّ كلّ دعوة تحبّب الفقر إلى النّاس، أو تُرَضِّيهم بالدّون، أو تقنعهم بالهوان في الحياة، أو تصبّرهم على قبول البخس والرّضا بالدنيّة؛ فهي دعوةٌ فاجرة يراد بها التّمكين للظّلم الاجتماعي، وإرهاق الجماهير الكادحة في خدمة فردٍ أو أفراد، وهي قبل ذلك كذب على الإسلام وافتراء على الله.
وأيّ تجاهلٍ لأحوال الأمم المحرومة من العدالة الاجتماعيّة، أو تهوينٌ لآثار الضّيم النّازل بها، أو تسكينٌ للثّوائر المهتاجة فيها؛ فهو دليلٌ على أحد أمرين: خبالٌ في العقل، أو نفاقٌ في القلب؛ وكلا الأمرين له منزلته الحقيرة من دين الله تعالى، ومن دنيا النّاس فلا يُلتَفَت إليه”.
وكذلك تجد بعض الدّعاة يستشهد بقصة مروية عن عمر رضي الله عنه وهي “جاء الناس إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: غلا اللّحم، فسعّره لنا؛ فقال: أرخصوه أنتم، فقالوا: نحن نشتكي غلاء السّعر واللّحم عند الجزارين ونحن أصحاب الحاجة، فتقول: أرخصوه أنتم؟ فقال: اتركوه لهم”.
وهذه القصّة مكذوبةٌ على أمير المؤمنين عمر، فلم يرد في أيّ كتابٍ من كتب التّاريخ أنّها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، وقد ورد قريب منها في تاريخ دمشق لابن عساكر والبداية والنّهاية لابن كثير منسوبًا إلى إبراهيم بن أدهم إذ قيل له: إن اللّحم قد غلا، فقال: أرخصوه: أي لا تشتروه.
ومن يعرف سياسة عمر رضي الله عنه يعلم جيّدًا أنّه حين ترتفع الأسعار الفاحشة فإنّه لا يمكن أن يترك الحبل على غاربه لجشع الجشعين دون من محاسبة من يكون سببًا في كارثة اقتصاديّةٍ، وكذلك حين تكون الجائحة الاقتصاديّة كبيرةً فإنّ أمير المؤمنين عمر يكون أوّل من يجوع وآخر من يشبع، ويعاني وهو في سدّة الحكم قبل أن يعاني أشدّ النّاس فقرًا في رعيته، فلا تكذبوا على عمر رضي الله عنه كي تبرّروا هذا الخراب الذي يفتك بهذا الشّعب المسكين؛ فقد أخرج أحمد بن حنبل في الزهد، وابن سعد في الطبقات الكبرى والبيهقي في السنن عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: “أصاب النّاس سنة غلا فيها السّمن، وكان عمر يأكل الزّيت فيقرقر بطنه، فيقول: قرقر ما شئت فوالله لا تأكل السّمن حتى يأكله الناس”.
وبعض الدّعاة يستشهد بما يروى عن أحد السّلف حين شكا له الناس غلاء الأسعار، فقال: أرخصوها بالاستغفار، وهذا الأثر لو صحّ فهو يعني مطالبة النّاس بالتوبة ومن شروط التّوبة الإقلاع عن الذّنب، والذّنب الذي تسبّب في هذا الغلاء الفاحش هو تولية الفاسدين وتحكيم الطّغاة المستبدّين، وهذا الاستغفار يقتضي ضمنًا توجيه المسؤوليّة إلى المتسبّب في كلّ هذا، لا ترديد عبارة “أستغفر الله العظيم” باللّسان من دون فقه مضامينها التي تقتضي التوبة إلى الله من ذنب تحكيم المجرمين برقاب العباد ومصائرهم.
فكلّ داعيةٍ أو واعظٍ يرفع عقيرته في الحديث عن استفحال الأسعار وفحش الغلاء وآثار التضخم وتهاوي العملة مقتصرًا على مطالبة النّاس بالصّبر والاحتمال، ومحببًا الزهد إلى نفوسهم، ومطالبًا إياهم بالتقشف مغفلًا الحديث عن أسباب هذه الانتكاسات، وصامتًا عن تحميل الطّبقة السياسيّة الفاسدة التي تتقلّب في الترف مسؤولية احتراق النّاس بنيران الغلاء؛ فهو يكذب على الله تعالى ويفتري على دين الإسلام وهو جنديّ من جنود الباطل والاستبداد درى أو لم يدرِ؛ فلا تصدّقّوه ولا تقيموا لكلامه وزنًا ولا قيمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق