من روائع إقبال (كتاب نصي)
تأليف : ابو الحسن علي الحسني الندوي
الى الأمة العربية :
خصص محمد إقبال قصيدة من أبدع قصائده للحديث مع الأمة العربية ، ليسجل فيها فضلها و سبقها ، في حمل الرسالة الإسلامية ، و الأخذ بيد الإنسانية ، و افتتاحها لتاريخ جديد و فجر سعيد ، و سرعان ما ينتقل إلى موضعه الحبيب الأثير، فيذكر الشخصية الحبيبة التي كانت على يدها نهضة هذه الأمة و سعادتها ، بل نهضة الإنسانية و سعادتها ، فيرسل على عادته النفس على سجيتها ،
و يعطي القلب و العاطفة زمامه ، و يسترسل في الحديث ، فيقول: (( أيتها الأمة العربية ! التي كتب الله لباديتها و صحرائها الخلود ، من الذي سمع العالم منه نداء «لا قيصر ولا کسری» لأول مرة في التاريخ (1) (يشير إلى الحديث المشهور: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، و إذا هلك كسرى فلا کسری بعده». ) ، و من الذي أكرمه الله بالسبق إلى قراءة القرآن ؟ من الذي أطلعه على سر التوحيد ، فنادى بأعلى صوته: «لا إله إلا الله» ، و ما هي البقعة التي اشتعل فيها هذا السراج الذي أضاء به العالم ؟ هل العلم و الحكمة إلا فتات مائدتكم ، وهل قوله تعالى : (( فَأَصْبَحْتُم
ص 119
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانً )) إلا وصف حالكم ، إن نفس ذلك الأمي أعاد على هذه الصحراء الخصب و النمو ، فأنبتت الأزهار و الرياحين ، إن الحرية نشأت في أحضانه ، و إن حاضر الشعوب ليس إلا وليد أمسه ، إن الجسد البشري کان بلا قلب و روح ، فأعطاه القلب و الروح و كشفت اللثام عن جمال وجهه ، إنه حطم كل صنم قديم ، و أفاض الحياة على غصن ذاو من أغصان العلوم و المدنية ، و أنجب أبطال و قادة مؤمنين ، أقاموا المعارك الفاصلة بين الحق و الباطل ، فتارة يدوي الأذان في ساحة الحرب ، و تارة تتجلى الآذان بقراءة «الصافات» (۱) (يشير الى سورة «الصافات») ، بين صليل السيوف و صهيل الخيول ، إن سيف البطل المغوار كصلاح الدين الأيوبي ، و نظرة الزاهد الأواب كأبي یزید البسطامي ، مفتاحان لكنوز الدنيا و الآخرة .
إن العقل و القلب يجتمعان تحت لوائه ، و إن ذكر جلال الدين الرومي ، و فكر فخر الدين الرازي يلتجئان تحت ردائه ، إن العلم ، و الحكمة ، و الشرع ، و الدین ، و الملك ، و الإدارة ، و لوعة القلوب ، مقتبسة من نوره ، و ليست «الحمراء» في غرناطة ، و قصر «التاج» في آكره (2) (يعني «التاج المحل» الذي بناه الإمبراطور المغولي «شاه جهان» و يعتبر آية في الفن المعماري ، و يأتي إليه الجوالون و الزائرون من أقاصي البلاد) ، اللذان خضع لجمالهما وجلالهما كبار
ص 120
الفنانين الناقدين ، عظماء العباد الزاهدين ، ليس إلا صدقة من صدقات بعثته ، و مظهراً من مظاهر عبقرية أمته ، إن بعض ظاهره تجلى في سمو ذوق أمته ، و سلامة تفكيرها ، و جمال فنها ، أما باطنه فقد تقاصر عن إدراكه كبار العارفين .
لقد كان الانسان حفنة من تراب ، و قبضة من أشلاء و عظام ، لا يدري ما الكتاب و لا الإيمان ، فعرفه بالعلم و الإيمان ، و أذاقه لذة العبادة و الإحسان ، فجزاه الله عن الإنسانية أفضل الجزاء . ))
يذكر إقبال الأمة العربية عهدها القديم قبل البعثة حين كان نظام العرب فوضى ، يعيشون كالبهائم التي لا هم لها في الحياة إلا الأكل و الشرب ، و كان مثلهم كمثل السيف المفلول يتراءى للناظر لامعاً قاطعاً ، و لكن ليست له ظبة فهو لا ينتفع به ، فيقول الشاعر (1) (من ترجمة الأستاذ سعيد الندوي به) :
(( أيها العرب قد من الله عليكم ، إذ جعلكم مثل السيف البتار أو أحدَّ منه ، و كنتم فيما قبل ترعون الإبل في الصحراء ، تركبون عليها ، و تظعنون بها ، ثم انعكست الآية ، فسخر الله لكم المقادير ، فضلاً عن الإبل ، فأصبحتم من مالكي أعنتها ، فلو أقسمتم على الله لأبركم ، و هنالك دوت تكبيراتكم و صلواتكم ، و زمزمت جلبة حروبكم و مغازيكم بين الخافقين ، فارتج بها ما بين الشرق
ص 121
و الغرب ، فما أحسن تلك المغامرات ، و ما أجمل تلك الغزوات )) .
و بعد ما يمدحهم الشاعر ، و يذكر حماستهم الا و غضبتهم المضرية في الله و رسوله ، و يبدي فرحه و سروره ، و يملكه الحزن ، و التألم بما يرى من خمود الى النشاط ، و الإحجام بعد الإقدام ، و الفرقة بعد الوحدة، و العبودية بعد السيادة ، و الاتباع بعد القيادة ، و يقبل إليهم مخاطباً معاتباً و يقول:
(( أسفاً على هذا الخمود و الجمود ، أيها العرب ! ألا ترون إلى الأمم الأخرى ، كيف تقدمت و سبقت ! أما أنتم فما قدرتم قدر هذه الصحراء التي نشأتم فيها ، و هذه الحرية التي ورثتموها ، و کنتم أمة واحدة ، أمة الإسلام ، فصرتم اليوم أمماً ، و كنتم حزباً واحداً ، حزب الله ، فأصبحتم أحزاباً ، لقد فرقتم جمعكم ، و مزقتم شملكم ، و انقسمتم على أنفسكم )) .
(( اعلموا أيها السادة ! أن من ثار على شخصيته و كرامته ، و فقد الثقة بنفسه مات و محي من الوجود ، و من فر من معسكره و انحاز إلى صفوف الأعداء ، و تطفل على مائدتهم ، عوقب بالهوان و الشقاء ، و الطرد و الجلاء، ألا إنه لم يجن عدو على عدو مثل ما جنيتم أنتم على أنفسكم ، و لم يسئ أحد إلى أحد إساءتكم إلى أمتكم ، إنكم آذيتم روح رسول الله صلى الله عليه وسلم بصنيعكم ، فهي متألمة متوجعة شاكية مستغيثة )) .
ص 122
الشاعر عارف بمكائد الإفرنج ، و ما لديهم من سهام مسمومة و هو شديد المعرفة بهم ، و قد عاش فيهم و درسهم و خبرهم ، فهو يتألم إذ يرى في الأمة العربية من يحسن الظن بهم ، و يعتمد عليهم في بناء صرح الحياة ، و فض المشكلات ، فيرسل صيحته و ينذرهم من المصير المظلم المؤلم ، و يقول:
(( مهلاً أيها الغافلون ! إياكم و الركون إلى الإفرنج ، و الاعتماد عليهم ، ارفعوا رؤوسكم ، و انظروا إلى الفتن الكامنة في مطاوي ثيابهم ، ألا إنه لا حيلة لكم و لا وزر إلا أن تطردوهم عن منهلكم و تذودوهم عن حوضكم ، إن حكمة الغرب قد أسرت الأمم ، و تركتها سليبة حزينة لا تملك شيئا ، إنها مزقت وحدة العرب ، و اقتسمت تراثهم ، إن العرب لما وقعوا في حبالهم تنكر لهم كل شيء ، و قسا عليهم هذا الكون ، و لم يجدوا من يرثي لهم و يرفق بهم، و ضاقت عليهم الأرض بما رحبت و ضاقت عليهم أنفسهم )) .
و بعد ما يفيض الشاعر في بيان شرور الإفرنج و مكائدهم ، و يحذر العرب من الانسياق إليهم و الوقوع في شركهم ، يقبل إلى تشجيع العرب و الترفيه عنهم ، ويقول: (( إن الله قد رزقكم البصيرة النافذة ، و لا تزال فيكم الشرارة كامنة ، فقوموا أيها العرب ! و ردوا فيكم روح عمر بن الخطاب مرة أخرى ، إن منبع القوة و مصدرها هو الدين ، منه يستمد المؤمن العزم و اليقين ، و ما دامت ضمائركم أمينة للسر الإلهي ، فيا عمار
ص 123
البادية ! أنتم الحراس للدين ، و أمناء الله في العالمين .
إن غريزتكم العربية الإسلامية ميزان للخير و الشر ، و أنتم ورثة الأرض ، إذا تألق نجمكم في آفاق السماء أفلت نجوم و طوى بساطهم ، لن تسعهم الصحراء و الفيافي ، فاضربوا في وجودكم ، الذي يسع الأفاق ، كونوا أسرع من العاصفة و أقوى من السيل ، حتى تسرع ركائبكم في مضمار الحياة و تسبق الريح )) .
(( ليت شعري ! من خلفكم في الحياة ؟ إن العصر الحاضر وليد نشاطكم و كفاحكم ، و صنيع جهادكم و دعوتكم ، و ما زلتم سادته و ولاته حتى أفلت زمامه منكم ، فتبناه الغرب و امتلكه ، و من ذلك اليوم فقد هذا العصر و هذا المجتمع الإنساني شرفه و كرامته و أصبح تحت ولايته منافقاً خليعاً ، ثائراً على الدين )) .
(( فيا رجل البادية ! و يا سيد الصحراء ! عد إلى قوتك و عزتك ، و امتلك ناصية الأيام ، و خذ عنان التاريخ و خذ قافلة البشرية إلى الغاية المثلى )) .
و هنا نبذة أخرى من أبياته يشكو فيها إلى روح رسول الله ﷺ ضياع الأمة الإسلامية ، و انطفاء شعلة الحياة و الإيمان في نفوس العرب ، و يشكو وحدته و غربته في هذا المجتمع الإسلامي البارد الجامد ، و يناجيه مناجاة من قام بين يديه، وأذن له في الكلام و يقول:
(( لقد تشتت شمل أمتك يا محمد ! يا رسول الله ، فإلى أين يلجأ
ص 124
المسلم الحزين ، و إلى من يأوي ؟ لقد سكن بحر العرب المضطرب المائج ، و فقدت الأمة العربية ذلك اللوع و ذلك القلق الذي عرفت به ، فإلى من أشكو ألمي ، و أين أجد من يساعدني على آلامي و أحزاني ؟ و ماذا يفعل حادي أمتك ، و كيف يقطع الطريق الشاسع ، و يطوي السفر البعيد في هذه الجبال و المهامه ، و قد ضل سبيله ، و فقد زاده ، و انقطع عن الركب ، بالله ! قل لي ماذا يصنع حامل دعوتك ، المؤمن برسالتك ، و أين يجد زملاءه و رفقته؟ )) .
و يؤلم الشاعر أن يرى العرب لا يزالون ينظرون إلى الأوربيين الانجليز و الأمريكيين كأصدقاء مخلصين ، و أعوان منجدين ، يحلون لهم مشكلة اللاجئين ، و يردون إليهم أرض فلسطين ، مع أنهم لا يزالون تحت سيطرة اليهود و نفوذهم السياسي و الاقتصادي و الصحافي ، يقول :
(( أنا أعلم جيداً يا إخوتي العرب ! أن النار التي شغلت الزمان وبهرت التاريخ ، لم تزل و لا تزال تشتعل في وجودكم ، صدقوا أيها السادة ! إنه لا دواء لكم في جنيف و لا في لندن ، لأنكم تعلمون أن اليهود لا يزالون يتحكمون في سياسة أوربا ، و لا يزالون يملكون زمامها ، إن الأمم لا تذوق طعم الحرية و الاستقلال حتى تربي فيها الشخصية و الاعتداد بالنفس ، و تعرف لذة الظهور )) .
وأخيرا يقول كلمة صريحة مركزة بليغة مع تلطف و اعتذار :
ص 125
(( معذرة يا عظماء العرب ! لقد أراد هذا الهندي (1) ( لا يعزبن عن البال أن محمد إقبال توفي قبل ولادة باكستان سنوات، وقبل أن تكون هناك جنسية باكستانية ) ، يخاطبكم و يقول لكم كلمة صريحة ، فلا تقولوا أيها الكرام : هندي ، و نصيحة للعرب ؟ إنكم كنتم يا معشر العرب ! أسبق إلى معرفة حقيقة هذا الدين ، و إنه لا يتم الاتصال بمحمد ﷺ إلا بانقطاع عن «أبي لهب» ، و إنه لا يصح الإيمان بالله الا بالكفر بالطاغوت ، كذلك لا تتم الفكرة الإسلامية إلا بإنكار القوميات و الوطنيات ، و الفلسفات المادية ، إن العالم العربي ، أيها السادة ! لا يتكون و لا يظهر إلى الوجود بالثغور و الحدود ، و إنما يقوم على أساس هذا الدين الإسلامي وعلى الصلة بمحمد ﷺ ))
ص 126
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق