الأربعاء، 28 يونيو 2023

ونبلو أخباركم

 ونبلو أخباركم

للشيخ : سلمان العودةالبلاء شرط للتمكين، وقد جعل الله تعالى من سننه في الكون أن يبتلي من ادعى الإيمان به سبحانه وتعالى، والناظر في أحوال الأنبياء جميعهم وأولهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره كموسى ويوسف وشعيب عليهم السلام، والمتأمل في أحوال أتباعهم والصحابة والتابعين وسواهم، يجد الأمثلة الكثيرة المتناثرة هنا وهناك لمثل هذه الابتلاءات، وكيف تعامل هؤلاء الصالحون معها بقوة وصبر وثبات حتى اكتسبوا رضا الله تعالى وقبوله.

من طرائف المحن

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلَّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعــد:

فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

في هذا المسجد المبارك جامع الغنام في الزلفي، وفي هذه الليلة المباركة ليلة الجمعة الحادي والعشرين من شهر شعبان من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، يكون هذا المجلس الذي أسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن يجعله اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.

أحبتي الكرام: جزاكم الله يا أهل الزلفي من أهل ومن عشيرة خيراً، فإنكم نعم الأهل والدار والجار، ولو أن الإنسان وجد من وقته فسحة وأتبع نفسه هواها لما كان له أن يفارقكم، فإن المرء حين يلقاكم يلقى الكرم وحسن الخلق، والأمانة والديانة والرجال الذين يطمع أن يكون لهم نصيب وبلاء في خدمة هذا الدين والقيام عليه.

وليست بالمرة الأولى التي أزوركم فيها، فإننا ونحن قادمون إليكم في الطريق تذاكرنا الزيارات والمحاضرات التي ألقيتها في هذا البلد، وبدون أن أفصح لكم وأبوح بهذا السر إلا أنني أقول إنها بالتأكيد كانت دون العشرين، وأسأل الله تعالى أن يجعلها في ميزان الأعمال الصالحة، وليس ذلك تذكيراً بشيء مضى إلا أنه اعتذار عن التقصير والإخلال، ورجاؤنا ألا يكون هذا التقصير شديداً وإلا فحقكم كبير، ولكم مكانة في القلب يعلمها الله عز وجل، وكل أهل هذا البلد الطيب -من أهل الخير والصلاح- لهم في سويداء القلب منـزلة عظيمة، ولعلي أذكر مكتب الدعوة في هذا البلد، وجهده وبلاءه وقيامه بالنشاط الخيِّر، سواء في دعوة العلماء والمحاضرين وطلبة العلم للدروس والمحاضرات، أم في القيام على النشاطات المختلفة وتنظيم البرامج والمخيمات وغيرها، أم توزيع الكتب أم سواها أم في دعوة غير المسلمين من خلال المكتب التعاوني العامر الذي يقوم عليه رئيس المحاكم في هذا البلد الطيب، الشيخ محمد المعيتق حفظه الله.

ذلك الرجل الذي شاب مفرقه في الإسلام ولكنه في روح شاب، فنحن نجده أمامنا إن ذهبنا إلى بريدة وإلى عنيزة وإلى الغاط وإلى المجمعة وإلى الشرقية وإلى جدة فحيث ما ذهبت وجدته أمامك، سباقاً إلى الخيرات حريصاً عليها فأسأل الله تعالى أن يجزيه عني وعنكم يا أهل البلد كل خير، وأن يجعله مباركاً أين ما كان، وأن يكثر في العلماء والمشايخ من أمثاله.

ثم إني أشكر أيضاً كل الأساتذة والقضاة والعلماء والأخيار والأحبة الذي يسمعون لي الآن، سواء أكانوا من هذا البلد أم من القادمين إليه، وأسأل الله تعالى أن ينفعنا جميعاً بما نقول ونسمع.

أيها الأحبة: عنوان المحاضرة كما سمعتم (ونبلو أخباركم) ولعلكم سوف تلاحظون في هذه المحاضرة ثورة على روتين المحاضرات والدروس، فلن أبدأ فيها كالعادة بأهمية هذا الموضوع وسبب التحدث عنه إلى غير ذلك كما جرت بذلك العادة في الدروس والمحاضرات، رغبة في التغيير والتنويع لا أكثر.

بل سأبدؤها بعنوان يقول: "من طرائف المحن"، وهي عبارة عن بعض القصص الخفيفة والسريعة التي حصلت لبعض الصالحين والعلماء في حياتهم، وهي إعراب ودليل على أن هذه الحياة بطبيعة وأصل تركيبها لا تخلو من بعض الكدر والمحن والمصائب، سواء للأغنياء أو الفقراء، للكبراء أو الضعفاء، للرجال أو النساء، للمسلمين أو الكفار، فالجميع لا بد أن يلقوا في هذه الحياة بعض الأذى، فالأمر كما قال الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ [الحديد:20] إلى آخر الآية:-

جبلت على كدر وأنت تريدها     صفواً من الأقذار والأكدار

وإذا رجوت المستحيل فإنما     تبني الرجاء على شفير هارِ<

شريك القاضي مع المهدي

أولاً: ذكر الإمام أبو العرب التميمي في كتابه الموسوم بكتاب: المحن، أن الإمام شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي الخليفة العباسي مسلِّماً، فقال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فنظر إليه المهدي ولم يرد السلام، فأعادها شَرِيك مرة أخرى، فما رد عليه السلام، فقال له مرة ثالثة: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال المهدي: عليَّ بالنطع، عليَّ بالسيف، عليَّ بالجلاد، قال القاضي شريك: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: إني رأيت في المنام البارحة أنك تطأ بساطي وأنت عني معرض، فأتيت بالعابر الذي يفسر الأحلام فسألته فقال: إن هذا الرجل يقبل عليك بظاهره وقلبه مع أعدائك، فأريد أن أقتلك وأنتصف منك، فتبسم شريك بن عبد الله وقال: والله يا أمير المؤمنين ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام، ولا معبرك بمعبر يوسف عليه السلام، أفبرؤيا مثل هذه أو تعبير كهذا تراق دماء المؤمنين بغير حق، فلما سمع المهدي هذا الكلام سري عنه وزال ما في قلبه، واعتذر إلى هذا الرجل وقال له: اخرج من مجلسي، فخرج منه وهو يقول لمن حوله: أفرأيتم أعجب من هذا الرجل، يريد أن يقتل امرأً مؤمناً برؤياً رآها.

إنها مثلٌ من محنة خفيفة ألمت أو كادت أن تلم بهذا القاضي المعروف، وفي ذلك عبر وأسوة تدل على أن هناك من الناس من شأنهم وديدنهم دائماً وأبداً الوقيعة والنكاية والتشهير ومحاولة إيقاع خصومهم بأي سبب، وبأي وسيلة، ولعل عابر الرؤيا كان من هذا الصنف، فأراد أن يستغل الرؤيا للإيقاع بخصم من خصومه، وهو شريك بن عبد الله القاضي، كما تدل على أن الحكمة والمنطق السليم من أهم الأسباب في النجاة من مثل هذا الأمر، وهذه الرؤيا والقصة تذكرنا أيضاً بقصة أخرى.

ذكر الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة شريك بن عبد الله في ميزان الاعتدال: أن شريكاً هذا أتى به رجل من الرجال إلى مجلس الخليفة العباسي، وذلك أن رجلاً يقال له أبو أمية أمسك بـشريك وأدخله على المهدي، وقال له: إن هذا الرجل يعني: شريك بن عبد الله القاضي حدثني عن الأعمش عن سالم عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { استقيموا لقريش ما استقاموا لكم} يعني لحكام قريش، لأن الحكام كانوا من قريش: {فإذا زاغوا عن الحق فضعوا سيوفكم على عواتقكم ثم أبيدوا خضراءهم} يعني نابذوهم وقاتلوهم، فقال الرجل للخليفة: إن شريكاً حدثني هذا الحديث، وهذا الحديث فيه تحريض على الخلفاء في ذلك الوقت وأمر بقتالهم إذا زاعوا عن الحق، وانحرفوا عنه وتركوا قصد السبيل وحادوا عن المنهج النبوي النبيل.

فقال المهدي لـشريك: أفأنت حدثته بهذا الحديث؟

قال شريك: لا يا أمير المؤمنين كذب والله ما حدثته، قال ذلك الرجل -وهو أبو أمية-: يا أمير المؤمنين عليَّ الحج إلى بيت الله تعالى ماشياً وكل ما في ذمتي صدقة لله تعالى إن لم يكن حدثني بهذا الحديث، فقال لـشريك: ما تقول أنت، قال: يا أمير المؤمنين وأنا عليَّ مثل الذي عليه إن كنت حدثته، فقال الخليفة: صدق، وزال ما في قلبه، فقال ذلك الرجل: يا أمير المؤمنين إنه يقول عليَّ مثل الذي عليك يعني عليَّ ثياب مثل الذي على أبي أمية، وليس يقصد أنه في ذمتي أن أحج إلى البيت الحرام ماشياً ولا أن أتصدق بمالي، فاطلب منه أن يحلف كما حلفت، فقال: صدق، احلف يا شريك مثلما حلف هذا الرجل، قال: لا والله لا أحلف بل ما جاءك هو الصحيح، أنا حدثته بهذا الحديث، فغضب الخليفة وقام يسب الأعمش لأنه روى هذا الحديث عن الأعمش، وكان الأعمش قد مات -رحمه الله- وقتها، فقال الخليفة يسب الأعمش: والله لو أعلم قبر هذا السكران لأحرقته، وصفه بأنه سكران وأنه يشرب الخمر، لأن الأعمش كان يتأول في بعض ألوان النبيذ الذي يتأول فيه أهل العراق، وليس من الخمر المسكر ولكنه من النبيذ الذي يسمونه هم بالمنَصَّف، فقال: والله لو أعلم قبره لأحرقته، قال: لا، يا أمير المؤمنين، والله ما كان يهودياً، بل كان رجلاً صالحاً.

الآن انظر كيف تحول شريك من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم، وبدأ يدافع عن هذا الرجل الفاضل الأعمش وهو إمام معروف مشهور؛ في وجه الخليفة، ويقول: ما كان يهودياً حتى تحرق قبره، وما أحرقت قبور اليهود، فلماذا يكون اعتداؤك وبلاؤك وعذابك للمؤمنين والأخيار والعلماء ورواة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال: ما كان يهودياً كان رجلاً صالحاً، قال الخليفة: زنديق، قال شريك: لا، ولا هو بزنديق إن سيما الزنديق معروفة، فالزنديق يشرب الخمر، ولا يحضر الصلاة مع الجماعة، ويلعب مع القيان، يعني لو أراد أن يقولها صريحة لقال: المتهم أنت وليس هو، لأنك تشرب الخمر وتسهر مع القيان ولا تؤدي الصلاة مع الجماعة، فغضب الخليفة وهَمَّ به وقال: والله لأقتلنك، قال: إذاً تلقى الله تعالى بمهجة نفس قتلتها بغير حق، فقال: أخرجوه، فأخرجوه ثم تناوله الحراس يخرقون ثيابه وقلنسوته بالسهام، وخرج هذا الرجل من عند الخليفة سالماً.

العبرة من قصة شريك والمهدي

وفي هذه القصة أيضاً عبرة، أولئك الرواة الذين يسمعون الحديث؛ وليس همهم أن يرووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يتلقوا العلم ولا أن يستفيدوا ويستضيئوا بنوره، وإنما همهم الوشاية به إلى الخليفة، روى فلان كذا وروى فلان كذا، إن من حق الأعمش ومن حق سالم ومن حق ثوبان ومن حق شريك أن يرووا ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يذهبوا به على وجهه السليم فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال هذا الحديث لم يقصد به ولم يكن معنى الحديث الخروج على الحاكم المسلم الذي يحكم بالشريعة إذا أخطأ أو قصر، فإنه صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح حديث عبادة: {وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان}.

إذاً فالأمر معلق بأن يرى المؤمنون الكفر البواح الصراح، الذي لا لبس فيه ولا خفاء ولا مناورة فيه ولا مداورة، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: {استقيموا لقريش ما استقاموا لكم فإذا زاغوا عن الحق} أي: انحرفوا عنه وتركوا قصد السبيل إلى الكفر البواح الذي عندكم من الله تعالى فيه برهان، ولكن بعض هؤلاء يسمعون الحديث ويسمعون الأخبار ويسمعون الروايات؛ وإنما همهم منها أن ينقلوا إلى غيرهم وأن يتشفوا من خصومهم، هذا جانب.

الجانب الثاني: ما جبل عليه علماء السلف الصالح كما يظهر في سلوك أسلوب شريك بن عبد الله رضي الله عنه من الصدق والوضوح والصراحة والشجاعة والصبر في ذات الله تعالى، حتى ولو كان في ذلك حتفهم وعطبهم وهلاكهم، فإن شريكاً كان يرى لمعان السيوف ويسمع القعقعة ويسمع أصوات الجند، وبين يديه أعداد متطاولة من الجند ربما لا يدرك البصر مداهم، كل واحد منهم منتظر أن يؤذن له حتى يخطف رأس شريك، وأمامه الخليفة وقد غضب وأحمرت أوداجه وأحمرت عيناه وأرغى وأزبد وزمجر، وكاد أن يفقد صوابه، ومع ذلك ظل شريك محتفظاً برباطة جأشه وقوة قلبه وصبره، حتى دافع عن الأعمش رحمه الله تعالى في مجلس الخليفة وذب عن عرضه لتذب عنه النار يوم القيامة.

ثم إن في ذلك دليلاً على ما تحلى به أولئك الخلفاء في الزمن السابق من التحري والدقة والصبر وحسن الظن، فإن المهدي في المرة الأولى لما قال له شريك: لماذا تستحل دمي برؤيا قد تكون حقاً أو باطلاً، وبمعبر قد يكون أصاب أو أخطأ؟

رجع إلى الحق وأذعن له ولم يمس شريكاً بشيء، وفي المرة الثانية لما حلف له شريك صدقه وكذب الراوي فيما روى أنه أخذ عنه، ثم طلب منه بعد ذلك أن يقسم قسماً صريحاً، فلما أصر لم يتسرع في قتله ولا إيذائه ولا إنـزال العقوبة به، لأنه يدري أنه عالم له مكانته وله فضله وأن الأمة لا تعز ولا تعلو ولا تنتصر ولا تقوى ولا تجتمع كلمتها إلا على إعزاز العلماء وإكرامهم، وحفظهم وحفظ مكانتهم وحفظ هيبتهم وعدم المساس بهم، فإن كل أمم الأرض قاطبة منذ فجر التاريخ تعتز بأكابرها وسادتها وأهل العلم فيها، وتفخر بهم وتطلق أسماءهم على معالمها، وتسمي أولادها بأسمائهم، وتذكرهم بالذكر الحسن، وتدرس كتبهم وتحفظ علمهم، لأن الأمة التي ليس لها ماضٍ ليس لها حاضر ولا مستقبل.

مثل القوم نسوا تاريخهم     كلقيط عيّ في الناس انتساباً<

ماهان مع الحجاج

القصة الثالثة: أرسل الحجاج وهو من هو في بطشه وظلمه وعدوانه، كان والياً معروفاً في العراق، فأرسل إلى رجل يقال له: ماهان -أبي صالح المسبح- وكان رجلاً فاضلاً ديناً عالماً، فقال له الحجاج: إنه بلغني عندك دين وعلم وصلاح، وإنني أحببت أن تلي القضاء، فقال: أنا! قال: أنت، قال: كيف ألي القضاء وأنا لا أستطيع أن أعد من واحد إلى عشرة؟

قال: أنت تتباله عليَّ -يعني: تدعي البله في مجلسي- وتكلم عليه الحجاج وسبه، وقال: أنت مراءٍ، فغضب ماهان من كلام الحجاج وسبه، وخرج من عنده إلى النهر وكان قريباً فقال بأعلى صوته -والناس يسمعون ويرون-: اللهم إن كنت مرائياً فأغرقني، ثم وقع في النهر، فوقف على النهر قائماً وحفظه الله تعالى فلم يغرق حتى خرج يمشي إلى ضفة النهر، فجاءوا به إلى الحجاج، فأمر الحجاج بصلبه، فصلب على باب داره وهو مصر على ذلك، فكان الناس يحيطون به، وفي مثل هذا الموقف رأى هذا الرجل الفاضل بعض التابعين وبعض العلماء والفضلاء ينظرون إليه ويشاهدونه، فقال لواحد منهم: أنت تنظر إلي وتقف مع النظارة! لا تفعل، فإني أخشى أن ينـزل عليك سخط الله، اذهب عني.

فانظر إلى هذا الرجل كيف ثبت على موقفه، وكيف أصر على موقفه، ورفض أن يعمل عند هذا الحاكم الظالم المتغطرس الحجاج بن يوسف، الذي ملأ الدنيا ضجيجاً وصراخاً وسفك دماء المؤمنين بغير حق على ما هو معروف من سيرته وتاريخه، حتى قام عليه من قام من القراء المعروفين على ما هو معروف تفصيله في التاريخ، المهم أن هذا الرجل أبى أن يلي له عملاً واجتهد في ذلك حتى صلب بسببه، ولم ينس وهو في موقف الصلب أن يقدم هذه النصيحة لبعض الحضور من طلبة العلم: أنت يا طالب العلم ليس هذا موقعك، تأتي تتفرج علينا ما نفعت ولا دفعت ولا أنكرت وأصبحت متفرجاً، لا. إذا كانت المسألة مسألة تفرج فاذهب إلى بيت أبيك وأمك واستخفِ فيه لا ينـزل عليك غضب الله عز وجل.

أحمد الخزاعي مع الواثق

القصة الرابعة: وهي قصة عجيبة:

أحمد بن نصر الخزاعي -هذا من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وكان رجلاً فاضلاً عالماً بُلِيَ بمسألة القول بخلق القرآن، في عهد المأمون ثم في عهد الواثق وأبى بأن يقول بأن القرآن مخلوق، بل أصر أن القرآن كتاب الله تعالى منـزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فحاولوا معه فأبى، فضربوه فأصر، فسجنوه فاستمر حتى أحضره الواثق بين يديه، وقال له: ما هي حجتك في إثبات أسماء الله تعالى والصفات؟

فذكر له أحاديث وأحاديث وآيات حتى مر على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء}. فقال له الواثق: تثبت هذا الحديث! قال: نعم، قال: أي تثبت أن لله يداً وأصابع! قال: نعم، أثبت ذلك كما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الواثق: وهذا تشبيه وهذا تجسيم وهذا وهذا، فغضب أحمد بن نصر الخزاعي وخرجت منه كلمة شديدة على الخليفة، فقال للخليفة: ما أنت والعلم! كيف تتكلم في مسائل العلم وأنت لا تتقنها، إنما أنت نطفة سكران في رحم قينة، يعني إن أباك كان يشرب الخمر وأمك كانت أمة، قال هذه الكلمة الغليظة للخليفة لأنه تصاغر في عينه لما رأى أنه منابذ للحق معارض للسنة، فغضب عليه الخليفة وأمر بصلبه، فصلب في بعض شوارع بغداد، وكان الإمام أحمد يمر عليه فيترحم عليه ويدعو له؛ ويقول: ذلك رجل هانت عليه نفسه في الله تعالى، ثم يقول الإمام أحمد: هذا رجل قد قضى ما عليه، صلب مصراً على العقيدة الصحيحة التي توارثتها الأمة: أن القرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق.

عطاء بن أبي رباح

القصة الخامسة: عطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة وفقيههم وعالمهم ومفتيهم، كان عبداً نوبياً أسود ولكن الله تعالى أعزه بالعلم وكرمه بالطاعة، فسوده أهل مكة عليهم حتى كان الخليفة يأتي فيجده في المسجد يصلي، فيجلس إلى جواره ينتظر السلام ليسأله عن مسألة في المناسك، فإذا سلم عطاء سأله الخليفة فأجابه عطاء جواباً مختصراً ثم قام واستقبل القبلة وقال: الله أكبر، وأعرض عن الخليفة.

حتى قال الخليفة لأولاده: يا أولادي تعلموا العلم، فو الله لا أنسى ذلي بين يدي ذلك العبد الأسود وأنا أسأله عن مسائل العلم. عطاء كان ملء سمع الدنيا وبصرها، وترجمته ترجمة حافلة مشهورة مشهودة، كان يوماً من الأيام يصلي في بيت الله الحرام، وكان هناك رجل من الحجاج قد نام، فجاءت الريح فدفعت ثوبه فظهرت منطقته، وهو الحزام الذي يتمنطق به وكان به ماله، فعدا عليه بعض اللصوص وأخذوه، فاستيقظ هذا الرجل فلم يجد أحداً، ثم تلفت فلم ير إلا عطاء قائماً يصلي، فجاء إليه وأمسك بتلابيبه وهزه هزاً عنيفاً، فقال له: يا كذا ياكذا أخذت مالي فلما ظفرت بك ووجدتك فزعت إلى الصلاة، يعني: ظن أن عطاء هو الذي أخذ هذا المال. فقال عطاء: هل علم بهذا أحد؟

قال: لا، إلا أنت.

قال: هلم معي، كم في منطقك من المال؟ قال: مائتا دينار، قال: تعال أعطيك إياها ولا يعلم بذلك أحد، لأن عطاء قد خشي عليه أن يبطش الناس به حينما أذل عالمهم وإمامهم وفقيههم ومفتيهم، فذهب به عطاء إلى بيته وأعطاه مائتي دينار وقال له: اذهب في حال سبيلك، فلما رآه الناس سألوه عن الخبر فأخبرهم فقالوا: أتدري من هذا قال: لا، قالوا: هذا عطاء بن أبي رباح سيد من سادات التابعين، وإمام فقيه حجة ثبت.

فتعجب! وجاء إليه يعتذر إليه فقال: خذ المال، فقال: هيهات، أما المال فقد وهبه الله لك، وأما الحل فأنت مني في حل، فانظر إلى هذا الإمام كاد أن يبتلى بقضية، وكان من الممكن أن تُرَتَّب -لو وجدت مثل هذه المسألة- بعض الأجهزة المتخصصة في التشويه والتشهير، لرتبت منها قضية خطيرة وقالت ونشرت في الصحف وبالخط العريض: عطاء بن أبي رباح يقبض عليه متلبساً بتهمة كذا وكذا، سرقة الحجيج.

ولكان هذا مادة لعدد من التعليقات الإذاعية والإعلامية، بل وربما عُملت أشياء كثيرة من أجل تضليل الناس عن حقيقة هذا الخبر وهذا الأمر، وتشويه صورة هذا الإمام العالم الجليل، ولكن الأمر انتهى عند ذلك الحد، فانظر كيف تحمل عطاء رضي الله عنه ذلك الأمر، وعفا عن هذا الرجل، وأنهى هذه القضية؛ لأنه كان يعمل لله تعالى لا للناس، فليس يضره أن يتكلم الناس فيه ولا أن يعيبوه ولا أن يتهموه بما هو منه براء: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان:9]. وانظر إلى الناس كيف وقفوا إلى صف عطاء رضي الله عنه، وعرفوا هذا الرجل بحقيقته وطلبوا منه أن يذهب إليه ويتحلل منه ما دام الأمر ممكناً.

وانظر كيف انتهت القضية عند هذا الحد، وأصبح الناس يتندرون بهذه القصة، ويعرفون كم كان مبلغ هذا الرجل من الخطأ وكم كان هذا الرجل بعيداً عن العلم والمعرفة، إذ من هو الذي يجهل عطاء بن أبي رباح وهل يخفى القمر، كلا!

عراك بن مالك مع يزيد بن عبد الملك

القصة السادسة: يزيد بن عبد الملك خليفة أموي، فقد نفى يزيد بن عبد الملك رجلاً إلى جزيرة اسمها دهلك، وكان هذا الرجل اسمه عراك بن مالك، وهو رجل صالح ديِّن خيِّر؛ ولكن لم يعجب الخليفة في هديه وطريقته وعلمه، فغضب منه وكرهه وأبعده وأقصاه، وطالما حصل مثل هذا وغادر المؤمنون ديارهم وبلادهم وأخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، وطالما أوذوا في سبيل الله عز وجل فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصر الله عز وجل، فنفاه إلى تلك الجزيرة -جزيرة دهلك- وكان عمر بن عبد العزيز من قبله قد نفا رجلاً آخر إلى تلك الجزيرة.

ولكن البون شاسع فياترى من هو الرجل الذي نفاه عمر بن عبد العزيز؟

هل نفى عمر رجلاً لصلاحه أو لتقواه أو لورعه أو لفتواه أو لمجاهرته بمسائل العلم؟ كلا، وإنما نفى عمر بن عبد العزيز شاعراً خليعاً يقال له الأحوص إلى تلك الجزيرة، ففي عهد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى ورضي الله عنه- كان النفي والإبعاد والطرد يكون للشعراء المجان، شعراء الفجور والحداثة والخلاعة والدنيا، ويكون التقريب والإعزاز والإكرام لأهل العلم، وأهل الورع وأهل التقوى وأهل الزهد وأهل العبادة، ولذلك نفى عمر الأحوص إلى دهلك.

أما يزيد بن عبد الملك فقد نفى عراك بن مالك، والطريف في الأمر أن أهل دهلك كانوا يدعون لـيزيد بن عبد الملك، ويقولون: جزاك الله عنا خيراً يا يزيد فقد أحضرت إلينا رجلاً علّم أولادنا القرآن والسنة والحديث، وكان عمر بن عبد العزيز من قبلك نفى إلينا رجلاً علم أولادنا الشعر والشر، فانظر: مصائب قوم عند قوم فوائد.

سفيان الثوري مع أبي جعفر المنصور

القصة السابعة: دخل سفيان الثوري على أبي جعفر المنصور -وسفيان الثوري رجل معروف تاريخه كله تاريخ صبر ومصابرة، وبلاء وجهاد، وإيذاء في سبيل الله وصبر واحتساب- دخل مرة على الخليفة أبي جعفر فضرب سفيان البساط برجله بقوة، ثم تقدم وجلس فقال له الحجَّاب: كيف تجلس قبل أن يأذن لك أمير المؤمنين، فقال: إني لا أحتاج إلى إذن أحد، ثم تكلم على أمير المؤمنين ونصحه بقوة وشدة.

فقال الحراس والحجاب للخليفة: يا أمير المؤمنين إن ترك مثل هذا يكون سبباً في الجراءة عليك وعلى سلطانك وقد يمرغ سمعة الدولة ويعرضها للخطر، فلو قتلته "فتبسم الخليفة" وتبسم سفيان، قال الخليفة: إنه سيقول لكم قولاً عظيماً، ما تقول في هؤلاء يا سفيان؟ قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله غيره شر من بطانة فرعون، فإن بطانة فرعون قالوا له: قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ  [الأعراف:111] يعني من الإرجاء والتأخير: وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ  [الشعراء:36] أما هؤلاء فهم طلبوا قتلي سريعاً، فتبسم الخليفة وقال له: قم سليماً معافى، وأخرجه ولم يتعرض له، وإن كان سفيان قضى بقية حياته كلها مختفياً متوارياً، بل مات ودفن وهو مختفٍ متوارٍ رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.

أحد القراء الصالحين مع العبيديين

القصة الثامنة: في عهد الفاطميين العبيديين الذين حكموا مصر وحكموا بعض بلاد الشام وحكموا بلاد المغرب جزءاً من الزمان، وهم كانوا يدعون أنهم من أولاد فاطمة رضي الله عنها ونسبهم ليس بصحيح كما حقق ذلك السيوطي وغيره، المهم أن بعض هؤلاء الفاطميين من غلاة الرافضة ادعى الألوهية، وكان الحاكم يدعي الألوهية حتى قال له الشاعر أبياته المشهورة:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار     فاحكم فأنت الواحد القهار

وكأنما أنت النبي محمد     وكأنما أنصارك الأنصار

فألهه من ألهه من عباد الدنيا وعباد المال وطلاب المناصب وطلاب الشهوات، الذين لا يمانعون أن ينالوا ذلك كله ولو أراقوا ماء وجوههم، ولو تمرغوا في الوحل ولو تدربوا على الذل؛ بل ولو ذبحوا إيمانهم، على هذا فإنه لا مانع لديهم.

ادعى هذا الحاكم أنه الإله الرب المدبر، فكان من صنع الله تعالى أن هذا الحاكم ظهر للناس في وقت الصيف، وقد كثر الذباب وقد كان من حوله يبعدون عنه الذباب فيبتعد ثم يعود مرة أخرى، فيبعدونه فيبتعد ثم يعود والناس قد طال عجبهم من تسلط الذباب عليه، وكان في المجلس قارئ حسن الصوت بالقرآن الكريم، خاشع ديِّن صدوق داعية مضحٍّ فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ  [الحج:73-74] فصاح الناس كلهم الله أكبر الله أكبر! وكأنما تنـزلت تلك الآية في تلك اللحظة، وانجفلوا عن الحاكم حتى سقط عن كرسيه فخاف من القتل فهرب، ثم أضمر شراً لهذا الرجل، وصار يتألفه شيئاً فشيئاً حتى اقترب منه، فقال: إن عندي رسالة أحب أن أرسلك بها إلى فلان، فأخذ الرجل هذه الرسالة وركب البحر فدبر الحاكم مؤامرة لإغراق هذا الرجل، فلما كان في ثبج البحر، وتلاطمت الأمواج، وأظلم الليل، سارع الربان إلى هذا الرجل، فأخذه وألقاه في البحر فأغرقه، ثم واصل طريقه، ومات هذا الرجل، ولما مات رؤي في المنام -رآه رجل في المنام- فسلم عليه، وقال له: والله ما قصر معي ربان السفينة، لقد أوقفني على باب الجنة.

إنه موقف سهل يسير لم يزد هذا الرجل على أن قرأ آية من كتاب الله تعالى، ولكن التوقيت والمناسبة والظروف جعلت هذه الآية تفعل فعلها، فآمن الناس وأدركوا أنه يجب أن يرفضوا هذا المتأله، الذي قال لهم كما قال فرعون الأول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي  [القصص:38] فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] فقالوا: الله أكبر، وقاموا حتى كادوا أن يقتلوا هذا الحاكم، ولو أنهم كانوا أكثر شجاعة وأكثر قوة وأكثر تضحية لكان في هذا الموقف البسيط الشرارة التي تحرق عرش العبيديين المتألهين، الذين حاربوا القرآن وحاربوا السنة وأحرقوا صحيح البخاري وقتلوا العلماء وقضوا على أهل السنة في ديارهم ونشروا البدعة حيث حلوا وأين أقاموا.

الوقفه الثانية: المحن الكبار: وإذا ذكرت المحن الكبار فمن يستطيع أن ينسى أو يترك ذكر رسل الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، طالما لقوا ما لقوا في سبيل الله تعالى، وكذبوا وأوذوا ومنهم من حبس كما حبس يوسف عليه الصلاة والسلام، ومنهم من قُتل كما قُتل يحيى، ومنهم من ضُويق وحاولوا قتله كما فعلوا بعيسى عليه السلام، ومنهم من أخرج من بلده كما أخرج موسى وهارون ومحمد صلى الله عليهم جميعاً وسلم.

إنهم قادة الموكب وأئمة الركب والحديث عنهم يطول ولكني أعرض نماذج لهؤلاء كما عرضت فيمن كان قبلهم.

محنة يوسف عليه السلام

أولاً: يوسف عليه الصلاة والسلام، لقد كان يوسف نموذجاً للصبر على الابتلاء، ونموذجاً للرجل الذي تجرد لله عز وجل واحتسب، فلم تزده الفتنة والمحنة إلا قوة ونضجاً وصبراً وثباتاً حتى كتب الله تعالى له العزة في الدنيا والرفعة في الدار الآخرة.

حسد إخوة يوسف

المحنة الأولى: كانت أول محنة يوسف: حسد إخوته، حسدوه على مكانته عند أبيه ومحبته له وقالوا: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ [يوسف:8-9] لقد ألقوه في البئر فبيع، وعومل معاملة الرقيق وبعد عن الأهل وحيل بينه وبين أبيه وإخوته، وتغرب عن وطنه وعاش غريباً في بلد لا يعرفها، ولا يعرف أهلها وهم لا يعرفونه أيضاً، وبيع في المزاد العلني كما يباع الرقيق، بل بيع بثمن بخس: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف:20]. ولكن. هل ضره ذلك؟

لقد لقي الأذى، وعاش في ظلمة البئر، وأوذي وخاف ومشى مع قوم لا يعرفهم وجلس في القصر زماناً طويلاً، ولكن العجب أن الله تعالى عقَّب على هذه المحنة الأولى في حياته بقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ [يوسف:21]. هذه هي بداية التكريم وبداية العلو وبداية الصعود: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [يوسف:21]. فقال الله تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف:21]. نعم. كانت هذه المحنة بداية تمكين له في الأرض، وتعليم الأحاديث له، وقد عقب عليها سبحانه بقوله: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف:21]. فالناس لا يرفعون ولا يضعون، ولا يقدمون ولا يؤخرون ولا يقربون ولا يبعدون فإنما الأمر كله لله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154] وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف:21].

كم أراد الناس حطة إنسان فرفعوه، وكم أرادوا تقليله فكثروه، وكم أرادوا ضره فنفعوه. قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد من حديث ابن عباس قال: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].

ويقول تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [يوسف:22]. إذاً: كانت المحنة الأولى بداية في التمكين والتأييد والرفعة ليوسف عليه السلام، والتعليم الذي علمه الله تعالى وآتاه الله تعالى بعده حكماً وعلماً لأنه كان من المحسنين، لأنه تعامل مع المحنة تعاملاً سليماً نظيفاً صابراً فلم ينقل عنه أنه سب إخوته ولا شتمهم ولا قال فيهم ولا عاملهم بالمثل، بل هو كما قال الله تعالى في آخر السورة: مِنْ بَعْدِ أَنْ نـزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف:100] فجعله نـزغاً من الشيطان بينه وبين إخوته، ولم يقل لإخوانه أنتم فعلتم وفعلتم، وقلتم وذهبتم وجئتم، لا: بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف:100] فكأن الأمر على السواء بين يوسف وبين إخوانه، وأن الشيطان نـزغ بينه وبينهم.

فتنة النساء

المحنة الثانية: فتنة النساء، فهو في قصر العزيز رئيس الوزراء، في قصره الفخم الضخم المشيد: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23] إنه امتحان عظيم عسير، يوسف عليه السلام شاب وفي الشباب قوة وشِرَّة وشهوة واندفاع، والشهوة أحياناً تغطي العقل حتى يسير الإنسان أسير شهوته وهو لا يبصر ما أمامه، ويوسف عليه السلام كان شاباً وهو كان عزباً أيضاً لم يتزوج، والمتزوج ربما وجد في زوجته ما ينهي شهوته أو يدفعها أو يدافعها أو يؤجلها، ولكنه كان شاباً عزباً، وهو أيضاً كان غريباً والإنسان في وطنه ربما يمنعه في الوقوع في المحذور خوف الفضيحة والمعرفة والأقارب والأهل والجيران، أما الغريب فهو أجرأ في الوقوع في المعصية وأبعد من الفضيحة، ولهذا تجد الكثيرين إذا هموا بأمر سوء ذهبوا إلى بلاد بعيدة ليفعلوا ما يفعلون بعيداً عن أعين الرقباء، وعن أعين الأهل والمعارف والجيران والأصدقاء والزملاء، وهو أيضاً كان في صورة العبد المملوك، والعبد المملوك جرت العادة أن يؤمر فيطيع، ويوجه فيمتثل وهي كانت سيدة.

فكان موقفه في نظر الناس ضعيفاً ولكنه في الحقيقة قوي، أما المرأة فكانت ذات منصب فهي -إن صح التعبير- سيدة البلاد الأولى زوجة العزيز، فهي ذات منصب وثانياً هي ذات جمال، وما اختار العزيز امرأته إلا وفق معايير في الحسن والجمال مضبوطة معروفة، فهي ذات منصب وجمال، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم فيمن يظلهم الله في ظله: {ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله} وهي أيضاً المطالِبة بالأمر، فإن المرأة في العادة تكون مطلوبة لا طالبة، والرجل قد يعرض عن طلب المرأة خشية أن ترده، ولكنها الآن هي التي تطلبه وتقول له: هَيْتَ لَكَ [يوسف:23] وهي أيضاً في بيتها، في بيت العزيز في القصر وفي خلوة وقد غلقت الأبواب، فأمنت من أعين الرقباء ومع ذلك مارست معه أسلوب الترغيب والترهيب: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32].

فاستعلى يوسف على هذا كله ونجح في هذه المحنة الثانية؛ وقال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23] وقال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33] إذاً: استعان يوسف بربه عز وجل، وسأله العصمة وقال -والله تعالى يعلم أنه صادق-: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33].

نعم. الشهوة مركبة في كل إنسان وقد جاء في بعض الروايات الإسرائيلية؛ أن يوسف عليه السلام تزوج هذه المرأة بعدما مات العزيز، فدعاها مرة فأبت، فقال: كنت تطلبينني في الحرام والآن أنا أطلبك في الحلال فترفضين! على كل حال هذه روايات إسرائيلية، فإذا صحت هذه القصة؛ فإنها تؤكد هذا المعنى الذي لا شك فيه، وهو أن الإنسان بطبيعته عنده شهوة وعنده ميل، ومنظر المرأة الجميلة يشده ويأسره لكن الإيمان هو الذي يعصمه: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] فالذين صدقوا الله تعالى وتعرفوا إليه في الرخاء تعرف الله إليهم في الشدة فحفظهم.

كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته لـابن عباس: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} وأي شدة أشد من أن يتعرض شاب في مثل هذا الحال إلى فتنة وإغواء وإغراء، وهو يتعرض للتهديد والوعيد إن لم يفعل، بل وتنقلب المسألة عليه: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25] لقد قلبت امرأة العزيز الأمر وزعمت لسيدها أن يوسف راودها عن نفسها.

محنة السجن

المحنة الثالثة: محنة السجن: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يوسف:35] سجنوه: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42] كما ذكر الله عز وجل، فماذا كان حاله في السجن:

أولاً: كان داعية مؤثراً، أصبح السجن بالنسبة له أمراً عادياً، بل إن السجن بظلمته وجدرانه الطويلة وجلاوزته وحراسه وحدوده أحب إليه وأفضل في نظره من ذلك القصر الفاره الضخم الواسع، نعم. السجن أحب إليه، ففي السجن يعبد الله ويأمن على نفسه، أما في ذلك القصر فإنه يخاف أن تجره تلك المرأة إلى الفتنة، كان في السجن داعية مؤثراً ولم يجد في السجن غضاضة، بل كان أمره كما قيل:

صلابة أرض السجن إن كان قربكم>>>>>ألذ وأشهى من طري النمارق

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [يوسف:39-40] وظل يدعو حتى أثر في المساجين وهدى منهم من هدى إلى الله عز وجل، ثم جاءه الفرج بعد حين، وجاءه الرسول يقول: الملك يطلبك! فماذا قال؟ هل استقبل الرسول عند باب السجن وقال: لماذا تأخرتم عليَّ! لا، قال: ارجع إلى ربك، فلن أخرج: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:50] لا أريد أن أخرج ثم تلاحقني التهم والظنون والأقاويل الباطلة: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50] فلما حصحص الحق: قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:51]؛ وحينئذٍ يخرج يوسف عليه السلام، وهو مرفوع الهامة عزيز الجانب، قوي الإيمان بريء الساحة، عرضه أطهر من السحابة في سمائها، لا يستطيع أحد أن يقول فيه ولو بالباطل ولو بالسوء.

إنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد نجح في هذه الثلاثة الاختبارات كلها، فما سر النجاح؟

لقد بينه تعالى بقوله: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90] فالقضية مرهونة بمسألتين يسيرتين في اللسان عظيمتين، وإنهما ليسيرتين على من يسرهما الله تعالى عليه: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [يوسف:90].

محنة شعيب عليه السلام

شعيب عليه السلام دعا قومه فـ: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف:88] خياران لا ثالث لهما إما الطرد والنفي والإبعاد، لا تصلحون للوطنية أنتم، لأنكم تشقون الصف الواحد وتمزقون الوحدة الوطنية وأنتم تهددون بحرب أهلية، لماذا؟

لأنهم يدعون إلى دين جديد وعقيدة جديدة وتوحيد جديد، وبموجب دعوة شعيب وغير شعيب عليهم الصلاة والسلام من رسل الله وأنبيائه، سوف ينقسم الناس وينشطرون وينصدعون إلى فريقين: مؤمنين وكافرين: فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45].

وهذا لا شك يهدد الوحدة الوطنية، لكن ما هي الوحدة الوطنية؟

إن أي وحدة أو وجود على غير الإيمان وعلى غير الإسلام وعلى غير التقوى فهو إلى ضلال وظلام.

إذاً: لا بد أن تخرج من قريتنا أو تعود، أمامك فرصة -مثلما تعلن بعض الحكومات الآن: أمام المتطرفين مهلة مائة يوم للتوبة وأن يسلموا أنفسهم للأجهزة الأمنية- فقالوا له ذلك: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف:88] فماذا كان جواب شعيب عليه السلام؟

كان جوابه واضحاً صريحاً مباشراً ليس فيه لف ولا دوران، قال: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [الأعراف:89] إن رجعنا إلى ملتكم فنحن خاسرون كاذبون على الله مفترون مرتدون عن ديننا، وما كان لنا أن نفعل ذلك إلا أن يشاء الله، فالقلوب بيد الله يقلبها كيف شاء.

ومثل ذلك ما قال أهل الكهف: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:20]. مرة أخرى أصر القوم وتطورت اللهجة وارتفع الخطاب، فـ: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ [هود:91] إذاً تطور الأمر من مجرد النفي إلى التهديد بالرجم، يرجموكم: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [هود:91] إذاً ما خافوا من الله تعالى ولا راقبوه؛ إنما قالوا: تركنا قتلك رعاية للأسرة والعائلة التي تنتسب وتنتمي إليها، ولذلك قال: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [هود:92].

إذاً تطورت اللهجة -لهجة قوم شعيب عليه الصلاة والسلام- فهددوه بالقتل بل القتل بطريقة بشعة وهي الرجم، وما منعهم من ذلك إلا رهطه: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [هود:91] بل إن شعيباً عليه السلام طلب منهم أن يصبروا وينتظروا حتى يحكم الله بينه وبينهم، دعوني واتركوني أدعو من هداه الله تعالى، أدعو الناس إلى الدين وإلى التوحيد، فأبوا ورفضوا وهذا يؤكد أن مثل هؤلاء القوم لا يمكن أن يهادنوا أمر الحق أبداً.

فإن الصراع بين الحق والباطل والإسلام والكفر والإيمان والضلال؛ صراع أبدي أزلي لا يمكن أن ينتهي أبداً، حتى لو وضع أهل الخير السلاح، وحتى لو تركوا الأمر، وحتى لو اقتصروا على مجرد أداء الصلوات والنوافل والعبادات، لم يرض منهم أهل الشر بذلك، بل لا يرضون منهم حتى يتركوا دينهم كما قال الله عز وجل: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].

محن موسى عليه السلام

موسى عليه الصلاة والسلام إنه لقي من الأذى والبلاء الشيء الكثير.

موسى مع فرعون

فأولها: أذية فرعون له ولقومه واستعبادهم، حتى طغى واعتدى وتسلط على بني إسرائيل وعلى غيرهم، وآذاهم أشد الأذى وكانت السجون ملأى قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29] أي: إن المساجين بمئات الألوف؛ وأنت سوف تكون واحداً منهم فقط، إذا عبدت غيري ووحدت الله تعالى، فعقابك سهل بالنسبة لنا، كل ما في الأمر أنك تكون واحداً من المسجونين، وننساك طيلة عمرك في السجن ولا نفطن لك أبداً.

ثم القتل والتعذيب حتى كان فرعون يقتل سنة كل المواليد خشية أن يكون من بينهم من زوال ملكه على يده، ثم بعد ذلك كله الاستعباد حتى كان يقول لهم: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] ولا يسمح لأحد أن يفكر بغير طريقته، ولا أن يتعبد بغير ملته ومذهبه، ولا أن يعبد غيره، ونشأ على هذا الصغير والكبير، حتى إن ماشطة بنت فرعون لما سقط المشط من يدها؛ فقالت: بسم الله -وكانت مؤمنة- فقالت لها ابنة فرعون: الله، تعني فرعون أبي، قالت: لا، ربي وربك ورب أبيك الله رب العالمين، قالت: سوف أخبر والدي، قالت: أخبريه، فلما أخبرته جاء بها فأقرت وأصرت، فأحضر لها نقرة من نحاس، وأوقد عليها بالجمر حتى أصبحت تتوقد حمراء، ثم أحضر أطفالها فوضعهم في هذه النقرة حتى احترقوا أمام ناظريها وعينيها وهي تراهم يسوَدُّون فحماً وحمماً أمامها.

وهي الأم الحنون العطوف التي يسيل قلبها رقة على أولادها، ومع ذلك تجلدت وصبرت صبر الرجال بل صبر الأشداء، ثم قالت له: لي إليك حاجة، وربما فرح الفرعون وظن أنها سوف تتراجع أو تتخلى، أو على الأقل تتظاهر بالموافقة، فقالت: أن تجمع عظامي وعظام أولادي في قبر واحد، قال: ذلك لك علينا من الحق، ثم أخذها وأحرقها معهم: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:10-14].

بل سلط فرعون أجهزة الأمن على الناس تراقبهم وتعد حركاتهم وسكناتهم وأنفاسهم؛ وتكتب عنهم التقارير، وتحصي عليهم كل شيء خشية من المؤمنين ومن الإيمان: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الشعراء:54] كما هي العادة فرعون يخطب خطبة في شعبه فهو يريد أن يقول: هؤلاء قلة ليس لهم وزن ولا اعتبار ولا أهمية هم شرذمة قليلون: وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:55-56] وكلمة حاذرون هذه يدخل تحتها كل ألوان المكر والكيد والتخطيط والتدبير والمراقبة التي كانت أجهزة فرعون تعملها ضد الأخيار، وضد الذين يعتبرون متهمين في نظرهم، فلقي المؤمنون -موسى عليه السلام وهارون ومن معهم من المؤمنين- لقوا ألوان الأذى من تسلط فرعون وأذيته لهم.

ثم خرج موسى بقومه، وخرج فرعون وراءه حرباً لهم يريد أن يقتلهم ويستأصلهم، حتى كان البحر أمامهم وفرعون وجنده وراءهم، حينئذٍ ضرب موسى بعصاه البحر ونجا ومن معه من المؤمنين، وأغرق الله تعالى فرعون ومن معه فحينئذٍ مكن الله تعالى للمؤمنين ولبني إسرائيل ولموسى.

موسى مع بني إسرائيل

بدأت مشكلة موسى حينئذٍ مع بني إسرائيل، مع هؤلاء الاتباع فإنهم يتلونون ويغيرون ويبدلون ويتراجعون، ويحتاجون إلى جهد كبير مرير طويل، وإلى تربية وإلى صبر، فهم يقولون له يوماً: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [البقرة:61] يعني: تتركون المن والسلوى طعاماً لذيذاً حلواً، عسلاً وطيوراً وتطلبون الثوم والبصل، ثم يقولون له: حين قال لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فقالوا له: قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً [البقرة:67] أموسى يخاطب بهذا الأسلوب؟ أكان يهزأ وهو يقول لهم: إن الله يأمركم، هل يكون الهزو في أوامر ينقلها لهم: أن الله تعالى أمرهم بها؟!

كلا!

بل يأمرهم فيقولون: سمعنا وعصينا، ثم يقولون له: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] بل قال لهم: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة:58-59] قالوا: حنطة، ودخلوا يزحفون ويقولون حبة في شعيرة، يعني كلاماً ليس له معنى على سبيل السخرية والاستهزاء.

ولهذا موسى عليه الصلاة والسلام لما مر به النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء والمعراج: {فقال له: بمَ أمرك ربك؟ قال: بخمسين صلاة، قال: إني قد جربت الأمم قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا تطيق، ارجع لربك فاسأله التخفيف} والحديث في صحيح البخاري، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت الصلوات خمساً، فقال الله تعالى في الحديث: {هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي}.

المهم أن موسى قال: وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، مع أن هذه الأمة لا تقارن ببني إسرائيل فهم أطوع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، وأسرع في الخير، بل هم أفضل الأمم وأول من يدخل الجنة؛ كما أن نبينا محمداًصلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل وخاتمهم وأول من يدخل الجنة.

محن خير البشر صلى الله عليه وسلم

لقد لقي محمد عليه الصلاة والسلام من قومه من أذاهم ما لقي: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30] لقد هموا به عليه الصلاة والسلام أن يقتلوه، ويستريحوا منه -فيما زعموا- وأن يثبتوه فيُفرض عليه الإقامة الجبرية ويمنعوه من مغادرة مكة، أو يخرجوه فينفوه إلى بعض البلاد ويرتاحوا من دعوته، فلقد لقي صلى الله عليه وسلم من قومه ما لقي، وفي الصحيح قالت عائشة رضي الله عنها: {ما أشد ما لقيت من قومك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال في الطائف، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت على وجهي وأنا مهموم فلم استفق إلا وأنا في قرن الثعالب -قريباً من منى لم يستفق عليه الصلاة والسلام إلا في ذلك المكان، من الطائف مشى وظل في هم كاد أن يغطي عليه عليه الصلاة والسلام فلما أفاق إذا سحابة قد أظلته وفيها جبريل، فنـزل وقال: إن ربك قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وهذا ملك الجبال فمره بما شئت، فسلم عليه ملك الجبال وقال له: إن الله سمع قول قومك وما ردوا عليك فمرني بما شئت، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين -وهما جبلان بـمكة- فقال عليه الصلاة والسلام: {لا، بل أستأني بهم، أنتظر وأرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً}.

إن هؤلاء الأقوام قد تجردت نفوسهم من حظوظها، فلم يعد الواحد منهم ينتصر لنفسه ولا يغضب لذاته، بل كل أذى يناله في سبيل الله تعالى فهو هين، بل ربما فرح بالأذى كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كان أحدهم يفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالنعماء} يفرح لأنها عربون للصبر في ذات الله تعالى، وعربون الصدق في الدعوة وعربون الإخلاص، فإن الإنسان يعلم أنه إذا أوذي في الله فإن ذلك بقوة إيمانه وصدق يقينه، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يبتلى الرجل على قدر إيمانه إن كان في إيمانه قوة زيد في بلائه حتى يظل البلاء بالمؤمن فيمشي على الأرض وما عليه خطيئة}.

وسئل صلى الله عليه وسلم -من أشد الناس بلاءً فقال: {الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل} فهؤلاء القوم لم يعد الواحد منهم يبالي لما يصيبه في ذات الله، لقد عمل المشركون ضد النبي عليه السلام وضد المؤمنين ألواناً من الأذى، فعلى سبيل المثال لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال الله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186] فسمعوا من أهل الكتاب سخرية واستهزاء، بل كان اليهود كلما جدت شعيرة؛ دندنوا حولها وشوشوا وتكلموا وأجلبوا وشبهوا وظللوا، وحاولوا أن يوقعوا في قلوب المؤمنين من الريبة والشك. وعلى سبيل المثال لما حولت القبلة إلى الكعبة تكلم اليهود وقالوا: لا يريد هذا الرجل أن يدع شيئاً من أمرنا إلا غيره وبدله، ورفضوا دعوته وأصروا على ما كانوا عليه، ثم سمعوا من المشركين أذىً كثيراً بل تجاوز الأمر الأذى بالقول واللسان، مع أن الأمر والبداية كلمات، ومن سل لسانه -كما يقال اليوم- سل سيفه غداً.

فهؤلاء تكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه وآذوه ثم تطور الأمر إلى الحرب والقتال، فلقيه في بدر صلى الله عليه وسلم ثم في أحد حيث قتل أكثر من سبعين من أصحابه صلى الله عليه وسلم وجرح أكثرهم، بل جرح النبي صلى الله عليه وسلم شخصياً وشج رأسه، وكسرت رباعيته، ودخلت حلق المغفر في وجنته عليه الصلاة والسلام، وسقط في بعض الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق، حتى قال عليه الصلاة والسلام: {كيف يفلح قوم شجوا نبيهم} فأنـزل الله مباشرة: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] فالتأديب والتربية والتهذيب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما غضب لشخصه ولا لأنه محمد بن عبد الله القرشي المطلبي الهاشمي، ولا غضب لأنه من مكة ولا لأنه من العرب، لا، إنما غضب لأن هذا اعتداء على مقام النبوة، شجوا نبيهم ومع ذلك يوجه الله تعالى ويعلم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] إنهم لم يتركوا سبيلاً إلا سلكوه.

الحصار الإعلامي

الحصار الإعلامي: قالوا: ساحر شاعر كذاب، حتى كان الرجل يأتي إلى مكة فلا يزالون به حتى يضع القطن في أذنيه خشية أن يسمع شيئاً من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم يستفيد النبي عليه السلام من مناسبات الحج وغيرها، واجتماع العرب في المواسم فيدور عليهم: {أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، من يؤويني ومن ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي} فماذا صنعوا؟

كان أقرب الناس إليه أبو لهب يمشي وراءه ويقول: لا تطيعوه لا تصدقوه، فإنه كذاب يريد أن تتركوا اللات والعزى وتتركوا حلفاءكم من الجن إنه وإنه..

بل يبعثون إلى ملك الحبشة من يقول له: أنت آويت بعض هؤلاء، ونحن قومهم وأبصر بهم إنهم قالوا وقالوا حتى قالوا، في عيسى قولاً عظيماً، ماذا قالوا في عيسى؟

قالوا: إنه عبد الله ورسوله. فهذا هو الحصار الإعلامي.

التصفية الجسدية

ثانياً: التصفية الجسدية، محاولات كثيرة لاغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام لقتله، حتى كان من آخر ذلك أنهم في ليلة الهجرة تآمروا عليه وجندوا مجموعة من الفتيان لقتل النبي عليه الصلاة والسلام بنية أن يتفرق دمه في القبائل فلا يستطيع أهله ولا عشيرته أخذ الثأر من قبيلة بعينها، بل حتى في المدينة بعثوا إليه بعوثاً لمحاولة اغتياله عليه الصلاة والسلام.

الحصار الاقتصادي

ثالثاً: الحصار الاقتصادي، أما في مكة ففي شعب أبي طالب ظلوا سنوات محصورين في الشعب، لا يصل إليهم طعام ولا شراب ولا لباس ولا شيء إلا على سبيل الاستخفاء، حتى سمع صياح الأطفال وتضاغيهم من بعيد، وقريش المشهورة بإكرام الضيوف والنجدة والكرم والحمية لا ترق على هؤلاء، لماذا؟ لأن المسألة مسألة كفر وإيمان، فحاصروهم في ذلك الشعب حصاراً طويلاً حتى زال ذلك الحصار.

أما في المدينة فقد قال المنافقون قولتهم المشهورة: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [المنافقون:7] إنهم يظنون أن المال عندهم، وأن توقفهم عن الإنفاق أو الصدقة أو بذل المرتبات لمستحقيها أو ما أشبه ذلك، أنه يكون سبباً في بُعد المؤمنين وانحيازهم، والواقع أن هذا لا يزيد المؤمنين إلا صدقاً، لأن أولئك المؤمنين ما جاءوا يطلبون مالاً ولا دنيا ولا جاهاً إنما جاءوا يطلبون ما عند الله، والرسول عليه الصلاة والسلام -أيُّ رسول- ما كان يعدهم أبداً بالملك، ولا يعدهم بالمناصب الوزارية، ولا يعدهم بالتمكين الدنيوي إنما كان يعدهم على أن يبايعوه ولهم الجنة، أما دون ذلك فالأمر إلى الله إن شاء نصرهم؛ وإن شاء نصر الجيل الذي بعدهم، فالأمر بيد الله يؤتيه من يشاء، ولهذا فأولئك المؤمنون مقاييسهم مختلفة لا ينظرون إلى الدنيا ولا إلى زخرفها ولا إلى المال.

التشكيك في المقصد

وكذلك التشكيك في مقصد الرسول صلى الله عليه وسلم ونيته: إنه يريد المال ويريد الملك ويريد الجاه، حتى قالوا له: إن كنت تريد مالاً! إن كنت تريد ملكاً! إن كنت تريد زوجة! وقالوا: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6] هذا يريد الكبرياء، بمعنى واضح: يريد السلطة، يريد أن يجتمع عليه العرب، ويريد أن يتوج ملكاً، حتى لما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بدأ المنافقون واليهود يتهامسون بمثل هذا الأمر، وأن محمداً يريد الرياسة ويريد السلطة ويريد الجاه ويريد المنصب، وليس داعياً إلى الله عز وجل.

لكن مثل هذه الأشياء من تخدع؟!

من تدخل قلبه مثل هذه الأشياء؟!

لقد ذهب عبد الله بن سلام -وهو يهودي في ذلك الوقت- كما في سنن الترمذي وهو صحيح، إلى النبي عليه السلام لما دخل المدينة مهاجراً، قال: فلما استثبت في وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب، ينطق الصدق في جبينه، وتنطق العقيدة الصافية في محياه، ويجري الحق في عروقه، فهو صلى الله عليه وسلم صادق كل الصدق، مخلص كل الإخلاص، متجرد كل التجرد، حتى يرى هذا في وجهه عليه الصلاة والسلام.

الطعن في العرض

الطعن في عرضه صلى الله عليه وسلم وكان من أبرز ذلك الخطة التي دبرها المنافقون بالتعاون مع اليهود وضللوا بها بعض ضعفاء الإيمان؛ في الطعن في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لأنه طعن في بيت النبوة، واتهام في امرأة يحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإدخال للحزن والقلق على المؤمنين، وقد أصاب المؤمنين من جراء ذلك -شهراً كاملاً- أصابهم ضر وهَم وحزن وبلاء، ثم كان ذلك عين الخير للمؤمنين، قال الله تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11] رفعة ومكانة ومن هي المرأة التي حظيت بتزكية الله تعالى لها من فوق سبع سماوات، ونـزل القرآن يبرئ ساحتها ونـزلت فيها آيات عظام من سورة النور تتلى وتقرأ حتى أصبح من يطعن في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كافراً، لأنه مكذب لله تعالى فيما أنـزل وأخبر.

التشكيك في مستقبل الدعوة وسلامتها

التشكيك في مستقبل الدعوة وسلامتها: قالوا هذا رجل سينتهي انتظروا هي فترة وجيزة، مثلما ذهب النابغة، ومثلما ذهب فلان: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور:30] نعم، تربصوا، الزمن في صالحنا، الوقت لنا: فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور:31] وذهب هؤلاء.

لو سألتكم أنتم أيها الإخوة: من منكم يعرف اسم أبي جهل؟ الذي يعرفه منكم قليل، اسم أبي لهب؟

أنا لا أعرفه! حتى أسماؤهم لا تعرف، ولا يذكرهم الناس إلا باللعنة، لكن أقل واحد من الصحابة وأصغر واحد من أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام أصبح الناس لا يرون ذكره إلا مع الدعاء بالترضي، فكل صحابي يذكر: رضي الله عنه وأرضاه، فضلاً عن كبار الصحابة، فضلاً عن إمامهم وسيدهم وقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم.

فهو ملء سمع الدنيا وبصرها، وملايين المآذن في مشرق البلاد ومغربها تصدع في كل يوم خمس مرات: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، إنها تعلن انتصار دين محمد صلى الله عليه وسلم -وأنه بقي وذهبوا، وانتصر وخُذِلوا، ومضى يجتاز الزمان والمكان والقرون والدهور عليه الصلاة السلام؛ ويعمر العقول والقلوب، أما هم فذهبوا- أعني من مات منهم على الكفر -ذهبوا إلى نار جهنم وبئس المصير، ولم يبقَ لهم ذكر في الدنيا أبداً، حتى أقاربهم يتبرءون منهم ويستحون أن يكون أحدهم ابن فلان أو حفيد فلان.

افتعال العداءات بين الصحابة

كذلك افتعل هؤلاء الخصومة والعداوة بين أصحابه صلى الله عليه وسلم وحاولوا أن يثيروا نعرات الجاهلية مرة بعد أخرى، وبذل المنافقون في ذلك جهداً وعناءً عظيماً، وكلما جاءت مناسبة؛ كما في قصة المريسيع التي قام فيها المنافقون، فقال قائل: يا للمهاجرين، وقال آخر: يا للأنصار، حتى كادوا أن يقتتلوا، ومرة أخرى كما في صحيح البخاري: {مر النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم ودعاهم إلى الله، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: ما أحسن ما جئت به، لكن إن كان ما جئت به حقاً فلا تَغْشَنا في مجالسنا، اجلس في بيتك ومن أحبك جاء إلى بيتك، فقال بعض الصحابة: بل اغشنا يا رسول الله، فإنا نحب ذلك، فتثاور الحيان حتى كادوا أن يقتتلوا، فما زال النبي -صلى الله عليه وسلم يخفظهم حتى سكنوا} فحاولوا أن يفتعلوا الخصومة والعداوة بين المؤمنين، ويفرقوهم جماعات.

كان اسم المهاجرين واسم الأنصار اسم شرعي إسلامي ذكره الله تعالى في القرآن، وذكره النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث، ولم يرتبط بهذا الاسم عصبية ولا حزبية ولا قبلية ولا عداوة، بل كان سبيلاً للمنافسة في الخير، فاستغله المنافقون أو حاولوا أن يحولوه إلى عداوة، أن يكون المهاجرون ضد الأنصار؛ أو أن يكون الأنصار ضد المهاجرين من أجل أن تثور العداوة بينهم، لأنهم يعرفون أنه لا تروج بضاعتهم ولا تنفق سوقهم؛ إلا حينما يشتبك المؤمنون فيما بينهم، وينشغل بعضهم ببعض، فحينئذٍ سيكون لليهود فرصة، وسيكون للمنافقين فرصة، وسيكون للمشركين الوثنيين فرصة، أما إن كانت كلمة المؤمنين مجتمعة فإنه لا شأن لهؤلاء جميعاً.

استمرار المحن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم

ثم كان بعد ذلك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من ألوان الابتلاء ما يذكرك بما حصل للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حتى قيل للإمام أحمد رحمه الله وهو أحد الذي أوذوا في سبيل الله وعذبوا حتى جلس في السجن مرة واحدة ثمانية عشر شهراً متواصلة، قيل: لو كان الإمام أحمد في بني إسرائيل لكان نبياً، لفضله وعلمه وجلالته ورفعة قدره في هذه الأمة.

وقد سبقت ترجمة الإمام أحمد في درس خاص، وهكذا الإمام مالك فأمره هكذا، قد لقي من العناء ما لقي وتحدثت عنه سابقاً، ومثله أيضاً العز بن عبد السلام والمنذر بن سعيد البلوطي وغيرهم من علماء هذه الأمة ودعاتها وأئمتها، وسأتحدث إن شاء الله في فرص ثانية عن أئمة آخرين كالإمام الشافعي وأبي حنيفة وابن تيمية وابن القيم والنووي وابن حزم ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم من أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.

أيها الإخوة: إن الوقت انتهى ولم أصنع شيئاً فهذه وريقاتي في يدي كما كانت، ولذلك أترك بقيه الموضوع وقد بقي منه جزء كبير مهم جداً، أتركه إن شاء الله إلى محاضرة أخرى وأترك بعض الوقت لقراءة بعض الأسئلة.

كثيراً ما يسألني بعض الشباب عن كتب تزكى للقراءة، ويقترحون في كل درس أو محاضرة أن أقدم لهم كتاباً، وقد وقع في يدي هذا اليوم كتاب اسمه: قواعد الاعتدال لمن أراد تقويم الجماعات والرجال، بقلم عقيل بن محمد بن زيد المقطري من اليمن وقد طبع الكتاب في مكتبة دار القدس في صنعاء، ونشر في دار ابن حزم، هذا الكتاب على قصره قرأته اليوم فوجدته كتاباً قيماً ممتعاً مفيداً معتدلاً، وأنصح الإخوة من الشباب وغيرهم بقراءته ونشره أيضاً، لما احتواه من القواعد والفوائد والمعلومات والاعتدال فيما يطرح وما يقول.

الأسئلة

العمل في شركة فيها كفار

السؤال: نحن إخوان لكم في الله أتينا من المنطقة الشرقية لمشاركتكم وزيارتكم في الله تعالى، مجموعة من الشباب نعمل في شركة أرامكو في الأمن الصناعي، وللأسف الشديد أنه في كل يوم جمعة تفتح الشركة أبوابها للنصارى الذين يعملون في المنطقة الشرقية لكي يؤدوا صلاتهم في الكنيسة التي تقع في الشركة، ويوزع عليهم مجاناً الإنجيل الذي وقع تحت يدي، ونحن نعمل في البوابات ولا يمكننا منع النصارى الذين يريدون الدخول لعدم وجود أمر بمنعهم فما موقفنا وبمَ تنصحنا؟

الجواب: الشر كبير وعظيم اليوم، وإذا لم يستيقظ الغيورون فأخشى أن يغزوا في عقر دورهم، فبالأمس هاتفني أحد الناس وقال لي: عندي عمال من الهندوس وقد أسلموا؛ فذهبت إلى بعض مكاتب العمل فقالوا: لا بد من مراجعة السفارة، قال: فذهبت بهم إلى السفارة ووجدت أن السفارة قد فرضت قيوداً وشروطاً عظيمة تعجيزية، وكأنها في الحقيقة تقول لهم لا تسلموا، قيود وإجراءات وأوراق والتزامات مالية حتى إن من الشروط أنه لا بد أن يعلن إسلامه في الصحف الهندية، وأعتقد أن إعلان المسلم الهندي الجديد إسلامه في الصحف الهندية أعتقد أنه انتحار، ومغامرة ومخاطرة لأنه تحدٍ صارخ صريح لهؤلاء القوم.

ونحن نرى اليوم المسلمين الأصليين يقتلون في الهند فكيف به ينتقل عن الهندوسية مثلاً أو البوذية إلى الإسلام، سيكون هذا تحدياً وسيكون نوعاً من انتصار الإسلام، ولن يقر للبوذيين ولا للهندوس قرار حتى يقتلوه وينتقموا منه لدينهم وآلهتهم المدعاة.

فيجب على المؤمنين أن يقوموا لله تعالى قومهً صادقة، وأن يبذلوا وسعهم وجهدهم وأن ينفضوا عنهم غبار النوم والكسل، وأن يصدقوا الله تعالى في الدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل الوسع في ذلك والصدق مع الله تعالى.

فالأمة كلها مطالبة أن تدعو إلى الله، دعوة غير المسلمين وبذل الوسع معهم أعطه كتباً أعطه أشرطة، لا تمل من مناصحته ومناقشته والأمر بالمعروف، وكذلك المسلم المقصر ابذل كل جهدك في ذلك.

أما أولئك الإخوة الذين يوجدون في مثل تلك المواقع فأقول: إن كان بقاؤهم في مثل تلك المواقع فيه خير ودفع لبعض المفاسد؛ وتحقيق بعض المصالح، فعليهم أن يبقوا ولا ينتقلوا منه؛ إلا أن ينتقلوا إلى مجال آخر يكون نفعهم فيه أعم وأعظم.

أما إن كان وجودهم وعدمهم سواء، فهم لا ينفعون ولا يدفعون ولا يقدمون ولا يؤخرون، فعليهم أن ينجوا بأنفسهم ويبحثوا عن عمل يرضى الله تعالى عنه، وأبواب الرزق كثيرة والله تعالى لم يجعل رزق هذه الأمة فيما حرم عليها.

دعوة للتبرع

السؤال يقول: شهر رمضان على الأبواب نسأل الله أن يبلغنا وإياكم وجميع المسلمين إياه على خير وعافية، وأعتقد أن لهذا المكتب التعاوني جهداً مضاعفاً في هذا الشهر المبارك ولمساعدته نأمل حث الجميع على التبرع لهذا المكتب؟

الجواب: نعم هناك المكتب التعاوني في هذا البلد وهو مكتب كبير ونافع، ويقوم عليه الشيخ محمد وثلة من المشايخ والعلماء الفضلاء والدعاة والقضاة وغيرهم، وله جهود كبيرة والحمد لله أصبح له سمعة حتى خارج هذا البلد، فأنا أدعوكم أيها الإخوة الحضور، بعد الصلاة إلى أن تبذلوا ما تجود به أنفسكم من الخير؛ ولو قليل في هذا العمل العظيم وليس من الزكاة إنما من التبرعات ومن الصدقات النوافل التي يبذلها الإنسان من غير الزكاة المفروضة.

كما أني أدعو التجار والمحسنين والأثرياء وأهل الخير إلى أن يسارعوا في البذل في مثل هذه الميادين، وأن لا يترددوا ولا يتأخروا، فإن الله تعالى قال: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7] فلمن تدخر المال؟!

لمن يأكله بعدك، أو ينفقه بعدك فيكون عليك وزره وله أجره! فسارع في الإنفاق: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10-11].

العمل في توزيع الخير

السؤال: أنا أعمل أيضاً في شركة أرامكو وجاءت أوامر من إدارتنا بمنع الأشرطة الإسلامية التي تحذر المسلمين من مشاركة الكفار في أعيادهم كأشرطتكم، وأشرطة الشيخ سفر والتي كان يوزعها بعض الشباب، فما حكم هذا العمل، وهل نطيع هذه الأوامر وما نصيحتكم؟

الجواب: الذي نراه أن للمسلم أن يوزع من الأشرطة والكتب والفتاوى كل ما يحتاج إليه المسلمون من الخير، ويساهم في توعيتهم وإرشادهم، ولكن ينشر بالطريقة التي توصل الخير دون أن تسبب له ضرراً.

التثبت في الأخبار

السؤال: أريد نصيحة لأولئك الذين لا يترددون في نشر الأخبار المختلقة، والمشوهة لبعض الدعاة والمصلحين، وخاصةً رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أنني كنت أصدق بعض الأخبار، ولكن حينما تكشفت الحقيقة، تركت ذلك.

الجواب: نعم، هذه من المشكلات، ويقولون -مع الأسف الشديد- أصبحت الإشاعات والأقاويل الباطلة تروج بين الناس، ولقد سمعت بأذني أخباراً وأقوالاً أحلف بالله العظيم أنها أخبار مكذوبةٌ مختلقةٌ لا أقول: يرددها عوام، ولا بلهاء، وإنما يرددها طلبة علم محسوبون، وقرَّاء لكتاب الله تعالى، وربما أئمة أحياناً، وهذا من الخطأ البين العظيم؛ والحمد لله اليوم تيسرت الأخبار، وسهلت الأمور، فالتحري والتثبت أصبح ميسوراً، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، وفي قراءة: (فتثبتوا) أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]، وليس شرطاً أن يكون الفاسق فاجراً معلناً بفجوره، فقد يكون فسوقه من جهة خفية؛ وقد يكون فاسقاً بالغيبة، أو بالنميمة، أو بالحسد، أو ببغض أهل الخير، وقد يكون فاسقاً بغير ذلك مما يعلم به فسق الإنسان، فإذا جاءك فاسقٌ بنبأ، سواء كان فسقه ظاهراً، أم خفياً، فعليك أن تتثبت، والتثبت سهل، فما عليك إلا أن تدير قرص الهاتف وتقول: يا فلان هل سمعت كذا، هل هو صحيح أم لا؟، أو تذهب برجلك إلى إدارة الهيئة، وتقول: أيها الإخوة: هل سمعتم كذا، وستجد الاستقبال والإيضاح، وسوف تعلم أن (90%) على الأقل مما يقال ويشاع وينشر كذب لا أصل له، أما (10%) الباقية، فقد لا تكون كذباً صراحاً بواحاً، فقد يكون لها أصل، ولكن زيد عليها ونقص وغير وبدل، فأدعو المؤمنين كل المؤمنين إلى التحري والتثبت، وألا يتعجلوا في الأمر، لئلا يندموا بعد ذلك حيث لا ينفع الندم، إياك وما يعتذر منه، فليس هناك داعٍ إلى أن تذهب غداً إلى فلان كي تعتذر منه، وتقول له: اسمح لي أنا وقعت في عرضك، أو كذبت عليك، دع هذا من الآن، وإياك وما يعتذر منه.

ضرورة اهتمام الموجهين بالمدرسين ظاهراً وباطناً

السؤال: بعض الموجهين التربويين يهتم بالأشياء الشكلية كحضور المدرس وتحضيره، أما سلوكه ومظهره، فلا، أرجو التنبيه على هذه النقطة؟

الجواب: من المفروض والواجب الاهتمام بالأمور كلها الظاهر والباطن، فكما يهتم الموجه مثلاً بالتحضير والحضور وهندام المدرس، فعليه أن يهتم -بصورة أعظم وأقوى- بأخلاق المدرس، ودينه، وتقواه، ونجاحه في مهمته العظيمة التي هي تربية الأجيال، أما هذه المظاهر، فلا تكفي وحدها.

الدوافع الحقيقية لإبعاد الفلسطينيين عن بلادهم

السؤال: ما هي الدوافع الحقيقية لإبعاد الفلسطينيين عن بلادهم؟

الجواب: لقد أراد اليهود من وراء هذا وسعوا إلى أن تكون ضربة قاضية على منظمة حماس، وهي إحدى المنظمات الإسلامية القوية داخل فلسطين، وكذلك ضربة إلى الصحوة الإسلامية كلها حينما عمدوا إلى الخطباء والقضاة والمفتين والعلماء، وأساتذة الجامعات، وغيرهم من أهل العلم والدعوة والدين، فأبعدوهم، فقد انتخبوا هؤلاء الأربعمائة انتخاباً قوياً دقيقاً، ورأوا أنهم بذلك يطفئون نور الله عز وجل، ولكن خابوا وخسروا، فإن دين الله منصور وظاهر، وإذا أبعدوا أربعمائة، آلى المسلمون في فلسطين على أنفسهم أن يخرجوا بإذن الله تعالى أربعة آلاف يقومون مقامهم في العلم والدعوة والصبر والجهاد، بل إن الأخبار ذكرت أمس أن قوات الأمن اليهودية قتلت صبيين فلسطينيين في سن الخامسة عشرة، وجرحت أربعين، عشرون منهم دون الخامسة عشرة، نعم، إنه الإيمان يتحرك حتى في قلوب الصبية الصغار، حتى في أبناء الثامنة والتاسعة والعاشرة، فهم يعلنون الإيمان، ويعلنون رفضهم لدين وحكم وشريعة اليهود، ويطالبون بحكم الله تعالى ورسوله، وهم والله الذي لا إله غيره منصورون، أحلف بالله، ولا أستثني اليوم أو غداً، وإن غداً لناظره قريب، أقول هذه من قِبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {تقاتلون اليهود، فتقتلونهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي، تعال فاقتله} وأعتقد أن هذا ليس بالأمر البعيد، فإن الإرهاصات والبوادر والبشائر تؤكد أن يوم الإسلام الذي تخفق فيه راياته يوم قريب، والقريب في ميزان الله ليس هو القريب في ميزانك، ربما القريب عندك أنت أسبوع، وترجع الآن إلى البيت تتحرى أن تسمع شيئاً، لا، ليس الأمر كذلك، خمس سنوات، وعشر سنوات، وعشرون سنة لا تعد شيئاً في أعمار الأمم.

تعليق على زيارة البابا يوحنا للسودان

السؤال: ما تعليقكم على زيارة البابا يوحنا للسودان؟

الجواب: زيارة البابا يوحنا للسودان هي مصيبة عظمى، ولا شك، وقد قرأت هذا اليوم في جريدة الحياة بعض التصريحات لبعض المسئولين في حكومة السودان، فأزعجتني وآذتني، وأقول: نعم نحن نعرف لماذا جاء البابا إلى السودان، لقد فرض البابا زيارته على السودان فرضاً؛ بل والعالم الغربي النصراني كله يرمي السودان عن قوس واحدة، ويتهمهم بأنهم أخلوا بحقوق الإنسان النصراني في الجنوب، وأنهم يحاربون النصارى حرباً دينية، وأن الحكومة الموجودة في السودان حكومة أصولية إسلامية، ولا بد من القضاء عليها، نعم الغرب يتواطأ على ذلك؛ بل المبكي والمحزن أن الدول العربية تؤيد الغرب على ذلك وتدعمه وتناصره في الحصار الاقتصادي والإعلامي، وإيواء من يسمونهم بالمعارضة، وهم من الشيوعيين والمنافقين في الغالب، فيلجئون إلى بعض البلاد، ويصدرون البيانات في النهار، أما في الليل، فهم يسهرون في الخمور والقمار وغير ذلك من المعاصي، كما نعلم ويعلم غيرنا هذا هو حال من يسمونهم بالمعارضة السودانية في معظم البلاد، الغرب يريد إفقار حكومة السودان، ولذلك جاء البابا في تلك الزيارة وتكلم، والتقى اليوم بالقساوسة، ومن يسمونهم برجال الدين النصارى في أحد الكاندرائيات الموجودة في الخرطوم، وتكلم البارحة بكلام معلوم.

ولكنني أقول: هذا كله يفسر الزيارة، ولكنه لا يبررها، ولا يسوغها، فنحن نقول للإخوة في حكومة السودان: إن المسلمين مهما كانت الأسباب لا يرضون منكم أبداً باستقبال هذه الطاغية الفاجر الفاسق، ولا بإحسان الظن به، ولا بالحديث معه، ولا بالجلوس إليه، وفوق ذلك كله لا يقبلون من بعض مسئوليكم أن يدلوا بتلك التصريحات التي نشرت اليوم في جريدة الحياة، الذي يقول فيها ذلك المسئول: إننا نريد أن نعلم العالم أننا مع النصارى في خندق واحد، وهو خندق المؤمنين، كلا، نحن في خندق، وهم في خندق آخر، نحن فقط في خندق المؤمنين، وهم في الخندق الذي ذكر الله بقوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1] إلى أن قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، فهم كفار بنص كلام الله سبحانه وتعالى، ونص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز للمسلم أن يحاورهم إلا على سبيل دعوتهم إلى الله تعالى، وإقامة الحجة عليهم، وإزالة الشكوك والشبهات الموجودة في قلوبهم، نعم، نحن نقدر بعض الظروف التي يعيشها السودان.

ولكننا نعتقد أن هذه الظروف لا تسمح أبداً بمثل هذا الكلام، وكان يمكن أن تعالج المسألة بغير هذا الأسلوب، وبغير هذه الطريقة، فهذا خطأ كبير وقع، وكوننا وقفنا مع السودان فيما مضى، وسنقف معه في المستقبل متى ما أصيب، لا يعني أبداً أننا نسكت عن الخطأ، وإنما نقول للخطأ خطأ، ويجب أن يرد على من وقع منه كائناً من كان، وأقولها لكم صريحة: ونحن لا تربطنا بـالسودان، ولا بغير السودان، ولا بالقريب، ولا بالبعيد، ولا بالجماعات الإسلامية، ولا بالدعاة، والله الذي لا إله غيره لا تربطنا إلا رابطة واحدة وهي أن من رأيناه قال حقاً، قلنا له: أصبت، ومن رأيناه أخطأ، قلنا له: أخطأ بحسب اجتهادنا.

وفي الختـام :

ولعلنا أطلنا عليكم والأسئلة كثيرة وأود أن نجيب على بعضها لكن الوقت لا يسعف، فأختم هذا المجلس بهذه الدعوات التي أسأل الله تعالى أن لا يحجب عنها أبواب السماء.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر جندك الموحدين فوق كل أرض وتحت كل سماء، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق يا أرحم الراحمين، اللهم اجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، اللهم واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم ويسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اهدنا واهد لنا واهد بنا يا رب العالمين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم إنا نسألك أن توفق جميع الحكام للعمل بشريعتك والعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم وفقهم لإعزاز الحق والعمل به والدعوة إليه، اللهم اجعل كتابك وسنة نبيك هما الحاكمان في كل بلاد الإسلام، اللهم وفق المسلمين للحكم بكتابك وسنة نبيك يا حي يا قيوم، اللهم أصلح ولاة المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح الولاة في هذه البلاد، اللهم واجعلهم هداة مهتدين، اللهم وفقهم للعمل بالكتاب والسنة، اللهم وفقهم لتحكيم الشريعة، اللهم وفقهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يا رب العالمين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم أعد المبعدين إلى ديارهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم انصر المسلمين في بلاد الشام يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين في العراق، اللهم انصر المسلمين في أفغانستان، اللهم اجمع كلمتهم، اللهم وحد صفهم، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تطفئ الفتنة الثائرة بينهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا؛ يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أن تطفئ الفتنة الثائرة بينهم، إنك على كل شيء قدير، اللهم وحدهم على الحق، اللهم وفقهم لتحكيم كتابك وسنة نبيك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك أن تنصر المسلمين في أرض البوسنة والهرسك يا حي يا قيوم، اللهم انصرهم يا خير الناصرين، اللهم احفظ أعراض المسلمات، فإنا سمعنا أن عدد المسلمات المغتصبات يزيد على مائة وعشرين ألف مسلمة، وسمعنا أيضاً من الثقات أن ستين ألف مسلمة قد حملن من هذا الاغتصاب، وأن الصرب يرهنونهن حتى تتجاوز مدة الحمل ستة أشهر ليأمنوا أن لا تجهض المسلمة، ويطمئنوا أنها سوف تلد ولداً من سفاح لا من نكاح، فياذ الجلال والإكرام اجعلهم بعين رعايتك وحفظك وعطفك ولطفك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انتصر لهم، اللهم عليك بـالصرب الظالمين، اللهم عاجلهم بالعقوبة يا حي يا قيوم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم عجل بهلاكهم، اللهم أحصهم عدداً، اللهم اقتلهم بدداً، اللهم لا تبق على الأرض منهم أحداً أبداً يا رب العالمين، اللهم عليك بـالكروات، اللهم عليك بأعداء الإسلام الشيوعيين في جمهوريات المسلمين يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك للمسلمين في كل أرض وتحت كل سماء، أن تكون لهم بكل خير أسرع، اللهم انصرهم في بلاد المغرب، اللهم انصرهم في بلاد الجزائر، اللهم انصرهم في تونس، اللهم انصرهم في المغرب، اللهم انصرهم في موريتانيا، اللهم انصرهم يا خير الناصرين، اللهم إن العالم كله قد تبرأ منهم ونفض يده عنهم لا شرقاً ولا غرباً حتى المسلمون تنكروا لهم بل ربما صافحوا عدوهم وربما ناصروا عدوهم؛ فياذا الجلال والإكرام ويا من بيده مفاتيح كل شيء ويا من يقول للشيء كن فيكون، إنا نسألك بكل أسمائك الحسنى وكل صفاتك العليا يا ذا الجلال والإكرام أن تنصر إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم أَفْرِح قلوبنا بنصر الإسلام، اللهم عجل بالنصر للمسلمين، اللهم يا رب من دعا إلى دينك مخلصاً صادقاً من قلبه لا رياء ولا سمعة فانصره وأيده يا ذا الجلال والإكرام، وأعلِ شأنه وارفع كلمته ووفقه وأصغِ له الأسماع، وهيئ له القلوب، وانصره نصراً مؤزراً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم يا رب ومن دعا يقصد غير ذلك يقصد الرياء والسمعة أو الدنيا أو يقصد العاجل، فإنا نسألك باسمك الأعظم يا ذا الجلال والإكرام، أن تهدي قلبه وتصلح نيته وتوفقه لكل خير وتتوب عليه إنك أنت التواب الرحيم، اللهم يا رب: ومن سبق في علمك من هؤلاء أنه لا يهتدي، فاللهم يا رب إنا نسألك أن تجعل كيده إلى بوار، وأمره إلى خسار، وأن تدير عليه دائرة السوء، وأن تكشف أمره للمسلمين، وأن تفضحه ولو في عقر داره يا ذا الجلال والإكرام، اللهم تب علينا، اللهم لا تفضحنا، اللهم استرنا، اللهم اغفر لنا، اللهم وفقنا، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق