الجنيه والليرة من التراجيديا إلى الكوميديا
وائل قنديل
في العام 2020، أي قبل ثلاثة أعوام فقط، أنتجت السينما المصرية فيلمًا بديعًا اسمه "200 جنيه"، حيث البطل في هذا العمل ورقة مالية من فئة المائتي جنيه التي تنتقل من شخص إلى آخر، صانعة قصصًا ومصائر تتباين من حكايةٍ إلى أخرى، لتكون بصدد مجموعة من الأفلام داخل شريط سينمائي واحد.
قيل في نقد الفيلم إنه تمّ تقديم فكرته على شاشة السينما قبل نحو ثمانين عاما في فيلم بعنوان "5 جنيه" للفنان السيد بدير سنة 1945، حيث البطل الورقة المالية من فئة الخمسة جنيهات التي تصنع حكايات ونهايات مختلفة باختلاف حاملها.
أتخيّل لو أنّ صناع الفيلم لم يكونوا قد صاغوا فكرتهم في العام 2020، وقرّروا تقديمها هذه الأيام، هل كانوا سيختارون "200 جنيه" عنوانًا لشريطهم السينمائي، الذي جاء موغلًا في تراجيديته؟ وهل كان المُشاهد سيستقبل بهذه الحالة من الشجن والأسى، وهو يتابع كيف تحكّمت الـ 200 جنيه في مصير المدرّس المطحون الذي لا تتجاوز مساحة الكون بالنسبة له حدود قاعة الدروس الخصوصية، التي تنسيه كلّ شيءٍ في حياته، حتى زوجته، ولا يبقى شيءٍ يشغله سوى تلك الورقة من فئة 200 جنيه التي يدفعها كلّ تلميذ في كلّ حصّة درس، إلى أن تنساه الحياة ذاتها؟ وهل كان المُشاهد سيبكي على المآسي التي فعلتها الورقة المالية الملعونة في بقية أبطال حكايات الفيلم، سائق التوكتوك وصديقه سائق شاحنة النقل، وساكن الفيلا والخادمة العابرة وسائق التاكسي الكادح ومالك العقار الجشع، ونجمة السينما، ولبّيسة النجمات الهاربة من الوسط الفني كله، لتدور في الشوارع تبيع الصور والتذكارات القديمة لتأمين نفقات علاج زوجها المقعد، وأستاذ علم الاجتماع الذي يسلك في حياته عكس ما يعلّمه للطلاب ويلقيه في المحاضرات، معلنًا أنّ ولاءه الأول والأخير هو لأوراق الـ 200 جنيه فقط؟
أغلب الظن أنّ هذا الفيلم لو تمّ تقديمه هذه الأيام بالعنوان نفسه (200 جنيه) سوف يستقبله المُشاهد باعتباره وجبة كوميديا ساخنة، سوف يضحك عليها، بدلًا من أن تبكيه، بالنظر إلى ما طرأ على الجنيه المصري من تغيّرات وتقلباتٍ عنيفة في الفترة القليلة الماضية، والانهيار الشديد في قيمته إلى الحد الذي لا يصير منطقيًا معه أن تنبني فكرة عمل سينمائي تراجيدي على ما تفعله ورقة بقيمة 200 جنيه في مصائر البشر، إذ هبطت قيمة الجنيه بأكثر من مائة في المائة من قيمته قبل عامين فقط، الأمر الذي يجعل من الفيلم المذكور واحدًا من أعمال الفنتازيا.
تذكّرت هذا الفيلم الذي واجه انتقادات مضحكة من نقاد الجمهورية الجديدة في مصر، كونه يُسقط أوهام القفزة الهائلة والكلام عن دولةٍ تسرّ الناظرين وتكيد الحاسدين، وأنا أقرأ منشورًا لطيفًا للصديق والزميل المحترم، كارم يحيى، على موقع فيسبوك يستدعي فيه من الذاكرة الفيلم اللبناني المصري "الضياع" من إنتاج بيروت 1971، وفيه يدبر رجل أعمال مؤامرة لكسر قلم صحفي يكتب عن فساده بمبلغ 5000 ليرة يدفعها لنادية الجندي، وهي تتحدث عن المبلغ لصديقاتها كثروة.
أيضًا، هذا الفيلم بمقاييس النقد الفني في سبعينيات القرن الماضي يصنَّف عملا تراجيديا قاتما عن واقع أكثر قتامة، غير أنك لو شاهدته هذه الأيام ستكون بصدد الحصول على جرعةٍ معتبرةٍ من الكوميديا المضحكة، وخصوصًا حين تشاهده وأنت تقرأ خبرًا يقول إنّ الدولار الواحد صار يساوي خمسين ألف ليرة لبنانية، وأنّ سعر منقوشة الزعتر الواحدة تجاوز العشرين ألف ليرة، وهو ما يعادل أربعة أضعاف ثمن شراء صحافي فاسد في زمن السبعينات من القرن العشرين.
ربما أكون قد أضعت وقتك في قراءة هذه السطور عن رحلة الجنيه والليرة من الازدهار والانهيار، لذا أدعوك لمشاهدة ممتعة لعمل سينمائي ممعن في الكوميديا للفنان الراحل علي الكسار بعنوان "سلفني تلاتة جنيه"، ولا أظن أنك ستضحك على الرغم من الأداء المبهر والمفارقات المثيرة.
ما كان مضحكًا قديمًا بات يبعث على البكاء الآن، وما كان يبكينا صار يضحكنا، لكن ليس أكثر مما يفعله بالناس حكام جمعوا بين التراجيديا والمسخرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق