بريغوجين الذي أهاج الذكريات وجدا على "نجد"
أحمد عمر
يحمد الناس الانقلاب الأبيض تطيّرا من الدم ورغبة في السلامة. والانقلاب الأبيض الخالي من الدماء خير من الأحمر، وإن كان شرا، وهو تغيير بحدِّ السيف. وقد حمدت أمريكا التحول السلمي السوري الأبيض في "الجملكية" السورية من حكم الأب إلى حكم الابن، بل أعانته ودفعت إليه ثم باركته، وما لبثت الدماء المحتقنة بعد عقد من الزمن أن انفجرت في شرايين سوريا المسدودة بشحوم الاستبداد الثلاثية وكوليسترول الطغيان.
زعم موسيقار الدم بريغوجين، زعيم منظمة فاغنر العالمية العابرة للقارات، والمدان بالسرقة سابقا، والمحكوم بـ12 سنة سجنا، أن أحدا لم يُقتل في "حركة العدالة" التي احتلت بها فرقته من المرتزقة روستوف، وفي الأخبار أن 15 جنديا من مرتزقة فاغنر قُتلوا غير مأسوف عليهم، وأُسقطت طائرتان روسيتان، حربية وحوامة.
تعجبت الدوائر الغربية من هذا الانقلاب العجيب، وبوغتت به، حسب الأخبار، ووقفت أمريكا التي تنظم معظم الانقلابات في العالم على الحياد، فلعله انقلاب نادر، لا يد لها فيه من قريب، وإن كانت الحرب الأوكرانية سببا بعيدا فيه، فأزالت العقوبات عن أعضاء فرقة فاغنر الموسيقية، حتى تعدل بين الخصمين. وأغرب ما في الأمر أن الانقلاب قُضي أمره بسرعة، كأنه سحابة صيف، أو زيارة ضيف. وقبِل المايسترو بريغوجين بوساطة رئيس بيلاروسيا السحرية بسرعة، لطيبة قلبه، ورقة فؤاده، وتقواه وزهده في الدماء الروسية، فتخلى عن ملكه وجيشه مقابل العفو والعيش بسلام في روسيا البيضاء، وليس في جدة منفى الملوك الخاسرين!
وذهب المحللون الحيارى في الانقلاب مذاهب شتى، وهو مشكل، فهل كانت سورة غضب، أم حركة عتب، أم هي طبخة أعدها بوتين وطباخه القديم للخروج من محرقة الحرب الأوكرانية وقد أعضلتهما معا، وبوتين على أبواب انتخابات قريبة؟ أم إن الرجل المحاصر بين نيران أوكرانية ونيران روسية عشوائية أراد النجاة بنفسه من الفجوة الرقمية بين السلاح الروسي والسلاح الغربي، فلم يجد سوى تلك الطريقة للهرب من معركة خاسرة؟ وستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا، ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
وتذكر المتذكرون زعيم فاغنر السودانية حميدتي، لشبه فرقته "الموسيقية" بفرقة فاغنر، وكانت فاغنر قد أخذت اسمها من اسم موسيقار هتلر المفضل ريتشارد فاغنر، أما حميدتي فأخذ اسم فرقته من فرق الإسعاف الطبي، فليت حميدتي فعل ما فعل بريغوجين، والنظائر بينهما والأشباه كثيرة، ليس أشهرَها حبُّ الذهب والمجد والقتل والسكر بسرعة الصعود واحتلال معالي نشرات الأخبار العالمية. ويختلف حميدتي في خصلة محمودة في الغرب هي كرهه للإسلاميين، مثله مثل الانقلابي "ساعة الصفر" حفتر.
وليت وساطة ولي العهد السعودي نجحت كوساطة لوكاشنكو السحرية، وليت أحد الجنرالين السودانيين، البرهان وحميدتي، نجح في قهر رفيق دربه وسلاحه، إذن لنجا السودان إلى حين.
ويُظنُّ أن الغرض من حربهما تدمير السودان وتشريد أهله، وإخراجهم من ديارهم، وأن أولياءهما الكبار لن يقبلا بالسلام.
ويمكن تذكر أقرب الانقلابات عهدا بنا، وهو انقلاب السيسي الدموي في رابعة، الذي ظهر فيه قائدا لثورة جماهيرية. وليس للسيسي من صفات القادة سوى زيّه العسكري، وقدم عرضا مسرحيا حرق فيه الأحياء الآمنين، تلقينا للمصريين درسا في الهواء الطلق، عن مغبة التظاهر السلمي والحلم بالحرية، وشفاء لصدور قوم حاقدين.
واذكر معي عزيزي القارئ انقلاب رفعت الأسد، وهو الانقلاب الوحيد الصريح على حافظ الأسد، وكان حافظ يجد لأخيه الغر الأعذار رفقا به وحنانا. أما انقلاب تركيا العسكري في سنة 2016 وهو غير محاولات الانقلاب الشعبي في تقسيم أو الانقلاب الاقتصادي الذي ما زال مستمرا، فذهبت دوائر إعلامية عربية إلى أنه مؤامرة وتمثيلية، تبخيسا لنصر أردوغان على أعدائه!
رجا كثيرون أن يفلح محمد بن سلمان في التقريب بين الجنرالين حميدتي والبرهان، إما بالإغراء المالي، أو بالإغراء الديني تيسيرا لأحدهما الإقامة في الديار المقدسة لاجئا، أو بالصلاة في جوف الكعبة، لولا أنهما ليسا من طلاب الآخرة.
وقد ذكرنا بعض الانقلابات العسكرية الخشنة أو الناعمة، البيضاء أو السوداء، وكلها سنن أتاتوريكية متبوعة، كان أولها انقلاب زعيم الهزائم العربية جمال عبد الناصر، فلم نجد أشد من الانقلاب الذي يقع في السعودية من غير صخب، وهو انقلاب ناعم من غير نيران، وهو قلب ليس لأسس الحكم والدستور وحسب، وإنما هو انقلاب على دين المملكة وأعرافها.
تتوارد الاخبار بأن ولي عهدها يريد إنشاء فاتيكان إسلامية، وهو يمضي قدما في مسعاه، حصرا للدين ومظاهره في المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتحريرا لباقي مدن السعودية من الدين والأعراف، وجرفهما في المسيرة العالمية الغربية.. وأن يظهر صحافي يهودي بين الفينة والأخرى في مكة أو المدينة مؤديا صلواته أو نافخا بوقه، ليس للتقرب لربه، فالرب يُتقرب له في القدس أو في سيناء، ولكن للنكاية والزراية.
أولى وسائل الانقلاب السعودي الناعم؛ هي وسائل الفن وأربابه، بدعوة الفرق الراقصة، ونجوم الطرب ملوني الشعر الكوريين، أو سود الشعر العرب إلى الديار المقدسة، وثانيها شراء فرق كرة القدم ونجومها المشاهير، بأموال خرافية بلغت مليار دولار، أمثال الإمام رونالدو والداعية بنزيما، وليس الغرض منها تحسين أداء فرق كرة القدم أو الاستثمار الاقتصادي فيها، فكرة القدم دين العالم الجديد، ومعبده الملعب الأخضر، وإمامه الهداف، والمفتي هو الحَكم.
أما ريادة الفضاء التي كلفت السعودية 55 مليون دولار للمقعد الواحد، فكان غرض السعودية الظاهري من استئجار المقعدين علميا؛ وهو الاستغناء عن صلاة الاستسقاء بالاستمطار، أما غرضها المستتر فإعلان نهاية عصر المُحرم، وإعلان تحرير المرأة من الفضاء.
للسعودية أغراض في الانقلاب الناعم، مثل الفردوس الأرضي الموعود في جنة نيوم الموعودة، فالفراديس الأمريكية والعربية طبعات منقحة ومزيدة من فردوس زعيم الحشاشين حسن الصباح في قلعة آلموت.
لعل بريغوجين الطباخ السابق، لا يعرف طبق المقلوبة وهو طعام شامي، قوامه الرز والخضار واللحم، ولا تظهر الخضار واللحوم إلا بعد قلب الطبق رأس على عقب. المقال طبق مقلوبة أيضا، فظهرت مكة المكرمة والمدينة المنورة بعد قلبه، وكان ظاهر الطبق هو الرز الروسي.. وكلاهما؛ طبق الطعام وطبق الحرب يعدّان على النار.
twitter.com/OmarImaromar
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق