غَرقانا وغرقاهُم
من المُسلَّم به أنّ الموت مُفجع حين يطال نفوسًا بريئةً من أيّ شعوب الأرض كانوا، وأنّنا نتألّم لكلّ حادثٍ يودي بأرواحٍ مسالمةٍ سواء رضينا عن أفعالها أم لم نرضَ؛ فهذا لا يغيّر في معادلة التوجّع شيئًا.
وفي المقابل، فإنّه ليس من قبيل الصّدفة أن يأتي غرق غوّاصة فيها خمسةُ أثرياء نزلوا في قاع البحر ليقوموا بمغامرة سياحيّة فيلقوا حتفهم عقب أيّام قليلة من غرق قاربٍ متهالكٍ يضمّ سبعمئةٍ وخمسين من الأرواح المنهكة الهاربة من البطش والطغيان فيقضوا نحبهم مظلومين مرّتين؛ بل هو من أقدار الله تعالى لتنبعث الأسئلة التي ترسم الإجابة عنها الحقائق الضروريّة.
فمن الطّبيعيّ أن تتفجر في عقول النّاس المتابعين الأسئلة عن مدى اهتمام العالم كلّه بوسائل إعلامه وبوارجه وسفن إنقاذه بالغوّاصة “تيتان” مقابل إهمال القارب الذي لا اسم له ككلّ المظلومين المهمّشين في هذه الأرض؛ أسئلةٌ عن إرخاص أرواحنا وإغلاء أرواحهم، أسئلةٌ عن حضور أفرادهم في دائرة الاهتمام وغياب جماعاتنا من دائرة الذّكر.
روحٌ عن روحٍ تختلف
لا أحد يُنكرُ أنّ غرابة الحدث المتعلّق بالغوّاصة “تيتان” وفرادة المغامرة هو أحد أسباب هذا الاهتمام، غير أنّ اختزال التّفسير بهذا السّبب أو جعله هو السّبب الرّئيس نوعٌ من تبسيط المشهد والهروب من مواجهة الإجابات الموجعة.
إنّ القضيّة الرّئيسة في المشهد هي مدى أهميّة الأرواح ومكانتها، ففي هذا العالم المحكوم بالماديّة والخاضع لهيمنة القوّة؛ روحٌ عن روحٍ تختلف، ونفسٌ عن نفسٍ تفرق في القيمة والمكانة على حسب التموضع المكاني والانتماء الجغرافي والعرقي والسياسي والدّيني، وهذا ما لا تستطيع شعارات الحريّة والمساواة ستره في هذا المشهد المفضوح.
حتى إنّ الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عبّر عن ذلك في لحظة صدقٍ لا يعيشها الرّؤساء الأمريكيون إلّا بعد مغادرة سدّة الحكم، فكان مما قاله ضمن حواره مع كريستين أمانبور في “CNN”:
“هناك عنصرٌ اقتصاديٌ لديمقراطيّتنا يجب أن ننتبه إليه؛ فلن تكون ديمقراطيّتُنا صحيّةً مع مستويات عدم المساواة التي رأيناها، والنّاتجة عن العولمة والأتمتة والانحدار في النّقابات وعدم المساواة الفاحش.
أتفكّر في أخبار اليوم؛ لدينا تغطية على مدار الساعة -وأنا أفهم ذلك- لهذه الغواصة التي فُقدت بشكل مأساوي في قاع البحر.
في الوقت نفسه، هنا، بالقرب من ساحل اليونان، مات سبعمئة شخص؛ سبعمئة مهاجر تمّ تهريبهم على ما يبدو إلى هنا، وقد نُقلت أخبارٌ عن الأمر، لكنّها لم تهيمن بالطّريقة نفسها، وفي بعض النواحي يشيرُ ذلك إلى التّفاوت الشديد في أهمية حياة النّاس”.
نعم؛ إنّ القضيّة هي في أهميّة حياة النّاس، فالعالم اليوم يعيشُ حالةً من التفاوت الكبير في قيمة الإنسان، فلو كان الرّاكبون في قارب الموت من أوكرانيا على سبيل المثال، وكانوا هاربين أيضًا من جحيم الحرب وبطشها، لكان التّعامل الإعلاميّ معهم مختلفًا تمامًا ومنسجمًا مع زرقة عيونهم وبياض بشرتهم وشقرة شعرهم.
ولو كانوا من الأمريكيين أو البريطانيين لكان الاهتمام بهم منسجمًا مع قيمة جواز السفر في هذا العالم الذي غدا جواز السفر أحد معايير تقييم الإنسان.
ولو كانوا رعايا إحدى الكنائس في الفاتيكان أو كنيسة سانت بطرسبرغ أو الكنيسة الأسقفية الأمريكية لكان الاهتمام بهم مختلفًا جدًّا، ولن تحضر شعارات العلمانيّة وتحييد الدّين إلّا حين يتعلّق الأمر بدمنا وأرواحنا.
أين وضعنا أنفسنا؟!
ولكن دعني أقول لك أمرًا: قل عن الغرب ومعاملته ما تشاء؛ قل عنه: إنّه مجرمٌ ومنافق وازدواجيّ ويكيل بمكيالين؛ فلن أناقشكَ في شيءٍ من هذا، بل أقرّ به وأؤكّده، ولكنّه -يا صديقي- على الرغم من كلّ ما وصفته به ليسَ هو الذي أرخَصَنا، بل نحنُ الذين أرخَصنا أنفسَنا، وهانت علينَا أرواحنا فلم يعد لها عندنا قيمة، ولم يعد لدمِنا المسفوح أيّ ثمن أو قيمة تُرتجى، ولقد قالت العرب: أنتَ حيثُ تضعُ نفسَك، فأينَ وضعنَا أنفسَنا؟!
إنّ الذي لا يزال حتّى اليوم معتقدًا أنّ التّضامن الدوليّ سواء منه الرّسميّ أو الإعلاميّ وحتّى الشّعبيّ من الغربِ يحرّكه الإنسانيّة الدفّاقة من قلوبِ القومِ، فأوّل ما يجب عليه ليواجه الإجابات الموجعة هو الخروج من مستنقع السّذاجةِ والبلاهةِ.
إنّ مشاعر السياسيين والإعلاميين في العالم المحكوم بالقوّة إنّما تولّي وجهها حيثما كانت المصلحة، وحيثما كانت القوّة فَثَمَّ مصلحتهم؛ فأيّنَ قوّتنا ومصلحةُ القومِ معنَا؟!
يا صديقي: إنّ الضّعيف لا يكترثُ له أحد، والنّمور بلا مخالب وأنياب ترفسُها الضّباع وتتلاعب بها الثّعالب ولا تلقي لها الأرانب بالًا، فضلًا عن ازدراء حيوانات الغابة كلّها لها.
إنَّنا -نحن لا غيرنا بما قبلناه وكرّسناه من ضعفنا وهواننا- نتحمّل المسؤوليّة عن إرخاص دمائنا، ونحن لا غيرنا الذين جعلنا دمنا في موازين الأمم أخف من دمائهم، وأرواحنا أهون من أرواحهم، وموتنا أرخص من موتهم.
ثمّ كيفَ لا تكون دماؤُنا رخيصةً على الغرب والشرق في إعلامهم وديارهم وقد أرخصها الطّغاةُ والمستبدّون في ديارنا وأوطاننا؟!
إنَّ الدّماء التي تكون رخيصةً في بلدانها وأوطانها، وتكون رخيصةً على أبناء دينها وجلدتها بفعل الاستبداد والطّغيان؛ فلن تكون أبدًا غاليةً على المتربّصين بهذه الأوطان وعقائد أبنائها الدّوائر.
وعندما يقوم زعماء وقادة وسياسيون من دولٍ إسلاميّة بتحريض الغرب على الإسلام ودعوته إلى مراقبة المساجد وتخويفه من المسلمين، ويطلقون أمام الغرب اتهاماتٍ لملياري مسلمٍ بالإرهاب؛ فكيف لا تكون عندها دماؤنا وأرواحنا رخيصةً في دائرة اهتمامه وإعلامِه؟!
إنَّ نيل حريّتنا وتحرّرنا من ربقة الطّغيان والاستبداد وتحقيق قوّتنا في المجالات المختلفة هو السّبيل إلى إثبات ذاتنا وصناعة قيمتنا وإعلاء شأن دمائنا وأرواحنا في هذا العالم الذي لا تحكمه المبادئ ولا مكان فيه للإنسانيّة الرّهيفة في التّعامل بين الدّول ولا يعترف بالضّعفاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق