إنقاذ وطن
يمكن الزعم، بعد مرور عشر سنوات على تلك الخطيئة، أو الجريمة المقدّسة، أنّه لم يعد ثمّة طرفٌ يملك جديدًا في روايته عنها، إذ قيل كلّ شيء وتكرّر قوله منذ الشهور الأولى من انتهاء عملية "إنقاذ وطن" كما يسمّيها عبد الفتاح السيسي، أو إغراق وطن وإحراقه، كما يدرك كلّ من لديه وجهه نظر، وفي عقله فهم، وفي ضميره بصيرة.
يبرّر الجنرال، عبد الفتاح السيسي، استمرار إغلاق أبواب الزنازين على عشرات الآلاف من المحبوسين والمعتقلين بأنه ضرورة من أجل إنقاذ وطن من بين براثن الإخوان، وأنياب الثورة الشعبية التي انتخبت رئيسًا، تعرّض للتصفية في سجنه فيما بعد، في إطار عملية إنقاذ الوطن التي لا تنتهي.
دعونا نسلّم، جدلًا وهربًا من ضجيج الثرثرة الفارغة المكرّرة، أنّ كلّ ما يقوله عبد الفتاح السيسي ورئيس حزب النور السلفي، يونس مخيون، وخالد يوسف وإلهام شاهين وأحمد موسى وهلّم جرا، عن الإخوان صحيح، وأنّ وجودهم كان خطرًا على الوطن، ولذا كان حتميًا إنقاذه منهم ... لنفرض أنّ ذلك كلام سليم، وتمّت عملية التخلّص منهم والقضاء عليهم قضاءً مبرمًا في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، واحتفل المنتصرون بالانتصار وصوّروه وأقاموا له الأفراح والليالي الملاح، ثم قالوا للناس: بعد ستة شهور فقط ستصبحون على وطن جديد قوي وعفي وغني وديمقراطي وحرّ ...
ليقل لنا قائد سفينة "إنقاذ الوطن"، كيف هو الوطن الآن بعد نجاح العملية؟ ماذا فعلتم للوطن، وبالوطن، وأين ذهبتم به؟. تأتيك الإجابة على لسان منقذ الوطن شخصيًا: "الله لن يتخلّى عن مصر والعالم لن يسمح بسقوطها ..."، ذلك كلّ ما لدى قائد مسيرة الإنقاذ بعد عشر سنوات مكتظّة بعشرات المليارات من الدولارات، منحًا، ومساعدات، وهدايا، وجباية، وقروضًا، تهطل بغزارةٍ من صندوق النقد والبنك الدوليين ... عشر سنوات مكتظّة بالتعذيب في السجون، حتى القتل والإخفاء القسري والسطو على أموال الإخوان وممتلكاتهم وأصولهم، وكذا على مؤسسات رجال الأعمال وشركاتهم، ومطاردة المعارضين في كلّ واد.
يقول المنقذ إنه لا تراجع عن بقاء كلّ ضحايا عملية 30 يونيو في السجون، لأن ذلك كان ولا يزال إنقاذًا للوطن، مبرّرًا بأنّ من جاء بالانتخابات، وبعد الانقلاب عليه "ضرب الكنائس والجوامع ومحطّات الكهرباء وكلّ شيء". وقبل ذلك، قضت ثورة يناير 2011، التي يسميها أحداثًا، قضت على الاحتياطي النقدي، وكان الوضع كله خرابًا في خراب.
بالطبع، ليست المرّة الأولى التي يأتي فيها بهذه السردية، التي تكذّبها وتنسفها من جذورها الأرقام الرسمية والوقائع التي عايشها الناس، فالاحتياطي النقدي في العام 2012 كان 15.5 مليار دولار، فيما كان حجم الديون الخارجية لمصر نحو 34 مليار تقريبًا مسجّلًا انخفاضًا عمّا كان قبل الثورة ... أما الآن في العام 2023، وبعد عشر سنواتٍ من الإنقاذ المزعوم لسفينة الوطن، فقد بلغ الدين الخارجي أكثر من 162 مليار دولار، جعلت الوطن ألعوبةً في يد المُقرضين والمانحين، ناهيك عن التفريط في الأصول بالبيع والرهن والإيجار.
الكلام كثير في موضوع الاقتصاد، غير أنّ الأهم هنا السؤال: من قال إنّ غياب العدل والمحاكمات الجائرة والتعذيب والإخفاء القسري والقتل بالإهمال الطبّي والمجازر الجماعية منذ مذبحة الحرس الجمهوري، وحتى رابعة العدوية، من قال إنّ ذلك كله نجح، أو يمكن أن ينجح، في إنقاذ وطن؟
ومن قال إنّ تعذيب الباحث، أيمن هدهود، حتى قتله وتشويه معالم جثته، أو إخفاء النائب الطبيب، مصطفى النجار، قسريًا، وسجن السفير رفاعة الطهطاوي، ورئيس مجلس الشعب الأكاديمي الدكتور سعد الكتاتني، وعصام سلطان وعلاء عبد الفتاح وأسامة مرسي ومحمد عادل والمحامية الحقوقية هدى عبد المنعم وحسيبة محسوب وغيرهم، كان لمسؤوليتهم عن ضرب الكنائس والجوامع ومحطات الكهرباء؟
ومن قال إنّ استمرار البطش والتنكيل بهؤلاء وغيرهم آلاف من ضحايا هذا الجنون المستبدّ يمكن أن ينقذ الوطن ويقيله من عثرته وهوانه على الجميع، ممن يتعاطون معه كما يقول المثل الشعبي "إن خرب بيت أبوك خد لك منه قالب"؟. ما هو الدليل على أنّ هؤلاء كانوا من أسباب تضخّم الدين الخارجي والداخلي وأزمة انهيار العملة المحلية والتضخم، وتعثر المشروعات التي لا لزوم لها؟
لاحتراق الأوطان وغرقها أسبابٌ أخرى معلومة من التاريخ، ومن الواقع بالضرورة، تجدها عند الجبرتي وابن خلدون وابن إياس، خلاصتها أنّ الظلم مؤذنٌ بالخراب، وأنّ الاستبداد هو وقود الحريق، وأنّ السفه في الإنفاق هو الطريق السريع للانهيار والسقوط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق