موجز قصة النكبة
الأستاذ محمد إلهامي -
باحث في التاريخ و الحضارة الإسلامية
2017-12-تعد قصة إنشاء إسرائيل من أهم القصص التي يجب أن تدرسها الحركات الإسلامية وكافة الساعين إلى التغيير، كما ينبغي أن يتعلمها أبناء المدارس وأبناء جيل الصحوة، ذلك أنها نموذج لنجاح باهر في تأسيس دولة من العدم، ثم إنها ليست أي دولة بل هي الدولة التي ينعقد على وجودها وفنائها مصير العالم، إنها جوهر الصراع الحضاري العالمي، كما يقول د. جمال حمدان في “استراتيجية الاستعمار والتحرير”.
تبدأ القصة حين نشر هيرتزل كتابه “الدولة اليهودية” (1896م)، وكان في التاسعة والثلاثين من عمره، وقد تمتع بصبر وعزيمة وذكاء يثير الإعجاب وإن كرهنا، واستطاع أن يسوِّق للغرب حلا للمشكلة اليهودية المزمنة بأن يجعلوا منهم قاعدة استعمارية غربية متقدمة في الشرق. في العالم التالي كان هيرتزل يحول كتابه إلى برنامج عمل في اجتماع بازل السويسرية (1897م)، ويناقش مسائل السياسة والأموال والكوادر البشرية.
لم يتوقف رغم فشله مع الدولة العثمانية والألمان، ولم يتوقف عمله رغم موته المبكر (1904) وهو في الرابعة والأربعين من عمره، فقد ورثه من لا يقل عنه كفاءة ودأبا وذكاء: حاييم وايزمان، عالم الكيمياء سابقا، وزعيم الصهيونية الثاني والأهم على الإطلاق.
صرح رئيس الوزراء البريطاني كامبل (1907م) بضرورة إنشاء كيان غريب في منطقة شرق المتوسط وعلى مقربة من قناة السويس يكون مواليا للغرب، في تلك اللحظة التي اقتنع فيها ساسة بريطانيا بمشروع الدولة اليهودية كان وايزمان في فلسطين يبحث عن أراضٍ يمكن شراؤها، ويؤسس شركة “تطوير أراضي فلسطين”.
لم يمض عامان على هذه اللحظة إلا وتأسست بذرة الجيش الصهيوني (1909م) كحرس لحماية المستوطنات اليهودية، بعدها بعامين آخرين (1911م) رفع اليهود مطلب الاعتراف باللغة العبرية لغة رسمية.
وصل الاختراق الصهيوني إلى درجة وزير في الحكومة البريطانية، ذلك هو هيربرت صموئيل المؤسس الحقيقي لإسرائيل، وكان من الذكاء والفهم بحيث رفع مذكرة للحكومة (1915م) يقول فيها بأن الوقت غير مناسب لإنشاء وطن يهودي في فلسطين، ولا بد من احتلال بريطاني يمهد الأوضاع ويهيئ الأرض لهذا المشروع!
وبالفعل، انتهت الحرب العالمية الأولى، واحتلت بريطانيا فلسطين (1917م)، ودخل الجيش البريطاني القدس وضمن صفوفه أول ميليشيا يهودية مدربة على يد الإنجليز، وساعتها زار حاييم وايزمان القدس، لا باعتباره مستثمرا كما في أول مرة، بل باعتباره زعيم المشروع الذي يجري تأسيسه.
لم يكن المشروع ليتم لولا غفلة العرب وسذاجة وخيانة حكامهم، فقد أغرى الإنجليز فيصل بن الشريف حسين ليوافق على قيام دولة يهودية في فلسطين، وقد وافق “الثائر” الذي كان يرجو مساعدة بريطانيا في حركة استقلال العرب عن العثمانيين وتنصيب أبيه خليفة (1919م)!
منذ نزلت الحركة الصهيونية إلى فلسطين في ظل الاحتلال البريطاني أنشأت نواة جهازها الاستخباري (1919م) ليجمع المعلومات المفصلة ويرسم خريطة واضحة عن: مدى القبول الشعبي بالمشروع الصهيوني، خريطة الأراضي الفارغة، خريطة السكان، الأراضي التي يسهل شراؤها، السكان الذين يُتوقع منهم المقاومة. فصار لها الآن: جهاز أمني، وجهاز عسكري. وبقي الجهاز السياسي!
حينئذ نصبت بريطانيا الصهيوني هيربرت صموئيل حاكما بريطانيا على فلسطين (1920م) لينفذ بنفسه ما كان قد اقترحه قبل خمس سنوات من تهيئة الأرض عبر البريطانيين للإنشاء الدولة اليهودية، وقد فعل هيربرت صموئيل ما يجعله مؤسس إسرائيل الحقيقي؛ ذلك أنه بخلاف تدفق الهجرة اليهودية: سَمَحَ لليهود بالتسلح وبناء جيش منفصل، وسمح لهم بنظام تعليمي منفصل، وأقرَّ العبرية كلغة رسمية، واستولى لنفسه على كل الأراضي المشاع وما يؤول إلى الحاكم ثم منحه اليهود بخلاف مائة قانون أصدرها تسهل تسريب الأراضي لليهود.
وبينما هيربرت صموئيل يقيم الدولة اليهودية في فلسطين، يعمل حاييم وايزمان على مستوى السياسة، مستعينا بآل روتشيلد على مستوى الاقتصاد والتمويل، وهكذا جرى توزيع الأدوار والتغطية بالقوة البريطانية العظمى في وقتها.
بعد خمس سنوات (1925م) تضاعف عدد اليهود، ومستوطناتهم، وبدأت تظهر مؤسساتهم وأجهزتهم الإدارية المنفصلة: استقلال ذاتي لتل أبيب، نقابة عمال بزعامة بن جوريون، احتفال مهيب بإنشاء الجامعة العبرية حضره: لويد جورج (رئيس الوزراء البريطاني) واللنبي (الحاكم العسكري البريطاني) وبلفور، وتشرشل، وحاييم وايزمان، وهيربرت صموئيل.
تجدر الإشارة إلى أن اليهود استعملوا النداء الديني والخطاب التوراتي بشكل أساسي، بما في ذلك العلماني منهم، وقد بُذِلت مجهودات عظيمة في إعادة بعث واستعمال اللغة العبرية الميتة لتكون لغة الدولة الجديدة، وبهذا حافظ اليهود على مدد دائم وألهبوا طاقات كامنة وخاطبوا جماهير اليهود حول العالم بما يستثير إمكاناتهم.
في كل انتفاضة شعبية كان السلاح البريطاني يتحرك بعنف لإخماد كل مقاومة، واستعملت أسلحة القتل والاغتيال والاعتقالات والنفي والمحاكمات، مع ما يساند هذا من عمل استخباري، وما يغطي هذا كله من عمل سياسي يثير الفرقة بين الزعامات الفلسطينية ويرصد تدابيرها لإجهاضها.
عند العام (1935م) كانت مصانع الصهيونية تصدر الألماس والأقطان إلى خارج فلسطين، وهو ذات العام الذي استشار فيه عز الدين القسام القيادات الفلسطينية في إشعال ثورة على الإنجليز فكان ردهم أن الشعب لم يتهيأ بعد والوقت غير مناسب وما يزال الأمل قائما في الوصول إلى الحقوق من خلال المحاورة والمفاوضة مع الإنجليز. إلا أن القسام أشعل ثورة وكان هو من شهدائها، وشهدت فلسطين عام (1936) أطول إضراب في تاريخها إذ استمر لستة أشهر ثم انتهى بعد تدخل “الحكام العرب” بالنصيحة والتوصية بوقف الإضراب مع الوعد بالتفاهم مع الإنجليز.
في ذلك الوقت كان الوجود الصهيوني قد صار مستقلا عمليا عن الإنجليز ويملك قراره المستقل، وكان الجهاز الأمني الإسرائيلي قد تطور ليصير له جهاز تنصت في مكتب الحاج أمين الحسيني، وهو بمثابة القائد السياسي للثورة الفلسطينية، فكانت تحركات المقاومة الفلسطينية مكشوفة للصهاينة، وقوبلت الثورة الفلسطينية المشتعلة بكافة أنواع القمع الإنجليزي، وكانت الطريقة المتبعة هي: قتل القادة الميدانيين، فصل القادة السياسيين عما يجري بالأرض من خلال النفي أو تسهيل الهروب من فلسطين، وتجريد الناس من كل أنواع السلاح، فمن وجد في بيته ولو بقية رصاصة فارغة نسفوا بيته. وألقت بريطانيا بثقلها لإنهاء الثورة التي استمرت لثلاث سنوات فدفعت بعشرين ألفا من قواتها تحت قيادة أربعة جنرالات كبار ممن شاركوا في الحرب العالمية الأولى.
في المقابل كان اليهود يزيدون عددا بالهجرة، وعتادا بالإمداد الإنجليزي، وخبرة بالتدريب العسكري، وبلغوا من الفعالية حدَّ أن أسسوا لمنظمات “إسلامية” و”وطنية” تشاغب على المنظمات الإسلامية الوطنية الحقيقية وتثير الفرقة والأزمة، وكان الجهاز الأمني قد تكونت لديه صورة واضحة عن أفراد المنظمات الإسلامية في فلسطين، من منهم يسهل التعامل معه، ومن الذي يمكن شراؤه بالمال، ومن الذي لا حل إلا بالتخلص منه.
في أثناء الثورة شكلت بريطانيا لجنة لدراسة الوضع، كعادتها في تشكيل اللجان بُغية تبريد المقاومة ومطّ فترة المفاوضة لشراء الوقت وقمع الثائرين، وبالرغم من كل ما صنعه اليهود من هجرة وتواجد إلا أن مساحة ما يملكون من الأرض فعليا لم تزد على خمسة بالمائة، تتركز في شمال فلسطين، لكن اللجنة انتهت إلى اقتراح تقسيم الأرض بين العرب واليهود، ومنحت اليهود ثلث فلسطين الشمالي، ومنحت العرب ثلثي فلسطين الجنوبي، وجعلت المنطقة الواصلة بين القدس وحيفا مستعمرة بريطانية!! فكان ذلك مكسبا جديدا لليهود أخذوه بقوة السياسة البريطانية إلا أنهم –وكعادتهم-لم يتوقفوا عنده.
أسفرت سنوات الثورة الثلاث (1936 – 1939) عن استشهاد خمسة آلاف فلسطيني، وجرح أربعة عشر ألفا، بخلاف من اعتقلوا أو من طُردوا أو من اضطروا للهرب، وبهذا تمت تصفية الجيل الذي يمكنه التصدي للعصابات الصهيونية بعد عشر سنوات. أي أن الواقع العملي هو أن النكبة وقعت بإخماد الثورة الفلسطينية في نهاية الثلاثينيات.
وفي نهاية الثلاثينات وقعت أحداث درامية، فباشتعال الحرب العالمية الثانية انضم خمسة عشر ألف يهودي إلى صفوف الحلفاء، فتحصل لهم من الخبرة والتدريب واستعمال السلاح ومعرفة العلوم العسكرية ما لم يكن متحصلا للفلسطينيين بحال، عندئذ تحولت “الهاجانا” إلى جيش حقيقي، يملك مجموعة من الطائرات. وفي تلك الفترة وبالتوازي مع هذا المجهود العسكري كان المجهود الأمني الاستخباري يعمل على إتماما ملف “القرى” التي يستكمل فيها معلومات واضحة وتفصيلية عن كل قرية فلسطينية من حيث: نوعية الأرض، الحالة الاقتصادية للسكان، الميول السياسية، مدى سهولة أو صعوبة احتلال هذه القرية.
وللحديث بقية، في المقال القادم بإذن الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق