الاثنين، 2 يناير 2023

العلم النافع والعلم غير النافع(حوارات الدين والطب و السياسة)

  العلم النافع والعلم غير النافع

حوارات الدين والطب و السياسة

الدكتور محمد الجوادي

قال لي أستاذي ذات مرة في نهاية حوار طويل: هل تعرف يا محمد أني مع تقديري لكل حديثك أعتبر أنك تهتم أحيانا بما يمكن أن يسمى بالعلم غير النافع، بل إنك ربما أضعت وقتًا ثمينًا فيه.
قلت: مثل ماذا؟
قال: لا أقصد محاورتنا اليوم فهي كلها منافع وفوائد.
قلت: شكرا.
قال: لا شكر على اعتراف بالحق فكلها منافع فعلا.
قلت: فماذا تقصد بالعلم غير النافع إذاً؟
قال: أعطيك مثلا.. كنت في الأسبوع الماضي أطالع كتابا من كتب تفسير القرآن الكريم؛ فوجدت أنهم قد حسبوا تكرار كل حرف من حروف اللغة العربية في القرآن الكريم ، فبماذا يجدي هذا غير الألاعيب التي نسمع عنها الآن من سر العدد كذا، وما يسمونه بالإعجاز العددي للقرآن الكريم.
قلت: لا يا سيدي، إن هذا من أكثر الأمور إفادة للبشرية.
مال الأستاذ برأسه للخلف ، وكأنه صعق لهذا التقرير الحاسم وقال بطريقته: احك لي كيف كان ذلك؟ وكانت هذه الجملة من لوازمه المفضلة.
قلت: هل تعرف الآلة الكاتبة؟
قال: بالطبع.
قلت: هل تعرف ترتيب الحروف عليها؟
قال: لم أفكر في أن أشتغل مكان هدى السمري (كانت سكرتيرة القسم في ذلك الوقت هي السيدة هدى السمري ، ومن الطريف أنني في برنامج صباح الخير يا مصر على الهواء ، ومع ما عرف عني من انتباه وتيقظ ومعرفة بأسماء المذيعين والمذيعات أخطأت ذات مرة فتحدثت إلى المذيعة الأستاذة هناء سمري على أنها السيدة هدى السمري وعجبت هي لهذا الخطأ الفاحش).
قلت: أنت تعرف بالطبع أني لم أقصد هذا.
قال: فماذا قصدت؟
قلت: هل حانت منك التفاتة ذات مرة إلى ترتيب مفاتيح الآلة الكاتبة الكهربائية وأنت جالس إلى جوار مَنْ يكتب لك الامتحان في مكتب الآلة الكاتبة بالمنتزه عندما يتركك بعض دقائق ، ويقوم إلى دورة المياه أو إلى أي شأن من الشؤون بينما أنت ملازم للمكتب حفاظًا على سرية الامتحان.
قال في محاولة للتعبير عن الاندهاش من معرفة محدثه بمكان «مطبعته السرية»: حتى هذه الجزئية تعرفها!!
قلت: أنا لا أعرف المطبعة السرية فقط ، ولكن العصفورة التي تعمل لحسابي أخبرتني عما تفعله في أثناء وجودك فيها من العبث الهادئ بلوحة المفاتيح.
ضحك وقال: حدث فعلًا أكثر من مرة أني كنت أتأمل هذا الترتيب ، ولكني لم أشغل بالي به.
قلت: كنت متأكدًا من أنك تأملته.
قال: وماذا بعد التأمل؟
قلت: تعرف حضرتكم أن الحروف مرتبة في ثلاثة صفوف.
قال: بل هي أربعة يامحمد.
قلت: الرابع العلوي للأرقام وليس للحروف.
قال: نعم، وما الفارق بين الصفوف الثلاثة؟
قلت: إن لوحة مفاتيح الآلة الكاتبة وكذلك لوحة مفاتيح الكمبيوتر من بعدها قد وزعت الحروف على الأصابع ، وجعلت أكثر الحروف تكرارا في صف الارتكاز بحيث لا تمتد إليها الأصابع لمسافة طويلة مما قد يعوق سرعة الحركة، وإنما تكون واقعة تحت الأصابع مباشرة، وبالطبع فإن هذا الترتيب لم يحدث على هذا النحو الذكي إلا بناء على إحصاءات تكرار الحروف في الاستخدام اللغوي.
قال أستاذي في هدوء شديد كأنه هدوء ذلك المؤمن المسنّ البسيط، الذي يستمع إلى درس العصر في المسجد: وفوق كل ذي علم عليم!! ومَنْ علمك هذا؟
قلت: قرأته في كتاب أو في مدخل في إحدى الموسوعات العلمية عن جهاز « الآلة الكاتبة».
قال: بأية لغة؟
قلت: أغلب الظن أنه بالإنجليزية.
قال: أوليس هذا متاحًا باللغة العربية لأقرأه كما قرأته أنت ؟
قلت: لو كان متاحا لكنتم سيادتكم أول العارفين به.
قال في تخابث محبب: ولكن يبدو لي أنك تستغل حقيقة ما اعترفت لك به من أني لا أقرأ بالإنجليزية إلا الطب (وكان في الواقع قد حدثني بهذا المعني قبلها بشهر أو شهرين، وأشار إلى أنه يتمنى لو واظب على قراءة مجلة أسبوعية باللغة الإنجليزية، وقلت له إن هذا ليس صعبا ، ولا ينبغي أن ينتظر حتى يجعل هذا من عاداته الروتينية وإنما يكفيه أن يأخذ بالمبدأ القائل إن ما لا يدرك كله لايترك كله).
قلت: أوتظنني ساذجا حتى أرد على سؤالك فأعترف ضمنا بأني أخطئ في حق سيادتكم؟
قال بعطف : ولم لا إذا كنت تفوقني بالفعل في كثير من الأمور؟
قلت: وأين إنجليزيتي من إنجليزيتك مفردات ونطقا؟
قال: ولكنك تستعملها أضعاف ما أستعملها.
قلت: إنه استعمال المضطر إلى كسب العيش وأداء الواجب كما الحوذي يقود الحصان ليل نهار بينما أنت تمارس الفروسية ممارسة النبلاء.
قال: أتصرفني عن الاعتراف بجهلي وتستغل مهارتك البلاغية بأن تضفي علىّ ما ليس فىَّ.
قلت: بل إني أنفي الجهل عن سيادتكم وأثبت ما هو حق ، ولا آتي بما ليس حقيقيا.
قال: ولكنك تجيد الصياغة والبلاغة إلى درجة كبيرة.
قلت: إن الصياغة لا تستطيع أن تنفي جهلًا ولا أن تثبت فضلًا ، ولكن التواضع هو الذي قد يوحي بالنقيض.
قال: وهل يحتاج جهلي إلى دليل بعد هذا الذي أوضحته أنت الآن؟
قلت: أفجهل جزئية يكفى لأن نصف مَنْ جهلها بهذا الوصف؟
قال: ولكنه (يقصد نفسه) جاهل فعلا بها.
قلت: أفيجوز لك أن تستعمل في وصف نفسك الفعل اللازم مكان الفعل المتعدي؟
قال: إني أعرف اللازم والمتعدي معرفة جيدة، لكني لم أكن أتصور أن لهذا التقسيم النحوي بعدًا فلسفيًا إلا الآن، ولكن خبرني هل له هذا البعد حقًا أم أنك أوهمتني بهذا كعادتك في سِحْر ناظري؟
قلت: إني أرى وأعلن رأيي في وضوح أن النحو العربي مكون أساسي من مكونات الفلسفة العربية.
قال: إلى هذا الحد؟
قلت: نعم.
قال: وما علاقة الفلسفة بالنحو؟
قلت: تعريفها لا يتيح للنحو أن يهرب منها.
قال: فإن هرب؟
قلت: يعود.
قال: ومَنْ يعيده؟
قلت: مَنْ تأتيه الفرصة.
قال: أظنك تتحدث عن نفسك.
قلت: إذا أعطاني الله عمرا.
قال: وماذا أنت فاعل بالفلسفة أيضاً؟
قلت: أضم إليها أصول الفقه، وأصول النقد العربي القديم.
قال: أويتركك أهل هذه العلوم؟
قلت: ربما ساعدوني.
قال: لا أظن.
قلت: فإن حدث.
قال: أكون أول الفرحين لك وبك.
قلت: هل أدلك على مَنْ علمني هذا؟
قال: إنما هي توريطة جديدة، وستنسب إليه فضلًا لا أدعيه ولا أعرفه.
قلت: أيصل بك التواضع إلى أن تنكر أنك دائمًا تسألني: وما فلسفة فلان في تشخيصه؟ وما فلسفة علان في وصف هذا الدواء؟
قال: إني أفعل هذا كثيرا.
قلت: ألست أنت بهذا الذي علمتني معنى واسعًا للفلسفة؟
قال: إذا كان الأمر كذلك فبها ونعمت، لكنك تعرف أني أستخدم اللفظ بمعناه المحور أو المجاز، ولم أكن أتصور نفسي على نحو ما صورتني الآن صاحب إسهام في تعريف علم الفلسفة.
قلت: إنما هو إعادة تعريف إن نجحنا ووفقنا.
قال: الفضل في إعادة التعريف لا يقل عن وضع التعريف.
قلت: نسأل الله التوفيق، ورضا أساتذتنا، وألا يعوقونا.
قال: ماذا جاء بنا إلى هذه النقطة؟
قلت متخابثاً: كنا نبرأ بك عن الجهل الذي وصفت نفسك به حين جهلت جزئية ما.
قال: غلبتني، أشكرك لأنني أنا المستفيد لأنك نفيت عني الجهل الكلي وجعلته جهلًا بجزئية فحسب.
عندئذ وصلت إلى مرحلة من الانتشاء، لأني خرجت مرة بعد أخرى من مطبّات متتابعة كانت كفيلة بأن توقع الإنسان في سوء التهذيب، ومن حفرات متتابعة كانت تدفع إلى قلة الذوق، فضلا عن أنني فرضت نفسي ومعرفتي بما فيه الكفاية.
وكنت أظن أني قد أقنعت أستاذي بأن يكفّ عن تبنيه لنظرية العلم النافع والعلم غير النافع، لكني سرعان ما اكتشفت أني كنت واهماً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق