البرُّ بالأب تشارلز داروين
أحمد عمر
هرع إليّ صاحبي السوري مذعوراً، يضرب كفّاً بكف، وهو من أهل كهف الكهف -لم يسبق له أن مسَّ هاتفاً نقالا- وأراني بشراً في أخبار عالمية، اختاروا أن يمتسخوا كلاباً وخنازير وقردة، فارتدوا أزياء حيوانية، وشوهوا وجوههم، وطمسوا أنوفهم، ونقشوا جلودهم بالنقوش، وقرطوا آذانهم بالقروط، وعلقوا في أعنّتهم السواجير، يجرّون بها في الأسبلة، أو انحطوا من مساكنهم الفاخرة إلى حظائر البهائم يعيشون فيها عيش السعداء!
فهوّنتُ عليه الأمر، وهو أمر عظيم، وإنَّ هذا الحطّ من المنزلة الإنسانية إلى الدركة البهيمية اقتضى ثلاث مراحل من الزمن حسب مقلوب نظرية داروين؛ مرحلة الترغيب في التحول إلى حيوان والتبشير به، ثم مرحلة الامتساخ لحيوانات، وتليها مرحلة ثالثة قادمة وهي التي أعلن عنها صاحب تويتر إيلون ماسك بالأمس وهي التشييء، أي تحويل البشر إلى أشياء؛ أمتعة وأثاثا ورئيا.
البدايات قديمة، نجدها في حيوانات السانتورس الإغريقية وهؤلاء نصفهم بشر ونصفهم خيول، وفي عقيدة التقمص بعد الموت الشرقية، ثم نظرية داروين وأصل الإنسان الحيواني، لكن شوق الأوروبي "الوفيّ" إلى الحيوان استقر في رتبة الكلب، والحيوانات مكرمة عموما في بلاد الفرنجة.
انظر يا صاحبي إلى منزلته الجليلة في البلاد الأوروبية، يأكل الكلب ما لذَّ وطاب من اللحوم المطبوخة والمعدَّة بطعوم مختلفة، على أنغام الموسيقا، تصحبها الحلوى والفواكه، وله أطباء نفس، ومحلات بيع، وأماكن ترفيه، ومسابقات جمال ودلال. وهو أغلى ثمنا من حُمر النعم، وإن مهنة طبيب الكلاب هي من أرفع المهن أجراً في أوروبا، وصاحب الكلب يحرسه ويرعاه ويحوطه. وكان الكلب هو الذي يحرس الإنسان. وللحيوانات حقوق محفوظة في الدستور الأوروبي، ومؤسسات حكومية تطمئنّ عليها فحصاً وتفتيشاً وتغريماً وعقاباً، ومكانته في إحدى التعريفات المستطرفة تلي مكانة الضعفاء؛ الطفل والمرأة، ولتعلمن أنّ المرأة في أوروبا صبيّة دائما.
وإنّ البشرية ترتكس إلى المرحلة الطوطمية الأولى، وقد اشتغلت السينما على هذا الأمر نحو نصف قرن تبشيراً وتمهيداً وتأليفا وترغيبا، بدأت بمدينة المتعة ديزني لاند التي جعلت من الفأر ميكي قديساً وبطلاً، ثم كثر البهم الأبطال في السينما؛ أفلام كرتون للصغار والكبار أو أفلام روايات للكبار والأطفال، حتى بلغ الأمر بفرنسا الدولة النووية، التي توصف في الأدبيات بعاصمة الأنوار، أن دعت إلى العيش مع الفئران التي تكاثرت في الآونة الأخيرة مع إضرابات عمال النظافة، حتى أصبح سهم كل باريسي فأرين ونصف الفأر. وقد نسمع في قابل الأيام عن الثروة الفأرية مثل الثروة السمكية!
وكأن باريس نسيت "الموت الأسود" الذي ضربها في القرن الرابع عشر عندما أعدم الباريسيون جميع الهررة، لشبهة استعمالها في السحر الأسود، فتكاثرت الفواسق، وانتشر الطاعون حتى قضى على نصف سكان فرنسا، فذاقوا وبال أمرهم وحقَ عقاب.
السينما تعريفاً هي الفن السابع ترتيباً، لكنها الأولى تأثيراً، وأبطالها الخارقون أنصاف بشر وأنصاف حيوانات؛ سبايدرمان، وبات مان، وكات وومن، و"هالك" الغاضب -والغضب خصيصة نارية وهي من خصائص الشيطان- والرجل الناري، أما الرجل القمامة، فهو أحد أبطال أفلام الرعب. ولن تجد في الآداب العربية؛ جاهلية وإسلاماً بطلاً مُحقت بشريته بهيمة، ومسخت آدميته حيواناً، فإن وجد أشخاص مُسخوا حيوانات ففي حكايات ألف ليلة وليلة، وهو أدب ملتبس المصدر، يقول الباحث بهاء الأمير إن مؤلفه من بني إسرائيل، وإن الممسوخين في حكاياتها ليسوا أبطالاً على شاكلة الأبطال الخارقين في السينما الأمريكية، فهم كائنات مسحورة عقاباً أو انتقاماً، وإن وُجد بطل عربي عظيم مثل سيف بن ذي يزن أو حمزة البهلوان، فالحيوانات والعفاريت تخدمه وتحوطه، لكن لا مسوخ في الأخبار العربية والإسلامية.. المسخ عقوبة إلهية.
أما المرحلة الثالثة التي نحن على أعتابها، فهي مرحلة تحويل البشر إلى آلات وأشياء، وقد بشّر بها الملياردير إيلون ماسك، حاكم مملكة تويتر في بلاد قاف، وكان قد بشّر بالأمس بزرع أول رقاقة إلكترونية في رأس إنسان! لم يكتف برقاقة اليد وطائر العنق الهاتف الخلوي، التي لا تحيط بأعمال الإنسان ودقائق نفسه كلها، فطمع في الاقتراب من الإنسان أقرب من حبل الوريد، فأفضل سُبل التحكم بالإنسان هي أسراره، وكان هو وأمثاله من ملوك وسائل الإعلام قد ملكوا البشر بالاطلاع على تغريداتهم (التغريدات صوت الطيور)، ونجواهم وصورهم وأطعمتهم فهي رقائق معنوية ستبدل برقائق إلكترونية، تحويلا للإنسان إلى طيور في الأقفاص ودمى في الخزانة.
من خصائص الطغيان الشراهة والعلو، فأصحاب رؤوس الأموال الكثيرة يريدون البشر مثل الآلات تستجيب للأوامر الإلكترونية.
المسخ ضربان حسب قول أحد الحكماء: مسخ العقوبة وهو مسخ الخَلق، ومسخ يحصل في كل زمان وهو مسخ الخُلُق، وذلك أن يصير الإنسان متخلّقاً بخلق ذميم من أخلاق بعض الحيوانات؛ نحو أن يصير في شدة الحرص كالكلب، وفي الشرَه كالخنزير، وفي الغمارة كالثور. قال: وعلى هذا أحد الوجهين في قوله تعالى: "وجعل منهم القردة والخنازير"، وقوله: "لمسخناهم على مكانتهم"، يتضمن الأمرين، وإن كان في الأول أظهر، والمسيخ من الطعام ما لا طعم له، وهو ما تنوي وكالات التحويل البشري صناعته، بعد تحريم اللحوم على البشر، وجعلهم كالأنعام. قل لي ما طعامك أقول لك من أنت.
بعد هذه الديباجة، قلّبتُ على صاحبي المواجع، فأخبرته أن حكوماتنا الطغيانية العربية، قد سبقت هؤلاء في مسخ شعوبها على مكانتهم، بالمسخ المعنوي، من غير رقائق جسمانية أو معنوية، وأن النظم الغربية والشرقية تعمل سنين دأبا على مسخ البشر. وإنَّ المسخ الأوروبي أنعم من المسخ العربي وأرقّ، وإن كان العربي محصناً بدينه وأعرافه من امتساخ الهيئة، لكنه رضي بالمسخ المعنوي كرهاً وغصبا.
وإن رؤساءنا الأفاضل، وملوكنا الأماثل، قد مسخونا بهائم، فليس لنا أصوات انتخابية، ولا كرامة بشرية، امتساخنا هو على الخُلُق وليس على الخَلْق.
ولم أكن بحاجة لذكر البراهين على قولي، فهو يعلم أننا عشنا كالأرانب في المدارس، وكالسلاحف في الجامعة، وفي الجيش كالحشرات، أما السجن والقتل، فكان عقاباً للذين أبوا العيش كالأرانب والحشرات والقرود.
قال: لكن هؤلاء المسوخ يأكلون فاخر الطعام، ويشربون لذيذ الشراب!
أصل المسخ ودركته الأولى أن يعيش المرء بحواسّه الخمس، فمن عاش بها "تحيوَن" على قدمين، وهو من تعريفات العلمانية الشاملة عند الباحث المصري عبد الوهاب المسيري.
سكت صاحبي الذي خرج من كهف كهفه، وكان أهل الكهف عندما بعثوا من رقادهم وجدوا أن العملة قد تغيرت، أما صاحبي فوجد أن الناس قد مُسخوا بهائم وأنعاماً والعملة أرقاما. ولم أعرف إن كان سكوت رضا، أو سكوت سخط، أو سكوت يأس.
twitter.com/OmarImaromar
فهوّنتُ عليه الأمر، وهو أمر عظيم، وإنَّ هذا الحطّ من المنزلة الإنسانية إلى الدركة البهيمية اقتضى ثلاث مراحل من الزمن حسب مقلوب نظرية داروين؛ مرحلة الترغيب في التحول إلى حيوان والتبشير به، ثم مرحلة الامتساخ لحيوانات، وتليها مرحلة ثالثة قادمة وهي التي أعلن عنها صاحب تويتر إيلون ماسك بالأمس وهي التشييء، أي تحويل البشر إلى أشياء؛ أمتعة وأثاثا ورئيا.
البدايات قديمة، نجدها في حيوانات السانتورس الإغريقية وهؤلاء نصفهم بشر ونصفهم خيول، وفي عقيدة التقمص بعد الموت الشرقية، ثم نظرية داروين وأصل الإنسان الحيواني، لكن شوق الأوروبي "الوفيّ" إلى الحيوان استقر في رتبة الكلب، والحيوانات مكرمة عموما في بلاد الفرنجة.
انظر يا صاحبي إلى منزلته الجليلة في البلاد الأوروبية، يأكل الكلب ما لذَّ وطاب من اللحوم المطبوخة والمعدَّة بطعوم مختلفة، على أنغام الموسيقا، تصحبها الحلوى والفواكه، وله أطباء نفس، ومحلات بيع، وأماكن ترفيه، ومسابقات جمال ودلال. وهو أغلى ثمنا من حُمر النعم، وإن مهنة طبيب الكلاب هي من أرفع المهن أجراً في أوروبا، وصاحب الكلب يحرسه ويرعاه ويحوطه. وكان الكلب هو الذي يحرس الإنسان. وللحيوانات حقوق محفوظة في الدستور الأوروبي، ومؤسسات حكومية تطمئنّ عليها فحصاً وتفتيشاً وتغريماً وعقاباً، ومكانته في إحدى التعريفات المستطرفة تلي مكانة الضعفاء؛ الطفل والمرأة، ولتعلمن أنّ المرأة في أوروبا صبيّة دائما.
وإنّ البشرية ترتكس إلى المرحلة الطوطمية الأولى، وقد اشتغلت السينما على هذا الأمر نحو نصف قرن تبشيراً وتمهيداً وتأليفا وترغيبا، بدأت بمدينة المتعة ديزني لاند التي جعلت من الفأر ميكي قديساً وبطلاً، ثم كثر البهم الأبطال في السينما؛ أفلام كرتون للصغار والكبار أو أفلام روايات للكبار والأطفال، حتى بلغ الأمر بفرنسا الدولة النووية، التي توصف في الأدبيات بعاصمة الأنوار، أن دعت إلى العيش مع الفئران التي تكاثرت في الآونة الأخيرة مع إضرابات عمال النظافة، حتى أصبح سهم كل باريسي فأرين ونصف الفأر. وقد نسمع في قابل الأيام عن الثروة الفأرية مثل الثروة السمكية!
وكأن باريس نسيت "الموت الأسود" الذي ضربها في القرن الرابع عشر عندما أعدم الباريسيون جميع الهررة، لشبهة استعمالها في السحر الأسود، فتكاثرت الفواسق، وانتشر الطاعون حتى قضى على نصف سكان فرنسا، فذاقوا وبال أمرهم وحقَ عقاب.
السينما تعريفاً هي الفن السابع ترتيباً، لكنها الأولى تأثيراً، وأبطالها الخارقون أنصاف بشر وأنصاف حيوانات؛ سبايدرمان، وبات مان، وكات وومن، و"هالك" الغاضب -والغضب خصيصة نارية وهي من خصائص الشيطان- والرجل الناري، أما الرجل القمامة، فهو أحد أبطال أفلام الرعب. ولن تجد في الآداب العربية؛ جاهلية وإسلاماً بطلاً مُحقت بشريته بهيمة، ومسخت آدميته حيواناً، فإن وجد أشخاص مُسخوا حيوانات ففي حكايات ألف ليلة وليلة، وهو أدب ملتبس المصدر، يقول الباحث بهاء الأمير إن مؤلفه من بني إسرائيل، وإن الممسوخين في حكاياتها ليسوا أبطالاً على شاكلة الأبطال الخارقين في السينما الأمريكية، فهم كائنات مسحورة عقاباً أو انتقاماً، وإن وُجد بطل عربي عظيم مثل سيف بن ذي يزن أو حمزة البهلوان، فالحيوانات والعفاريت تخدمه وتحوطه، لكن لا مسوخ في الأخبار العربية والإسلامية.. المسخ عقوبة إلهية.
أما المرحلة الثالثة التي نحن على أعتابها، فهي مرحلة تحويل البشر إلى آلات وأشياء، وقد بشّر بها الملياردير إيلون ماسك، حاكم مملكة تويتر في بلاد قاف، وكان قد بشّر بالأمس بزرع أول رقاقة إلكترونية في رأس إنسان! لم يكتف برقاقة اليد وطائر العنق الهاتف الخلوي، التي لا تحيط بأعمال الإنسان ودقائق نفسه كلها، فطمع في الاقتراب من الإنسان أقرب من حبل الوريد، فأفضل سُبل التحكم بالإنسان هي أسراره، وكان هو وأمثاله من ملوك وسائل الإعلام قد ملكوا البشر بالاطلاع على تغريداتهم (التغريدات صوت الطيور)، ونجواهم وصورهم وأطعمتهم فهي رقائق معنوية ستبدل برقائق إلكترونية، تحويلا للإنسان إلى طيور في الأقفاص ودمى في الخزانة.
من خصائص الطغيان الشراهة والعلو، فأصحاب رؤوس الأموال الكثيرة يريدون البشر مثل الآلات تستجيب للأوامر الإلكترونية.
المسخ ضربان حسب قول أحد الحكماء: مسخ العقوبة وهو مسخ الخَلق، ومسخ يحصل في كل زمان وهو مسخ الخُلُق، وذلك أن يصير الإنسان متخلّقاً بخلق ذميم من أخلاق بعض الحيوانات؛ نحو أن يصير في شدة الحرص كالكلب، وفي الشرَه كالخنزير، وفي الغمارة كالثور. قال: وعلى هذا أحد الوجهين في قوله تعالى: "وجعل منهم القردة والخنازير"، وقوله: "لمسخناهم على مكانتهم"، يتضمن الأمرين، وإن كان في الأول أظهر، والمسيخ من الطعام ما لا طعم له، وهو ما تنوي وكالات التحويل البشري صناعته، بعد تحريم اللحوم على البشر، وجعلهم كالأنعام. قل لي ما طعامك أقول لك من أنت.
بعد هذه الديباجة، قلّبتُ على صاحبي المواجع، فأخبرته أن حكوماتنا الطغيانية العربية، قد سبقت هؤلاء في مسخ شعوبها على مكانتهم، بالمسخ المعنوي، من غير رقائق جسمانية أو معنوية، وأن النظم الغربية والشرقية تعمل سنين دأبا على مسخ البشر. وإنَّ المسخ الأوروبي أنعم من المسخ العربي وأرقّ، وإن كان العربي محصناً بدينه وأعرافه من امتساخ الهيئة، لكنه رضي بالمسخ المعنوي كرهاً وغصبا.
وإن رؤساءنا الأفاضل، وملوكنا الأماثل، قد مسخونا بهائم، فليس لنا أصوات انتخابية، ولا كرامة بشرية، امتساخنا هو على الخُلُق وليس على الخَلْق.
ولم أكن بحاجة لذكر البراهين على قولي، فهو يعلم أننا عشنا كالأرانب في المدارس، وكالسلاحف في الجامعة، وفي الجيش كالحشرات، أما السجن والقتل، فكان عقاباً للذين أبوا العيش كالأرانب والحشرات والقرود.
قال: لكن هؤلاء المسوخ يأكلون فاخر الطعام، ويشربون لذيذ الشراب!
أصل المسخ ودركته الأولى أن يعيش المرء بحواسّه الخمس، فمن عاش بها "تحيوَن" على قدمين، وهو من تعريفات العلمانية الشاملة عند الباحث المصري عبد الوهاب المسيري.
سكت صاحبي الذي خرج من كهف كهفه، وكان أهل الكهف عندما بعثوا من رقادهم وجدوا أن العملة قد تغيرت، أما صاحبي فوجد أن الناس قد مُسخوا بهائم وأنعاماً والعملة أرقاما. ولم أعرف إن كان سكوت رضا، أو سكوت سخط، أو سكوت يأس.
twitter.com/OmarImaromar
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق