في"الملهساة" المصرية
وائل قنديل
ليس في عنوان المقال أي خطأ طباعي، إذ بات إلقاء نظرةٍ على مصر هذه الأيام محيّرًا حقّا، وباعثًا على التساؤل: أهي المأساة الشاملة أم الملهاة الكاملة تلك التي تتفاعل وتتطوّر وتتحوّر في دوائر السلطة، وما تسمّي نفسها المعارضة في آن واحد.
تتحدّث السلطة طوال الوقت عن مصر بوصفها رجل المنطقة المريض المأزوم الذي يعاني ويكابد من أجل البقاء، فمن أعلى هرم السلطة إلى أسفله تسمع، طوال الوقت، عبارات من عيّنة أن العالم والأصدقاء والجيران لن يتركوا مصر للسقوط، وأن الله لن يتخلّى عنها ويتركها تضيع.
يسبق كل هذا النواح، كما يعقبه، خطابٌ مفزعٌ إلى جماهير الشعب يحدّثهم طوال الوقت عن الانهيار والانفجار والأخطار التي يحملها الشعب على وطنه، بدءًا من وضعه متّهمًا وحيدًا بالأزمة السكانية، وإشعاره بأن زواجه وإنجابه مما يهدّد أمن الوطن واستقراره، مرورًا بتقريعه ولومه المستمر على استهلاكه الماء والغذاء والدواء، وليس انتهاء بتحميله مسؤولية المشكلات الاقتصادية التي تخنق البلاد، وخصوصًا أزمة انهيار العملة المحلية.
كل هذا الحديث البائس عن مصر المريضة المترهلة يأتي، أولًا، من الخطاب الرسمي لأهل الحكم كلما أمسك صاحب السلطة بالميكروفون، ثم ينتقل إلى الميديا العالمية مصحوبًا بالتحليلات المعمّقة والتنبؤات والقراءات المستقبلية، كما فعلت مجلة الإيكونوميست، وكما في صحيفة الأخبار اللبنانية المقرّبة من حزب الله، والتي وضعت عنوانًا عريضًا هو "مصر في الدوّامة"، وهو ما تكرر في الصحافة الصهيونية أيضًا، بما يشكّل ما يشبه الإجماع على أن هناك أزمة تحاصر البلاد.
يثير الأسى والضحك في وقت واحد أن السلطة التي لا تتوقّف عن تصدير خطابٍ، هو مزيج من الاستجداء والاستغاثة للداخل والخارج، هي نفسُها السلطة التي تنتفض غضبًا كلما تناولت الصحافة العالمية الوضع الاقتصادي والاجتماعي في مصر، كما جرى أكثر من مرّة خلال السنوات الماضية، منذ اتهام صحيفة الغارديان البريطانية باستهداف مصر والتآمر عليها، وحتى الأسبوع الماضي مع البيان التي أصدرته الهيئة العامة للاستعلامات وتتهم فيه "الإيكونوميست" بعدم المهنيّة في تناولها الأوضاع في مصر.
لا تعدم امتزاج الملهاة بالمأساة في دوائر ما تسمّى المعارضة كما في السلطة، إذ تباغتك أخبار وتصريحات من قبيل اتجاه ما يسمّي نفسه تيار المعارضة إلى المبادرة بالتصالح مع حكوماتٍ عربيةٍ اشتهرت بالدعم اللا محدود للنظام في مصر، وخصوصًا السعودية والإمارات، هكذا مرًة واحدًة!
أيّ خيال سياسي هذا الذي ينطلق من أنه يحقّ لمعارضة سياسية، في الداخل أو الخارج، أن تتفاوض مع حكوماتٍ رسمية، أو تدخل معها في تفاهماتٍ أو تحالفاتٍ أو مصالحات؟
أفهم أن المعارضة، أي معارضة، لها أن تمدّ جسورًا مع أحزاب أو حركات شعبية في الخارج، وأن تتواصل مع هيئات دولية وأممية معنية بحقوق الإنسان مثلًا، أما إقامة علاقات أو قطعها مع حكومات وأنظمة حكم، فهذا مما يدخل في نطاق التهريج السياسي، فضلًا عن أنه يوفّر حججًا للنظام الذي تعارضه لكي يواصل اتهامها بالعمالة أو الارتهان لحكومات دول أخرى.
والأهم من ذلك كله، يمكن الزعم إنه لا توجد حكومة أو نظام رسمي عربي يمكن أن يقبل أن تكون له علاقات تصالح أو تخاصم مع معارضات سياسية منتمية لدولةٍ أخرى، إلا إذا كان في حالة عداء مع هذه الدولة الأخرى. وهنا تكون هذه المعارضة قد قبلت على نفسها أن تكون ورقة أو أداة بيد قوى إقليمية أو دولية تستخدمها في إدارة سياساتها تجاه هذه الدولة أو تلك.
مرّة أخرى، ليس أكثر بؤسًا من الاستسلام لسيكولوجيا التعلق بالخارج، استجداءً لدعم من أجل التغيير في مصر، أو الاستسلام لمنطق الصراع بين مراكز القوّة الفاعلة في الداخل، إلى غير ذلك من أوهام تم مضغها على مدار السنوات الماضية، في أوكار جلب البديل وشفاء العليل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق