عشرة حِكَم سياسية لابن خلدون
م. محمد إلهامي
ولد ابن خلدون في شهر رمضان (732هـ)، أي قبل خمسة أعوام وسبعمائة عام، لأسرة أصلها البعيد عربي يمني إلا أن أجداده نشأوا بالأندلس فتحرف اسم الجد (خالد) إلى (خلدون) على الطريقة الأندلسية، ثم رحل أجداده عن الأندلس في زمن نكباتها فولد في تونس، ثم نبغ واشتهر وصار رجل دولة فعمل سفيرا وكاتبا ووزيرا في أكثر من دولة، في بلاط دولة بني مرين في المغرب ثم بني الأحمر في غرناطة ثم المماليك في مصر التي ختم فيها حياته.
وقد اشتهر بمقدمته البديعة التي طالما أثارت الإعجاب حتى قال فيها المؤرخ الإنجليزي المشهور أرنولد توينبي أنها أفضل ما كتبه بشر.
ونحن في هذه السطور نحيي ذكراه بإيراد عشرة من حِكَمه السياسية العميقة، التي لو أدركها قادة الرأي فينا لما وصلنا إلى هذا الحال أبدا، ثم إنهم إذا لم يدركوها الآن فلن يكون حالنا غدا إلا أسوأ من حالنا اليوم.
“المُلْك قَلَّ أن يسلّمه أحد لصاحبه إلّا إذا غُلِب عليه، فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة، وشيء منها لا يقع إلّا بالعصبيّة، وهذا الأمر بعيد عن أفهام الجمهور بالجملة ومتناسون له، لأنّهم نسوا عهد تمهيد الدّولة منذ أوّلها وطال أمد مرباهم في الحضارة وتعاقبهم فيها جيلا بعد جيل”.
“الدّول العامّة في أوّلها يصعب على النّفوس الانقياد لها إلّا بقوّة قويّة من الغلب للغرابة وأنّ النّاس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه، فإذا استقرّت الرّئاسة في أهل النّصاب المخصوص بالملك في الدّولة وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النّفوس شأن الأوّليّة واستحكمت لأهل ذلك النّصاب صبغة الرّئاسة ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم”.
“الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، وهذا لأنّ كلّ أمر تُحمل عليه الكافّة فلا بدّ له من العصبيّة وفي الحديث الصّحيح «ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى النّاس بخرق العوائد فما ظنّك بغيرهم؟!”.
“اعلم أنّ السّيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدّولة يستعين بها على أمره إلّا أنّ الحاجة في أوّل الدّولة إلى السّيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشدّ من الحاجة إلى القلم لأنّ القلم في تلك الحال خادم فقط منفّذ للحكم السّلطانيّ والسّيف شريك في المعونة”.
“إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم، وتذهب المنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة”“إن الملك إذا كان قاهراً، باطشاً بالعقوبات، منقباً عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بها، وفسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمددافعات، ففسدت الحماية بفساد النيات، وربما أجمعوا على قتله لذلك فتفسد الدولة ويخرب السياج، وإن دام أمره عليهم وقهره فسدت العصبية، وفسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية. وإذا كان رفيقاً بهم متجاوزاً عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه، فاستقام الأمر من كل جانب”.“من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلميبن أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى انسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف”.
“فعاقبهم الله بالتيه، وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة لم يأووا فيها لعمران، ولا نزلوا مصراً ولا خالطوا بشراً، كما قصه القرآن لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه. ويظهرمن مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة، وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة، فنشأت لهم ذلك عصبية أخرى اقتدروا بها علي المطالبة والتغلب. ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر. سبحان الحكيم العليم”.
“الأمة إذا غُلِبَت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء والسبب في ذلك، والله أعلم، ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم، فيقصر الأمل ويضعف التناسل، والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل وما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية. فإذا ذهب الأمل بالتكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال وكانت العصبية ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم، تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم، وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم، بما خضد الغلب من شوكتهم، فأصبحوا مغلبين لكل متغلب وطعمة لكل آكل”
“يكثر خراج السلطان خصوصاً كثرة بالغة بنفقته في خاصته، وكثرة عطائه، ولا تفي بذلك الجباية. فتحتاج الدولة إلى الزيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء، والسلطان من النفقة، فيزيد في مقدار الوظائف والوزائع أولا كما قلناه، ثم يزيد الخراج والحاجات والتدريج في عوائد الترف وفي العطاء للحامية، ويدرك الدولة الهرم، وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال والقاصية، فتقل الجباية وتكثر العوائد، ويكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم. فيستحدث صاحب الدولة أنواعاً من الجباية يضربها على البيعات، ويفوض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق، وعلى أعيان السلع في أموال المدينة. وهو مع هذا مضطر لذلك بما دعاه إليه ترف الناس من كثرة العطاء مع زيادة الجيوش والحامية. وربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة، فتكسد الأسواق لفساد الأمال، ويؤن ذلك باختلال العمران، ويعود على الدولة، ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل”.
“اعلم أن العمران على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالأمال جملة بدخوله من جميع أبوابها. وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته. والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين. فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق