كيف نفهم منطق التشويه الذي يتعرض له العثمانيون؟
لا شك في أن التعمق في القراءات ومقارنة الروايات والوصول للحقائق التاريخية وشرحها بشكل واضح، يعتبر غاية من الغايات المهمة في تعريف الأفراد والشعوب والأمم بماضيهم الاجتماعي والثقافي والسياسي والقانوني والحضاري، وإن الموضوعية والحياد هما عاملان من أهم الأسس والشروط التي يجب أن تتوفر في الكُتاب والمؤرخين والباحثين.
وهذا ما نحاول مقاربته ما وسعنا ذلك ليس تقربا من أحد ولا إرضاءً لغايات في النفس -والله خير شاهد- وإنما هو إرضاء لله تعالى، ومن ثم هي محاولة لحفظ تاريخنا وحضارتنا وقيمنا وديننا وعقيدتنا من الضياع والتبدد والعبث، وخصوصا حين يتعلق الأمر بأحداث التاريخ الإسلامي المصيرية، والشبهات التي دارت حوله.
فقد كثر الطعن والتشكيك والتشويه لسير خلفائه وسلاطينه وولاته وقادته وأئمته، ورجالات العلم والفكر والمحدثين والدعاة وأهل الإصلاح فيه في سياق الهجمة الشرسة التي تستهدف ماضي الأمة وحاضرها، وأحيانا يكون التشويه غير مقصود من خلال تناول الخبر أو الرواية بانتقائية من قبل أشخاص، فهم ربما قصدوا في طريقتهم الموضوعية في القراءة وفي سردهم التاريخي، ولكن اعتمدوا بعض الروايات دون مقارنة جميعها، وهذا ما يتوجب جهودا جماعية كبيرة للإنصاف والوصول للحقيقة.
ولقد نال التاريخ العثماني، الذي هو حلقة من حلقات التاريخ الإسلامي، نصيبا وافراً من ذلك الطعن والتشويه والمحاولات لرسم صورة قاتمة حول أهم محطاته والقراءة السطحية لأحداثه، وسأحاول في هذا المقال توضيح وقراءة بعض الحوادث التي مرت بالتاريخ العثماني لنعرف حقيقتها، وكنت قد ذكرتها مع أحداث أخرى في سلسلة تفصيلية حملت عنوان "ممالك النار في ميزان حقائق التاريخ"، وبيَّنت حالة الصراع السياسي على السلطة في العهد العثماني، وحقيقة قانون الدفن، وقضايا قانونية وسياسية وأمنية، وكان ذلك في مقالات نشرها عدد من المواقع، وسأُخصص هذا المقال لمناقشة واقعتين مهمتين في التاريخ العثماني، وهما:
قصة عثمان بن أرطغرل مع عمه ليست الوحيدة في التاريخ العثماني التي يتم التلاعب بوقائعها وحيثياتها، فقد تكرر الأمر ذاته مع السلطان مراد الأول بن أورخان ثالث سلاطين الدولة العثمانية
أولا: التحقيق في مسألة قتل دوندار على يد ابن أخيه عثمان.. روايات متضاربة ومبررات سياسية
لم يتفق كل المؤرخين الذين أرخوا للدولة العثمانية على وقوع حادثة قتل دوندار من طرف ابن أخيه عثمان بن أرطغرل، معتبرين أن حادثة الإعدام وقعت عندما كان عمر دوندار 100 عام! كما يوجد مؤرخون، مثل ديميتري كانتمير، ممن يعتبرون أن دوندار قد توفي قبل مجيئه على سوكوت.
إذن فوقوع هذه الحادثة مشكوك فيه لاعتبارات تاريخية كثيرة (آق كندوز، 2008، ص: 62)، وحتى المؤرخون العثمانيون المتقدمون نوعا ما مثل العالم والمؤرخ ابن كمال نقل هذه الحادثة، معتبراً إياها إشاعة.
وحتى في حالة ما إذا سلَمنا بالروايات الضعيفة التي تأخذ بهذه الواقعة، لا بد أن نضعها في سياقها التاريخي والصراع السياسي في تلك الفترة، فقد حدثت صراعات كبيرة في فترة نشوء الدولة العثمانية، تمثلت أساسا في الصراع على السلطة بين عثمان وعمه دوندار، وبدأت تتضح أكثر الآثار السلبية لهذه النزاعات حيث -حسب الرواية التي ينقلها ابن كمال- امتنع دوندار عن القبض على والي بلجيك البيزنطي لذلك عُد باغيا، ونُفد فيه حكم الإعدام، أيّ أقيم عليه الحد الشرعي، لأنه رفع لواء العصيان ضد الدولة. وتنقل هذه الروايات أنه في عام 688 هـ/ 1289 م أو 702 هـ/1302 م كان دوندار على علم بخطة المؤامرة التي رتبها والي بلجيك ووالي يار حصار البيزنطيان لاغتيال عثمان، الذي أفشل هذه المؤامرة بخطة بديلة، ثم أعدم عمه المتواطئ مع الأعداء (آق كندوز، 2008، ص: 62).
وعلى كل حال، فإنه لا بد من التدقيق أكثر في الروايات التاريخية، وعدم التسرع في إطلاق الأحكام دون معرفة السياقات التاريخية والسياسية التي كانت تتفاعل مع الأحداث، ولذلك لا بد من تسجيل ملاحظة ختامية في هذا الشأن:
إن حوادث القتل على السلطة في الدولة العثمانية تم التلاعب بحقيقتها ودوافعها في كثير من الأحيان، وتم اجتزاء بعضها من سياقها التاريخي، لتُظهر في النهاية أن السلاطين العثمانيين كانوا يقتلون المنافسين المحتملين على السلطة دون مبررات قانونية أو موانع أخلاقية.
"قانون الدفن" الذي يُلوح به المتربصون بتاريخ الدولة العثمانية محاولين من خلال هذا "القانون" إدانة العثمانيين وسلاطينهم الأقوياء، ووصفهم بأفظع الصفات وأشنع الأوصاف، هو قانون زائف وملفق
ثانيا: قانون الدفن في الدولة العثمانية والحقيقة الغائبة
بعد فتح القسطنطينية سنة 1453 هـ، وتحوُّل الدولة العثمانية إلى دولة عالمية ممتدة الأطراف، شعر السلطان محمد الفاتح بضرورة تنظيم الدولة على أسس جديدة، سعى من خلالها إلى ضبط الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية، وذلك انسجاما مع الموروث الإسلامي للعثمانيين، وكذا مع ما كانت تقتضيه تحولات ذلك العصر.
بيد أن أهم مسألة تُثار حولها النقاشات الصاخبة، وخاصة في الأوساط الإعلامية، هي ما صار يعرف "بقانون الدفن"، الذي يُلوح به المتربصون بتاريخ الدولة العثمانية محاولين من خلال هذا "القانون" إدانة العثمانيين وسلاطينهم الأقوياء، ووصفهم بأفظع الصفات وأشنع الأوصاف. وخلال هذا المقال سنحاول سريعا أن نبرز بعض الحقائق المتعلقة بهذا القانون من خلال تسليط الضوء على أبرز النقاشات الفكرية الرصينة التي تناولت هذا الموضوع بالدرس والتحليل.
إن المادة الموجودة في قانون نامه، وهي المادة المتعلقة بقتل الإخوة، التي أثير حولها الكثير من الجدل، جاءت كما يلي: "يسَر الله السَلطنة لكل واحد من أولادي، ولأجل تأمين استمرارية نظام العالم فإن قتل الإخوة مناسب حتى إن أكثر العلماء أجازوه فليعمل به" (عبد الرحيم بنحادة، 2008، ص :88)، ومن أجل عرض هذا الموضوع بطريقة أكثر موضوعية وشمولية، يمكن أن نقسم آراء المؤرخين إلى مجموعتين: الأولى: ترى أن السلطان محمد الفاتح لم يصدر ضمن تشريعاته قانون الدفن، أما الثانية: فترى أنه قد تم إصدار هذا القانون، لكن هناك مبرراته الفقهية والتاريخية التي تؤطره (السعيدي، 2011، ص: 48).
مسألة قتل الأخوة المدرجة ضمن القوانين العثمانية -عثمانلي قانون نامه- مخالفة تماما للشريعة الإسلامية، لذلك أُنكرت إنكارا شديدا، وكان أكبر أدلتهم في هذا هو الشبهات الموجودة في النسخة الوحيدة آنذاك والموجودة في المكتبة الملكية في فيينا تحت رقم A.F554
- قانون الدفن زائف وملفق ولا أساس له
تُنكر المجموعة الأولى هذه القوانين جملةً وتفصيلاً، وترى أنه من غير اللائق أو المنطقي إسناد هذا "الظلم" إلى السلطان محمد الفاتح، وقد كان في مقدمة هؤلاء الأستاذ "علي همت بركي"، الذي أكد أن قانون الدفن زائف وملفق.
كان المنطق الذي انطلقت منه هذه المجموعة هو أن مسألة قتل الأخوة المدرجة ضمن القوانين العثمانية -عثمانلي قانون نامه- مخالفة تماما للشريعة الإسلامية، لذلك أُنكرت إنكارا شديدا، وكان أكبر أدلتهم في هذا هو الشبهات الموجودة في النسخة الوحيدة آنذاك والموجودة في المكتبة الملكية في فيينا تحت رقم A.F554، وذكروا أن هذه النسخة مزيفة، وأنها اخترعت من قبل بعض الغربيين من أعداء الدولة العثمانية، استنادا لوجود بعض الشبهات في أسلوب هذه القوانين (آق كندوز، 2008ـ، ص: 124).
المسألة لا يمكن حلها بإنكار هذه القوانين، والمهم هو القيام بالإيضاح الشرعي لها
- قانون الدفن حقيقي ولكن
هناك رأي يقبل إسناد وعزو هذه القوانين إلى السلطان محمد الفاتح، وهو بدلاً من سلوك طريق الإنكار يفضل القيام بتحليل شرعي للمسألة، وأكثر الباحثين على هذا الرأي، وعلى عكس الآراء المخالفة للحقيقة التي أبداها البعض، نرى أن المؤرخ الكبير عبد القادر أوزجان، وهو في مقدمة أصحاب الرأي الثاني، أجرى بحوثا قيمة وجدّية حول المسألة، وبين رأيه في مقالات علمية نشرها. وعموما يمكن تحديد الأسس التي اعتمدها هؤلاء في ما يلي:
إن المسألة لا يمكن حلها بإنكار هذه القوانين، والمهم هو القيام بالإيضاح الشرعي لها، وبيان مدى مناسبتها للأحكام الشرعية، وهنا نرى أن متون هذه القوانين لا تخالف الأحكام الشرعية، حسبما ادعى بعض أعداء العثمانيين، وأيضا لا تخالف كذلك الدساتير العالمية. خلال العقود الماضية تم اكتشاف مزيد من النسخ، وصل عددها لحد الآن إلى 3 نسخ، الأولى موجودة في المكتبة الملكية في فيينا، والثانية هي النسخة التي أدرجها المؤرخ العثماني الكبير حسين أفندي في كتابه "بدائع الوقائع"، والنسخة الثالثة هي النسخة التي أوردها العالم العثماني هزارفن حسين في كتابه "تلخيص البيان في قوانين آل عثمان"، وبالتالي فالوثائق الموجودة تؤيد صحة إسناد هذه القوانين إلى السلطان محمد الفاتح (آق كندوز، 2008ـ، ص: 127).
يذهب المؤرخ المعروف محمد سالم الرشيدي في كتابه القيم "السلطان محمد الفاتح"، الذي كان في الأصل رسالة دكتوراه ناقشها عام 1953 م، إلى أن هذا التشريع إنما صدر لحماية المصلحة العامة للدولة وحفظ كيانها من الزوال، ويضرب أمثلة عديدة من التاريخ العثماني عن صراع الأمراء العثمانيين على الحكم، والتجاء بعضهم لأعداء العثمانيين في محاولة لكسب الدعم العسكري (الرشيدي، 2013، ص: 353-354).
عَدَّ "فقهاء" الدولة ومشرّعوها كل تمرد بالدولة يؤدي للإخلال بالأمن العام وبـ"نظام العالم"، فسادًا وجريمة "بغي"، والقائمون بها يسمون "بغاة"، وأوضحوا في فتواهم أن عقوبة هؤلاء هي الإعدام؛ ولو كان الباغي شقيق السلطان أو ابنه
إن عقوبة الإعدام موجودة في كل نظام قانوني للمحافظة على كيان الدولة، أي "نظام العالم" حسب تعبير القوانين العثمانية، أي لصالح "نظام المجتمع" بالتعبير الحالي (الأمن الوطني والقومي في عصرنا)، ويوجد في معظم دول العالم في الوقت الحالي قوانين رادعة مماثلة تتضمن عقوبة الإعدام لكل من يهدد كيان ووجود الدولة، فما بالنا بإمبراطورية عظمى مترامية الأطراف تتحرك بين خطوط النار.
وينضم الأكاديمي والبروفيسور أحمد أق كندوز إلى المجموعة الثانية، معتبرا أن مسألة قتل الأخوة نتيجة تطبيق وإقامة حد "البغي"، أي حد العصيان ضد الدولة، ويمثل المرتكز الشرعي الأول لمسألة القتل هو وجود جريمة العصيان بالخروج على الدولة "بالسلاح" وموالاة الأعداء، وتدخل هذه العقوبة في الإسلام ضمن جريمة حد "البغي"، الذي تتكون بنوده من محاولة الخروج على الإمام أو السلطان ومحاولة الاستيلاء على الحكم بالسلاح والقوة والمغالبة، أي وجود هدف العصيان بشكل واضح. ولا يجوز بناء على ما سبق التعرض لمن يخالف رأي السلطان بصورة سلمية، أو لم يعلن عصيانا مسلحا، لكن إذا أُشهر السلاح وعمت الفتنة، حلت العقوبة الرادعة، وفي مصطلحات عصرنا هذا، ثمة إقرار لعقوبة الإعدام حال ارتكاب فعل التهديد المسلح أو جرائم "الخيانة العظمى"، وذلك صيانة للدولة (آق كندوز، 2008، ص: 130).
وقد عَدَّ "فقهاء" الدولة ومشرعوها كل تمرد بالدولة يؤدي للإخلال بالأمن العام وبـ"نظام العالم"، فسادًا وجريمة "بغي"، والقائمون بها يسمون "بغاة"، وأوضحوا في فتواهم أن عقوبة هؤلاء هي الإعدام؛ ولو كان الباغي شقيق السلطان أو ابنه (آق كندوز، 2008ـ، ص: 132).
ومهما يكن من اختلاف الآراء وتنوع مصادرها ومبرراتها حول هذه القضية، فإنه عادة ما يتم استغلالها من طرف أعداء العثمانيين في الدعاية السوداء، بعيدا عن تقصي الحقائق والسعي إلى الموضوعية التاريخية، بل إن التوظيف يُصبح أكثر بشاعة عندما يرتبط بالصورة؛ لأن لهذه الأخيرة آثارا عميقة في نفوس الرأي العام، ليتحول التاريخ بذلك من وسيلة للربط الحضاري بين الأمم والشعوب الإسلامية، إلى أداة فتاكة للتفرقة والتأليب بينها. وهذا ما لا نريده في روايتنا ودراساتنا التاريخية، فهدفنا الأول والأخير بعد رضا الله سبحانه وتعالى هو تبيان الحقيقة التاريخية على أسس علمية ومقاربات فكرية وتحليلات صحيحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق