“بالدون” ليس الأول، وكذلك “ريتشارد” ليس الأخير
من الضروري في بداية هذا المقال التأكيد على أن الله الرحمن الرحيم بعباده وقرآنه الذي أنزله رسالة نور ورحمة وهدى للعالمين، لا يمكن أن يقلل من قيمته حرق أوراقه ولو جاز لنا أن نقول مقالة الإمام الشافعي:
يُخاطِبُني السَفيهُ بِكُلِّ قُبحٍ * فَأَكرَهُ أَن أَكونَ لَهُ مُجيبَا
يَزيدُ سَفاهَةً فَأَزيدُ حِلمًا * كَعُودٍ زادَهُ الإِحراقُ طيبَا
ولا شك في أن المسلمين لا يقبلون مثل هذا العمل البغيض ويكرهون الذي يُقدِم عليه، لكن الحقيقة التي لا ينكرها ذو بصيرة هي أن ذلك الكتاب الذي يحرقه هؤلاء الغافلون هو سبيل النجاة للجميع. فهذا الكتاب هو رسالة الله الخالق الأخيرة ليس للمسلمين فقط بل إلى جميع الناس بمن فيهم “راسموس بالودان”. ولذلك فعلى الجميع التحلي بالشجاعة لفتح تلك الرسالة التي جاءت من رب السماوات والأرض، وتدبُّر ما فيها من أوامر ونواهٍ؛ لفهم ما تطرحه من أسئلة وحقائق حول الخالق وكتابه الخاتم ووجود الإنسان نفسه.
ربما لا يعتقد بعض الناس أن هذا الكتاب هو رسالة الخالق إلى المخلوقين، لكنهم لا يستطيعون التحقق من ذلك دون قراءته. فإذا فتح أحد القرآن وقرأه وحاول فهم ما ورد فيه ثم لم يؤمن، فإنه بالتأكيد سوف يوقن بأن الطريقة المثلى لمحاربته ليست إحراق أوراقه. فعلى مر العصور ثار الكثير من الناس غضبًا من هذا الكتاب وممن يؤمنون به، لكنهم لما أخلصوا وأضاء القرآن قلوبهم وعقولهم لحقوا بركب الإيمان. وبالطبع نحن هنا لا نتحدث عن واقعة إيمان الفاروق عمر بن الخطاب، لكنها لا شك تظل من أكثر الحوادث تمثيلا حقيقيا لتلك الحالة التي تتكرر في كل يوم عبر التاريخ.
إن التأثير المتجدد لرسالة القرآن لم يتوقف يوما من الأيام، فالقرآن آخر رسالات السماء إلى الأرض جاء بخطاب مثالي معجز يكشف عن الانسجام التام بين الإنسان ووجوده والكون الذي يعيش فيه، فهو سراج منير وهدى للعالمين يضيء طريق الإنسان في حياته ويجيبه عن تساؤلاته حول هذا العالم المليء بأسرار يسعى الإنسان خلفها منذ بداية الخليقة.
التذكير بقصة ريتشارد
وليس من نافلة القول التذكير بقصة “ريتشارد ماكيني”، الجندي السابق في مشاة البحرية الأمريكية الذي كان يرى الإسلام سرطانا وأنه هو الجرَّاح الذي يعالجه، لكنه حينما دخل المسجد وجد نمطا من المقاومة لم يخطط له، حدث شيء ما في ذلك اليوم غيّره بطريقةٍ لم يكن يتوقعها إطلاقًا.
فقد أراد أن يوجِّه كراهيته وبغضه ضد المسلمين الذين واجههم أثناء وجوده في الحرب في أفغانستان والعراق، إلى المسلمين الذين يقابلهم كل يوم في ولاية إنديانا الأمريكية، وذهب لقتل هؤلاء المسلمين الذين رآهم همجًا متوحشين، ولكن عندما وجد أشخاصا استقبلوه بلطف وإخلاص وإنسانية لم يكن يعلم شيئًا عنها، تغيرت حياته واستمر في زيارة المركز الإسلامي، وقرأ القرآن الكريم، وتعرَّف على الإسلام وتعاليمه، ومن عجائب لطف الله أن ماكيني بعد ثمانية أشهر من زيارته الأولى للمسجد اعتنق الإسلام، وأصبح داعية للإسلام حتى صار رئيس المركز الإسلامي الذي كان قد قرر وصمم على تفجيره وقتل ما لا يقل عن 200 مسلم فيه. وقد تكررت هذه القصة كثيرًا في أوروبا مؤخرًا على هذا النحو، الذي يبدأ بالاهتمام المبني على الكراهية ثم ينتهي بالهداية لمن يتعرف على حقيقة الإسلام والقرآن.
ولو ذهبنا إلى السياسي الدانماركي اليميني المتطرف “راسموس بالدوان” الذي حرق القرآن أمام السفارة التركية في ستوكهولم، فالله وحده يعلم مصيره، ولكن لعله ذات يوم يتعرف على حقيقة أن الكتاب الذي أحرقه كان رسالة إليه وإلى كل أوروبا بل إلى البشرية جمعاء. فالقرآن الكريم ليس رسالة إلى المسلمين فحسب، بل هو أيضا رسالة من الله الخالق أرسلها إلى جميع الناس. لكن بالودان لا يعرف ذلك حتى الآن، لذلك نأمل ألا يكون قد فات الأوان عندما يكتشف تلك الحقيقة.
من الواضح أن رغبة بالدوان في إرسال رسالة ما إلى تركيا هو ما دفعه إلى هذا العمل. ولعل هذا البُعد بالتحديد هو الذي يزيد من أهمية ما قام به بالودان. وفي هذا السياق، طرح عليَّ مقدم برنامج شاركت فيه على “بي بي سي” سؤالا: “لماذا ترد تركيا وحدها على هذا الحادث، أليس القرآن كتاب جميع المسلمين”؟! وعلى الرغم من أن الحادث لم يكن قد مر عليه إلا قليل أثناء بث ذلك البرنامج، فإن ردودا من مناطق كثيرة من العالم الإسلامي كانت قد بدأت الظهور تباعا في وقت لاحق بطرق مختلفة. لكن الحقيقة أن سؤال مقدم بي بي سي قد أغفل نقطة مهمة في الحادث، تلك النقطة الدقيقة هي التي أظهرت لماذا كانت تركيا أول من رد على ذلك الهجوم على القرآن. فالحقيقة أن اختيار السفارة التركية ميدانا لهذا العمل المشين لم يكن ضرب عشواء. ومن الواضح أنه على الرغم من كون لغة القرآن هي اللغة العربية، فإن هؤلاء الصليبيين يرون أن تركيا هي حاملة رسالة القرآن.
العلاقة بين تركيا والإسلام
فالحقيقة أنه بغض النظر عن المحاولات المستميتة من بعض الأتراك لأن يبتعدوا بأنفسهم عن الإسلام، ومحاولتهم التمييز بين الهوية التركية والإسلام، فإن الأوربيين لا يترددون أبدا في إثبات هذه العلاقة التي لا تنفك بين تركيا والإسلام، وفي كل مرة يذكرون ويبينون ويحذرون من الروابط التركية الإسلامية التي يحاول بعض الأتراك نسيانها أو حتى تناسيها. فالأتراك مسلمون، وفي نظر الصليبيين لا فرق بين المسلمين والأتراك. وإن اختيار ذلك العنصري الفاشي للسفارة التركية ميدانا ينفث فيه كراهيته للإسلام بحرق القرآن، الكتاب المقدس لدى جميع المسلمين، لا شك أنه يذكِّر الأتراك بهذه الحقيقة.
ولذلك فإن الردود التركية الرسمية التي تعتبر الأكثر فعالية وتأثيرا إزاء هذا الحادث، تؤكد أن تركيا تدرك دورها المنوط بها، والمغزى الحقيقي من وراء مثل تلك الحوادث. وكذلك كان الحال على مستوى الأمة التركية فإنها قد اتخذت موقفا جادا وجهت من خلاله رسالة ذات فعالية كبيرة إلى من يرغبون في التحقق من مدى الانسجام الديمقراطي بين فئات الأمة وكذلك بين الأمة مجتمعة ودولتها.
وبالطبع سيكون من المفيد أن نتذكر في هذه المناسبة أن الدفاع الحقيقي عن القرآن يكون بقراءته قراءة واعية وفهمه وتوظيفه في الحياة بشكل صحيح.
وقبل إنهاء هذا المقال، من المُلِحّ أن نذكّر السياسيين السويديين والأوروبيين الذين يعتبرون هذا الإجراء في نطاق حرية التعبير، فنطرح عليهم ذلك السؤال: هل يمكن ضمن حرية التعبير السماح بفعل يتضمن أي تلميحات معادية للسامية؟! بالطبع، لم ولن يسمح أحد بذلك! فما الذي يجعل من الممكن اعتبار عمل من أعمال الكراهية ضد الإسلام في نطاق حرية التعبير دون غيره؟! أم أنه ميزان مهترئ وشعارات جوفاء تتلون كالحرباء.
والقديم الجديد في هذا السياق هو ما قلناه منذ فترة طويلة، هل هذا التوجه الغربي هو حملة صليبية؟! لأن العلاقات بين تركيا والسويد قبل هذا الإجراء الذي أذنت به السويد تحت حماية رجال شرطتها، كانت النقطة الخلافية فيها هي معارضة تركيا منح السويد عضوية الناتو؛ لأنها لم تتوقف عن دعمها لحزب العمال الكردستاني. ولعل الواقع اليوم يزيد هذه الفكرة قوة، إذ إن دعم السويد لحزب العمال الكردستاني لا يتوافق مع حرية التعبير أو مع قوانين طالبي اللجوء، ويبدو أن السويد ترى حزب العمال الكردستاني وحدة صليبية في المنطقة تحاول تغذيتها وحمايتها لتستخدمها لصالحها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق