موسم الحج وهوية الأمّة
لا يَسْعَدُ تجمُّع بشريّ بوصف “الأمّة” حتى يكون قد حَظِيَ أولًا بجملة من المقومات، على رأس هذه المقومات “الهوية”، فإذا عُدِمَتْ الهوية المميزة أو اضطربت وتذبذبت؛ فإنّ أقصى ما يناله هذا التجمع من الأوصاف وصف “الشعب” إنْ انفرد، أو “الشعوب” إنْ تعدّد، ولا أظنُّ المسلمين -رغم تفريطِهم وتَضْييعِهم وتفرُّق جماعتهم وتشرْذُم دولهم- إلّا أمّة واحدة، ذات هويّة مميزة كالغرة في مفرق الرأس؛ وما ذاك إلا لما أودعه الله في صميم هذا الدين من شعائر وشرائع ومعالم، لا يوجد مثلها في أيّ ملة من الملل أو نِحلة من النِّحَل؛ فإلى أيّ مدىً يسهم الحج بشعائره ومناسكه في إبراز الهوية والحفاظ عليها؟
حقيقةُ الهوية وخطرُها
يشيرُ كِتاب “دستور العلماء” إلى أنّ الهوية تُستعمل في الدلالة على الوجود الخارجيّ للشيء أو للفرد أو للجماعة، ويميلُ كِتاب “الكليات” إلى الاتجاه ذاته؛ إذْ يؤكد أنّ: ما بِهِ الشيءُ “هُوَ هُوَ” بالنظر إلى وجوده الخارجيّ يسمى “الهوية”، ويَحْزِمُ ابنُ حزم أمرَها في “الفِصَلْ” بوضع حدٍّ فاصلٍ بينها وبين ضِدِّها وهو “الغَيْرِيّة”، والهويةُ تختلف عن “الماهية” التي -بحسب حسن حنفي- تتجه إلى بيان حقيقة الشيء الداخلية، فالهوية عنوانٌ خارجيٌّ يدل بوضوح على الماهية الداخليّة، فَهَلْ قدرةُ الشكل الظاهر على التعبير عمّا تَعَمَّقَ وتَجَذَّرَ هو سرّ انتزاع مصطلح “الهويّة” من المعنى اللغويّ: “البئر العميقة”؟ رُبَّما..
والهوية -بحسب كلود دوبار- لا تُولَدُ فجأةً، ولا يَلْزم أن تبقى للأبد، فهي تَتَكَوَّن عبر سلسلة من الإجراءت المتراكمة، وتتعرض للاختلاط والذوبان، بل والاستلاب، وعلى الرغم من اختلافنا مع “هرقليطس” في تعميمه المطلق لقانونه الشهير: “كل شيء يسيل”؛ فإنّنا نرى أنّ الهوية من أوائل ما ينطبق عليه هذا القانون؛ فَهَلْ أمّتُنا قادرةٌ على حماية هويتها؛ لتبقى أمّة لا مجرد شعوب؟
هل يرسم الحجُّ ملامحَ الهوية؟
لا ينفرد عامل واحد برسم ملامح الهوية لأمّة من الأمم، ولا سيما إذا عظمت واتسعت وتسامت قِيَمُها، وبحسب “أليكس ميكشيللي” فإنّ مكونات الهوية تتنوع ما بين مادية فيزيائية وتاريخية وثقافية، وإذا كانت هذه العوامل منتشرةً في الإسلام طولًا وعرضًا وعمقا؛ فإنّها في موسم الحجّ متوافرةٌ بجميع أبعادها، وبكل أنواعها وألوانها: الشخوص والشخصيات، والرموز والعلامات، والأطياف والذكريات، والوقفات والحركات والتفاعلات، والسمتُ الأكثرُ ظهورًا الدالُّ على العمق الأقوى تجذرًا ورسوخًا، والشكل الجميل المُعبّر بجلاء عن الجوهر الجليل، والرمزيةُ في الشعائر وما تشير إليه من مَعانٍ غاية في الرقيّ والعظمة.
مصطلحٌ عبقريّ في سياقٍ فذّ
في جوف سورة البقرة التي حققت -بما أرسته من مبادئ وبما وضعته من تشريعات- “ماهيةَ” الأمّةِ الإسلاميةِ وارثةِ “الخلافة”، وفي سياق التوريث الذي انحدرت بموجبه “الإمامة” من إبراهيم إلى إسماعيل إلى هذه الأمّة المباركة، وبعد أن رفع إبراهيمُ وإسماعيلُ القواعدَ من البيت ثم أطلقا في أثيره الدعوةَ بميلادِ أمَّتنا وببعثةِ نَبِيِّنا في الذؤابة منها؛ جاء وصفُ إبراهيم وجميع من انحدر من صلبه بالإسلام، على نحو متسلسل، بدءًا من قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وانتهاءً بقوله سبحانه: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، وقبل أن يتحول السياق من “الماهية” إلى تحويل القِبلة الذي يُعَد أبرز معالم “الهوية” وُضِعَ على رأس المنعطف هذا المصلح الْمُزهِر الْمُبْهِر: {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}، و”صبغة الله” فُسّرت بأنّها دينُ الله وفطرةُ الله، لكنّ لفظة “صبغة” ساحرة وباهرة في دلالتها على أنّ “الماهية” -التي وضعتها سورة البقرة ببسط أسس التشريع- لا بُدَّ لها من “الهوية” التي تصبغ المظهر بما يعكس حقيقة الجوهر، والجدير بالإشارة هنا أنّ السياق اشتمل على جملة كبيرة من محددات الهوية التي تَبْرُزُ بوضوح في موسم الحج: إبراهيم وإسماعيل.. البيت العتيق.. مقام إبراهيم.. القبلة.. المسجد الحرام.. دعاء إبراهيم وإسماعيل لهذه الأمة ولنبيها صلى الله عليه وسلم.
شعائر كالمنائر
إذا كانت هاجَرُ قد سَعَتْ بين الصفا والمروة بحثًا عن الماء لولدها؛ فَفيمَ سعيُ الحجيج اليومَ والماءُ مبذولٌ في أنحاء المكان وأقطار الزمان؟! وإذا كان إبراهيم قد رَمَى الشيطانَ بسبع حصياتٍ لِيَزْدَجِرَ عنه ويُخَلِّيَ بينه وبين أمر الله؛ فما معنى رميُنا نحن لجمراتٍ ما هي إلا نُصُب حجرية صماء؟! وإذا كان إبراهيم قد ذبح فداءً لإسماعيل؛ فَلِمَنْ تذبح الأمةُ الإسلامية الهديَ في منى والأضاحيَ في بلاد المسلمين كافّة؟! تساؤلات تفرض نفسها على العقل المسلم، ولو لم يكن هناك من الحكمة وراء هذه الأعمال إلا مجرد الامتثال لَكَفَتْ، لكنّ الأمر هنا يتجاوز الحدّ الأدنى إلى حِكَمٍ عُليا كثيرة، بعضُها يتوزع وبعضُها يتجمع، فالرمي للجمرات حركةٌ ظاهرةٌ تواكبُها حركةُ القلب في اتجاه رفض الباطل، والسعيُ شعيرةٌ بارزة تُعَمِّق مبدأ الاقتداء والتأسي، والذبحُ وما يصاحبه من تكبير وتهليل تجديدٌ للفرح بفضل الله، هذه الحِكَمُ التي توزعت تتجمع في النهاية لإبراز حكمة جامعة، وهي ترسيخ “الهوية”، فإبراهيم وإسماعيل وهاجر رموز إسلامية، والرمي والسعي والنسك تاريخ إسلاميّ، وهي في الوقت ذاته شعائر تربط الأمة برموزها وتصلها بماضيها؛ لتَبْرُزَ الهويةُ في رموز وشخوص وطقوس وثقافة ودين وتاريخ وحضارة.
رمزيةٌ طاغية
جميعُها مشاهدُ مُشْبَعةٌ بالرمزية، فالطواف بالبيت يرمز إلى وحدة الأمة وتماسكها وتمحورها حول منهج الله، إنّ هذا الدوران الذي يقع في اتجاهٍ واحدٍ مشدودًا لقطب واحد، هو ذاته الدوران الذي يمسك الكون ويشد أطرافه ويضبط حركته من الذرة المتناهية في الصِّغَر إلى المجرة المتناهية في الكِبَر؛ إنّها رمزية الاجتماع والاتباع والوحدة والتماسك، والوقوف بعرفات يرمز إلى امتثال الأمة وقوفها عند حدود الله، والتلبية شعار الاستسلام والانقياد إلى أمر الله، وتكبير العيد الذي يملأ الأجواء ويتردد صداه في أجواز الفضاء إعلان عام من المسلمين بالتعظيم لأيام الله والفرح بفضل الله، هذه الرمزية الطاغية والشعائرية الطافية لها وضعية تُعَزِّزُ الهوية وترسخها في ضمير الأجيال؛ فهلا حرصنا على هويتنا وعزَّزناها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق