هل المُختلف مُتخلف؟ تأملات في الهجرة والذاكرة والتعليم
تحل هذه السنة الذكرى الستون للهجرة المغربية إلى ألمانيا، ويؤرخ لها عادةً بتدفق الدفعات الأولى من الهجرة العُمّالية المغربية ابتداء من سنة 1963، سنة إبرام الحكومة المغربية آنذاك اتفاقيات تشغيل العُمال المغاربة مع ألمانيا وفرنسا ولاحقا مع كل من بلجيكا وهولندا، وهي هجرة حيوية لا تزال مستمرة إلى اليوم، ارتبطت بمسارات جماعية وفردية في غاية التنوع ولم تعد عُمّالية؛ وأجد نفسي أنتمي إلي تاريخ هذه الهجرة كمواطن في مجتمعين، هاجر بمفرده في مُقتبل العشرينات من العمر إلى ألمانيا طلبا للعلم قبل عشرين سنة خلت، وتحديدًا سنة 2003، سنة الغزو والتدمير الأمريكي للعراق الذي عارضته آنذاك مُظاهرات طُلابية حاشدة في هذا البلد الأوربي ذو الحاضر المُلتبس كماضيه وربما مستقبله كما سأوضح في هذه التأملات والخواطر عن الهجرة والتعليم والتذكر.
بالعودة إلى الماضي القريب لهذا البلد وحاضره الحالي، تكاد ألمانيا تشتهر بمعضلة الخطابات الشعبوية والعنصرية والاقصاء، والتي لن تفضي إلى تعثر عملية الاندماج الاجتماعي لفئات مجتمعية واسعة من خلفيات مهاجرة فحسب، بل قد تؤدي في آخر المطاف إلى الانغلاق الجمعي الذاتي وتقوقع فئات من المجتمع دون غيرها على هوية ألمانية خالصة البياض لكنها مُتخيلة.
هذه المعضلة ليست وليدة اللحظة، بل لها تاريخ طويل، عبّر عنه بحرقة شديدة وسخرية لاذعة الشاعر الألماني الشهير، هاينرش هاينه (1856 – 1797) من منفاه الباريسي.
وفي عصرنا الحديث تمظهرت من جديد ولاسيما بعد الوحدة الألمانية سنة 1989/1990 ثم لاحقا ابتداء من سنة 2015، سنة اللجوء العربي الكبير نحو أوروبا وتحديدا ألمانيا.
غير أن تصاعد خطابات الهوية الانغلاقية ليس مصدرها – بطبيعة الحال الأقلية المسلمة – بل هي أصوات داخلية تتعالى منذ عقود من داخل المجتمع الألماني ذاته، تعكسها حَرَكات متنوعة، أبرزها حركة “بيغيدا” المعادية للتعدد العرقي والثقافي في ألمانيا، وهي حركة هوياتية عُرفت بعدائها الشديد للحضور العربي الإسلامي في البلد حتى ولو كان أقلية، وهي أقلية صارت تعاني الأمرّين في ظل وجود أحزاب عنصرية في الساحة الألمانية السياسية مثل حزب البديل الألماني، الذي يتغذى على الشعور بالخوف من الآخر المسلم حتى ولو كان تخوفا وهميا، وفي المقابل ليس بمقدوره تقديم حلول حقيقية وجذرية للأزمة السوسيواقتصادية التي تهدد وجود هذا البلد من أساسه والمتمثلة بالأساس في الشيخوخة المتسارعة للمجتمع ونقص حاد لليد العاملة في مختلف مناحي الحياة، والذي عولِجَ باستقدام اليد العاملة الأجنبية منذ ستينات القرن الماضي لمعالجة هذه الأزمة البنيوية التي ستتعمق أكثر فأكثر في السنوات والعقود القادمة.
وبدلا من الاعتراف الاجتماعي بهذا الدور “الانقاذي” الذي تعين و لا يزال يتعين على “أجانب” ألمانيا لعبه، لا نكاد نجد إلا هيمنة النكران الحضاري، الذي تغذيه مُعظم وسائل الاعلام بتزامن مع التصاعد المضطرد لخطابات الكراهية والاعتداءات المقلقة جدًا.
وتذكرنا هذه المفارقة بالتاريخ المُعقد والدرامي لألمانيا، ولاسيما المرحلة النازية الصعبة التي مرّ بها هذا البلد وأرى أن التذكر الجمعي الألماني للمآسي الإنسانية، التي سبّبها النازيون لشعوب المنطقة الأوروبية يُشكّل درسًا مُتجددًا لضرورة التسامح مع الآخر الثقافي المُغاير وتقبّله ضمن مجتمع حديث ومتطور صار الآن متعدد الأعراق والأديان والثقافات.
لكن ومن باب الانصاف فإن هذا النكران للآخر “المختلف” لا نجده في ألمانيا فحسب، بل أيضا في جارتها الفرنسية، التي فرّ إليها شاعرنا، هاينرش هاينه، الحالم بقيم الجمهورية والعلمانية الفرنسية، والتي يبدو أنها الآن قد صارت لا تقدم دروسها إلا لِمسلميها فحسب، بل ووصل الأمر إلى حد اتهام أقلية دون غيرها بما عُرف مؤخرا بظاهرة “الانفصالية الإسلامية”.
ولحسن الحظ فلا يوجد مصطلح شبيه له في ألمانيا على الأقل لحد الساعة؛ ولكي أكون صريحا فإن ما يقع في فرنسا هو عملية “عزل” وليس انعزالا ذاتيا، ولاسيما من الناحية الإعلامية والسياسية، ممّا يُسهم في المزيد من الإقصاء للأقلية المسلمة من الفضاء السوسيو سياسي الذي يعيشون فيه.
إذًا الأمر ليس “انعزالية انفصالية ذاتية” من جانب جزء مهم من مكونات المجتمع الفرنسي وبخاصة الشباب، بل هو ذلك الاستبعاد المُمنهج والمُمارس في حقهم من طرف معظم مؤسسات الدولة منذ عقود؛ هو استبعادٌ لمن هم في ضواحي الهشاشة والحرمان.
ورغم الأهمية السوسيواقتصادية لـ “هوامش المجتمع” فمن المؤسف أن يستغل الاعلام الفرنسي وغيره مثل هذه المصطلحات الاستعلائية للحديث عن “تقوقع” المسلمين الفرنسين دون غيرهم من مكونات المجتمع الفرنسي متعدد الثقافات والأعراق، ولا أدري كيف تتجاهل السياسة والاعلام الفرنسي الدور الحيوي الذي لعبته ولا تزال تلعبه هذه الفئة الحيوية في بناء الدولة الفرنسية الحديثة، ولا أفهم لماذا ننسى أن من تُوجّه لهم اليوم أصابع الاتهام فقط بسبب “اسلاميتهم” المتخيلة هم: الطبيب والمهندسة والعالم والعامل وأيضا الباحث عن العمل وربة البيت، كل منهم يمارس حياته اليومية بحلوها ومُرها بفرصها واخفاقاتها، بإيجابيها وسلبياتها.
وفي هذا الصدد أرى أن التعليم الواعي عبر التذكر الحضاري، قادر على مواجهة هذه المعضلة الثقافية التي لا يجب أن نغفل جذورها التاريخية، حيث لم تعاني كل من ألمانيا وفرنسا من ويلات الحروب الطاحنة والتدمير المُتبادل إلا بسبب وهم التفوق الثقافي ونكران الآخر. وفي سياق الأقلية المسلمة فإن التعليم يلعب دورًا مُهما من أجل التمكين لاندماج اجتماعي يضمن حقوق الأقليات ويوضح واجباتها، وهذه مهمة الدولة والولايات الألمانية بما في ذلك انهاء التوتر الهوياتي القائم على ذاكرة تاريخية وثقافية غير مُعالجة لا تزال تنظر بنظرة استعلاء للآخر المُغاير لها ثقافيا حتى ولو كان جزءً حيويًّا لا يتجزأ من المجتمع الألماني.
وينضاف إلى كل هذا أهمية التأطير الذي يمكن أن يلعبه المجتمع المدني المنفتح، ولاسيما الجمعيات المشتركة (ومنها المغربية على وجه الخصوص) في هذا الصدد وبخاصة إذا ما استطاعت استثمار مواردها البشرية والمادية بشكل فعال وعَمَلي وخصوصا في المرحلة الراهنة، بعد ستة عقود مديدة من تاريخ الحضور المغربي في ألمانيا، وهي مرحلة تستلزم حلولا مبتكرة، وذلك من أجل إبراز النموذج المغربي كما هو عليه على أرض الوقع؛ فقد ساهم المهاجرون المغاربة على اختلاف أجيالهم وأعمارهم في التأسيس لرصيد بينثقافي مهم لا يتعين فقط الحفاظ عليه في وجه الحملات الإعلامية الاقصائية التي تستهدف صورة الانسان العربي والمسلم “المُختلف والمُتخلف” من منظورها الاستعلائي بل يجب أيضا تطوير هذا الرصيد الحيوي والمتنوع للتعبير عن الاشعاع المغربي الحضاري كما هو عليه على أرض الواقع بعيدًا عن “الفكلورية” التنميطية، التي شابت بعض الأنشطة التذكرية والاحتفائية بالحضور البينثقاقي المغربي على الأرض الألمانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق