فرسان المعبد!
في عام 1119 نشأ تنظيم عسكري كاثوليكي روماني، بعد ربع قرن تقريباً من أول حملة صليبية ضد المسلمين في الشام وفلسطين (1095) بدعوى حماية الحجاج المسيحيين في فلسطين، كان ولاء التنظيم الذي سمي “فرسان المعبد” أو “فرسان الهيكل”، أو “فرسان مالطا” للدولة البابوية، وبلغ عدد أفراده ما بين 15 – 20 ألف من أقوى الشبان والفرسان، كان هدفهم المعلن إغاثة المرضى والمساعدة الإنسانية، وهو هدف كاذب؛ لأن الهدف الحقيقي كان العدوان وقتل المسلمين، وكان شعارها “لا علينا لا علينا، يا ربنا، بل على اسمك الأعظم، تنزّل بالمجد”، وكان زيهم أبيض يتوسطه صليب أحمر، واستقروا في القدس العتيقة، ولكنهم راحوا يمارسون أعمال العنف ضد المسلمين، في عمليات سرية وعلنية على امتداد العالم الإسلامي قرابة قرنين من الزمان، حتى تفككت جماعتهم رسمياً في عام 1312، وقد شاركوا في القتال بالحملات الصليبية، وخاضوا عدداً من المعارك الشهيرة، أبرزها: معركة “حطين” (1187)، “حصار عكا” (1190 -1191)، ومعركة “أرسوف” (1191)، وسقوط الأندلس.
مسميات أخرى
بعد التفكيك ظلت الجماعة تمارس دورها السري التخريبي على مدى قرون، ويقال: إنها انتهت إلى التنظيم الماسوني العالمي الذي يمثل تشكيلاً سرياً، تجهل خلاياه بعضها بقيادة الصهيونية، وتتجلى وجوهه تحت مسميات أخرى، مثل أندية الروتاري، والأونر هويل، وغيرها، وما زالت لهم دولة بلا أرض تعترف بها الأمم المتحدة، وتسمى “فرسان مالطا”، وهي منظمة دولية ودولة في آن واحد، رئيسها الحالي منذ عام 1988 هو الأمير البريطاني أندرو بيرتي، ويحمل رتبة كاردينال، وهناك سفارات لهذا التنظيم/ الدولة في بعض الدول العربية والإسلامية، وسفارة “فرسان مالطا” بالقاهرة تقع في شارع هدى شعراوي بوسط العاصمة، العقار رقم (18)، وسفيرها يسمى “المستشار العسكري”!
استئصال الإسلام
هناك علاقة مشابهة بين فرسان المعبد أو الهيكل أو مالطا القدامى، وبعض النخب التي تتحكم في مصائر العالم الإسلامي الآن، مع الفارق أن تنظيم النخب العربية والإسلامية صريح وعلني ويمارس دوره العدواني المرسوم في استئصال الإسلام، والتشهير به، والتشكيك في قيمه ومبادئه، ومساعدة الغرب الصليبي على فرض ثقافته الوثنية في البلاد الإسلامية، ويرفع لافتات خادعة ماكرة كاذبة، تستقطب كثيراً من الغافلين، وتحوّلهم إلى مجرد أبواق تردّد ما تتضمنه هذه اللافتات وخطابها الاستئصالي الوثني.
وقد ظهر ذلك جلياً بعد اندلاع ثورات “الربيع العربي”، ووصول الإسلاميين إلى سدة الحكم في انتخابات حرة نزيهة لأول مرة، فقد تشجع فرسان المعبد الجدد وانقضوا على التجربة الوليدة، وعوقوا مسيرتها، وأطلقوا فرسانهم الذين بلا فروسية حقيقية، وأبواقهم التي صنعت على أيدي وكلاء التغريب وقناصل الاستشراق لإدانة الإسلاميين، والتنديد بقصورهم المزعوم، وتحميلهم مسؤولية الانتكاسات والمآسي التي لحقت بالأوطان بعد إجهاض ثورات الشعوب، واستباحة كل من يؤمن بالإسلام عقيدة وعملاً، وديناً ودولة، وحياة وآخرة، وعبادة وإنتاجاً، ورؤية وجهاداً..
يقتضي وجود فرسان المعبد الجدد مراجعة الإسلاميين لخطواتهم، وتصويبها والإفادة من الأخطاء، والعمل من أجل المستقبل، وخاصة في المجال الثقافي، أو بمعنى أدق مجال الحركة الثقافية الذي يبدو فيه قصور الإسلاميين واضحاً لأسباب تعود إليهم، وأخرى خارجة عن إرادتهم، مع أن هذا المجال يبدو من أخطر المجالات، وأكثرها حساسية لأنه يتعلق بصناعة المخ، وتشكيله من خلال الإعلام والتعليم والفكر والأدب والفنون المختلفة، أو الثقافة بمعنى عام.
الاشتباك مع الواقع
بعض الإسلاميين يرون الثقافة ترفاً زائداً عن الحاجة العقدية والإيمانية، مع أن الاشتباك مع الواقع وما يجري فيه من الإيمان وضرورة لمعرفة أبعاده وتفاصيله، ووضع الحلول الممكنة لما يمكن عده قصوراً أو تقصيراً، أو خللاً يجب إصلاحه وتجاوزه، إن إهمال ما يجري في الحياة الثقافية خطأ كبير، لأن المجتمعات المتخلفة التي تعيش معاناة الحياة، والحرمان من الحريات، وتتلظى بنيران الاستبداد، والجهل، والتسطيح، والغيبوبة الحضارية، تحتاج من طلائعها الإسلامية أن تكون على وعي حاد بحركة الحياة وتيارها المتدفق من حولها، وإلا فهي ضحية طبيعية لما يسمى الدولة العميقة، ومعطياتها المؤلمة.
إن الإسلاميين يمتلكون قدرات غير محدودة على العمل والعطاء ابتغاء وجه الله، ولكنهم لا يتنبهون إلى مكر فرسان المعبد الجدد، وقد يذهب الأمل ببعضهم إلى حد استقطابهم وتحولهم، وهذا أمر غير صائب؛ لأن هؤلاء الفرسان تعلموا وتدربوا، وآمنوا أن عدوهم هو الإسلام وليس الرأسمالية ولا الإقطاع ولا الماركسية ولا المعتقدات الوضعية التي تقف وراءها أدبيات تلمودية وبروتوكولات حكماء صهيون، ومحاولة التقرب منهم والظن بهم خيراً عمل لا يتفق مع الكياسة والفطانة، ما رأيك حين ترى شخصاً ينتسب إلى الإسلاميين، يهنئ شخصاً من فرسان المعبد على فوزه بإحدى الجوائز، فلا يلقى إلا إجابة باهتة تدل على عدم الاكتراث في أحسن الأحوال، إن لم تكن تخفي احتقاراً وصلفاً وغروراً؟! ومثله من يعزي واحداً من خدام جهات معادية للدين، فيرد عليه بكلمة مقتضبة: شكراً، بينما المفترض في مثل هذه الحالات أن الشكر يكون ملفوفاً بعبارات مجاملة تدل على الامتنان والتقدير والاحترام، قد يرى بعضهم أن الأمر بسيط وطبيعي ولا يحتمل معنى آخر، ولكني -من وجهة نظر متواضعة- أراه أمراً غير بسيط أو غير طبيعي، ويحتمل معنى أعمق، لأنه يتعلق بقضية الاعتقاد والتوجه والسياق العام.
نموذج جيد.. ولكن
إن التنبه إلى فكر فرسان المعبد وسلوكياتهم أمر ضروري، وخاصة فيما يتعلق بقضايا المجتمعات الإسلامية؛ لأن الغفلة تؤدي إلى كوارث تمتد إلى كثيرين، وتعوق حركة المجتمع المسلم نحو التطور والتقدم.
كانت مشاركة الإسلاميين في العمل التشريعي، وفوزهم أحياناً بالأكثرية المطلقة، نموذجاً تشريعياً جيداً، يقوم على الصدق والإخلاص وقبل ذلك الولاء لله، ثم خدمة الشعوب، لدرجة أن من يخالفونهم من العلمانيين والدنيويين باتوا ينتظرون ما يقدمون من مشروعات تخدم الناس وتساعدهم على تجاوز العقبات الاقتصادية والاجتماعية، ويفضلونهم على من ينوبون عنهم من المنتمين إلى العلمانية أو الدنيوية (حزب العدالة والتنمية التركي مثالاً)، ولكن التهاون والتراخي والليونة في مواجهة فرسان المعبد أدى إلى إخفاقها وإسقاطها، وتحميلها مسؤولية الفاشلين منذ عقود! وكاد فرسان المعبد يسقطون التجربة الإسلامية التركية في انقلاب إسطنبول الفاشل (يوليو 2016)، لولا يقظة الناس، وتضحياتهم، ثم تطبيق القانون بصرامة على الخونة!
إن فرسان المعبد في بلاد الإسلام مدعومون من قوى الاستبداد في الداخل، ومن قوى خارجية؛ إقليمية ودولية، من أجل غاية واحدة واضحة وهي استئصال الإسلام، ولماذا الإسلام؟ لأنه عنصر المقاومة الأوحد والأصيل الذي يمكن أن يفسد خطط أعداء الإنسان والإسلام والحياة.
القوى المارقة
من المؤكد أن الصراع حول فلسطين، وبعث الأمة الإسلامية، يمثل نقطة مركزية تشغل قوى الشر العالمية التي لا تريد خيراً بالعرب والمسلمين، ولذل فإن هذه القوى المارقة ترى أن أي نجاح للمسلمين يجب وأده في مهده، ومن خلال قوة ضاربة تعيش في حنايا الأمة الإسلامية، وقد منحوا هذه القوة (فرسان المعبد الجدد)، صدارة المشهد في مختلف المجالات، وخاصة المشهد الثقافي استغلالاً لابتعاد الطلائع الإسلامية عنه، أو عدم اهتمامها به، أو تصدي بعض أصحاب الآفاق الضيقة لتحريم الأدب والفنون والتعرف على الثقافات وإهمالها، بينما ميدان الصراع يستلزم المشاركة بالإنتاج الثقافي، ومعرفة كل شيء عن الآخرين، وهناك مثل صيني شهير رددناه بعد هزيمة 1967 بكثرة: “اعرف عدوك”، ومعرفة العدو نصف النصر كما يقال.
أكذوبة كبرى
قبيل إسقاط حكم الثورة عام 2013، كان فرسان المعبد الثقافي قد روّجوا لأكذوبة كبرى، وهي أن الحكومة تقوم بـ”أخونة” الثقافة؛ أي جعلها إخوانية وخاضعة لأدبيات الإخوان وأفكارهم، وألحوا على الأكذوبة حتى صارت شبه حقيقة مؤكدة، وفقاً لنظرية النازي الألماني جوبلز، وزير الإعلام في حكومة هتلر، كانت الحكومة المنتخبة وقليل منها ينتسب إلى الإخوان، قد أسندت أمر وزارة الثقافة إلى رجل طيب بدا تائهاً في غابة فرسان المعبد الثقافي، وكلهم صاحب مصلحة، وأرزقي ولا يعرف الوضوء، وكلهم يغترف من الأموال السائبة في الثقافة والإعلام والتعليم والصحافة والاستعلامات وغيرها، وانتهز فرسان المعبد تعيين الوزير علاء عبدالعزيز، وتجمعوا بسرعة البرق، وأعلنوا الاعتصام أمام الوزارة، ومنعوا الوزير من دخول مكتبه، فاضطر لممارسة مهامه من مكتب متواضع مؤقت في هيئة الكتاب، كان عدد المعتصمين كبيراً، وهم خليط من أشباه الكتاب والممثلين، والمخرجين والراقصات والصحفيين والإعلاميين، والناشطين الذين يبحثون عن دور، ترى كم كان عدد الإسلاميين على الجانب الآخر؟ لا يكاد عددهم يتجاوز أصابع اليدين، يجلسون في ركن قصي بعيد، بينما يصخب فرسان المعبد ويصدرون تصريحات وبيانات كاذبة، لا وجود لها في الواقع، مثل ادعاءاتهم أن الإسلاميين يستعينون بالبلطجية ويضربونهم بالسنج والسكاكين والنبابيت، وتنشر منصاتهم الإعلامية الكثيرة التي يسيطرون عليها أكاذيبهم كأنها حقائق منزلة من السماء، أين هم الإسلاميون من كل ذلك؟ بل أين الحكومة التي قالوا: إنها إخوانية من منع وزير من وزرائها من دخول مكتبه؟ هل يستطيعون أن يفعلوا ذلك الآن ويقفوا ضد وزير من وزراء الحكومة الحالية؟ ترى ماذا سيجري لهم؟ لقد تباروا في شيطنة وزير الثقافة المظلوم، وادعوا كذباً أنه “إخواني”، ووصفه بهاء طاهر في حديث لـ”DW” عربية (التلفزيون الألماني) أنه غريب على الجسم الثقافي ودخيل على المثقفين وبلا تاريخ ثقافي أو حتى جزء من التاريخ، وأن اختياره وزيراً استفزاز للمثقفين!
هجمة شرسة
وقال كاتب متسلق ضحل الموهبة والثقافة: إن المجيء بالوزير إهانة للمثقفين الأحياء والأموات! وزعم أن هذا الوزير مرفوض من الناس والمثقفين على السواء، وأنه مغمور لا يعرفه أحد! وقال آخرون من فرسان المعبد كلاماً سخيفاً كله ادعاءات وأكاذيب لا أساس لها من الصحة، الوحيد الذي وقف موقفاً يحسب له مع أنه ليس من الإسلاميين كان د. أحمد سخسوخ، الأستاذ بأكاديمية الفنون، الذي قال لـ”DW” عربية: إن صعود علاء عبدالعزيز إلى كرسي الوزارة صاحبته هجمة شرسة من مجموعة خافت من تطهيرها، وادعوا عليه كذباً وزوراً في أمرين؛ الأول أنه إخواني، والثاني أن عليه مسائل أخلاقية.
ويضيف سخسوخ بأن من يقول: إن الوزير مغمور ولا تاريخ له أقول لهم: إن الوزير هو عضو هيئة تدريس بأكاديمية الفنون.. وعمل مع عبدالوهاب المسيري في “الموسوعة الصهيونية”، وله عدد من الأعمال الفنية، وتابع سخسوخ أن هذا الوزير له إنجازات رغم أنه حديث العهد بالوزارة، فهو يلتقي يومياً بالعاملين في كل إدارة لمعرفة مشكلاتهم، كما أنه لم يكتف بالجلوس في المكتب، وأرى أن الوزارة ستشهد على يديه أشياء طيبة، وهو ضحية معلومات ملفقة وكاذبة، من بعض الأشخاص الذين يخافون من فتح ملفات فسادهم.. ولكن صوت سخسوخ ضاع في زحام الأكاذيب!
القانون لجام
أتخيل لو أن الإسلاميين تعاملوا مع فرسان المعبد بما يستحقون وفقاً للقانون، وأدركوا أهمية النهوض في الدفاع عن ثقافة الأمة، لوفروا على أنفسهم خسائر كثيرة، ففي القانون مهما كانت العقبات لجام يمنع الظالمين من الجموح، وفي الاهتمام وبذل الجهد الجماعي نتائج مثمرة، لأن الليونة والتراخي والتهاون مع من لا يستحون ظلم عظيم، وخذوا العبرة من أردوغان.
أما المنافقون الذين يلعبون على كل الحبال، فهم آفة تخدع كثيراً من الإسلاميين للأسف، وتعوق مسيرتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق