سيلفي
الثورات مناسبة جيدة للسيلفيات. بينما كان الرئيس شبه المخلوع يجهز خطاب الاستسلام محاصرا بالجماهير كانت "ن" تختبر كاميرا هاتفها الجديد راسمة بأصابعها إشارة النصر وفي الخلفية يظهر جيش عرمرم من الجماهير بالأعلام الوطنية والشعارات والأبواق. لم تجد "ن" أي صورة مناسبة. الكاميرا جيدة إلا أن الصور سيئة كما بدا لها. أخرجت أحمر الشفاه من حقيبتها الصغيرة وعكّرت وأعادت التقاط صورة مبتسمة هذه المرة. أخيرا إنها صورة مناسبة. تبدو جميلة ومثيرة. شعرها بدا أكثر سوادا وجمالا مما هو عليه في الواقع. صدرها بارز. ابتسامتها فاتنة. إشارة النصر أيضا تعني الكثير عن شخصيتها.
نشرت الصورة على الإنستغرام معلقة عليها "ب": عاش الشعب. مساء وهي على سريرها في غرفتها الصغيرة وصلتها رسالة من "ج". إنه مهندس شاب يبحث عن زوجة. تعرفه منذ سنتين صديقا افتراضيا. بسبب تلك الصورة انتبه ج إلى "ن". تحدثا قليلا، أرسل إليها أغنية الشيخ إمام: شيد قصورك. ثم أغنية فيروز: بتمرجح بقلبك. نامت "ن" على أنغام الأغنية وهي مبتسمة، أغنية بتمرجح بقلبك طبعا وليس أغنية شيد قصورك. بعد أسبوع كانا معا في الساحة. على خد "ن" رسم صغير للعلم الوطني وفي يد "ج" باقة ورد.
الجماهير تصفر احتجاجاً أمام المبنى الرئاسي. سيطول الاعتصام. سيضطران إلى المبيت في الشارع. سيارات متشابهة وزعت السندويتشات والمياه المعدنية على المتظاهرين. بعضهم التحف بالعلم الوطني ونام على الرصيف. الورود في يد "ج" ترمز إلى السلم. قامت "ن" وقدمت قنينة الماء خاصتها إلى عجوز معتصمة، لم تكن العجوز في حاجة إلى الماء إلا أن "ن" كانت في حاجة إلى تقديم المساعدة إلى أحد ما. عدل "ج" نظارته الهندسية متربعا على الأرض والتقط صورة لـ"ن". تبدو ثورية حقيقية. هي الأخرى التقطت صورة لـ"ج" وهو متربع ومبتسم بلحيته الشيكيفارية الخفيفة وبالكوفية الفلسطينية. يبدو كما لو أنه قيادي محنك للمناوشات المستمرة ضد الشرطة. بعد أسبوع آخر خطب "ج" "ن". أرسلا صورة لهما معا من ساحة الاعتصام حصدت آلاف اللايكات. سيسقط النظام وسنتزوج. كان هذا هو التعليق الذي كتبه "ج" على الصورة التي يُلبِس فيها خاتم الخطوبة لـ"ن".
بدت "ن" في الصورة سعيدة وفخورة بـ"ج". بعد شهر لم يستسلم الرئيس. لقد أخذت المفاوضات مسارا جديدا. الجماهير عادت إلى بيوتها. العسكر يطوقون المدينة من أجل حفظ الأمن وليس من أجل إرعاب الساكنة. هذا ما قالته المذيعة الجميلة. حكومة جديدة ستصعد إلى السلطة وسيكون كل شيء على ما يرام. المهم هو أن يظل الرئيس على كرسيه إلى الأبد. مر شهر آخر، ثم شهران، ثم سنة، ثم سنة ونصف والرئيس ما زال رئيسا. تعبت الجماهير من المظاهرات. بالأحرى أصبحت المظاهرات عملا روتينيا غير جدير بالتحفز. "ن" حامل ومسؤوليات "ج" البيتية تضاعفت. عليهما الانتقال من بيت أهل "ج" إلى بيت جديد خاص بهما. السبت القادم موعد مظاهرة حاشدة يليها اعتصام حاسم. لن يحضرها "ج" و"ن"، إنهما منشغلان الآن بما هو أهم.
سيكتفي "ج" بإعادة نشر صورة خطبته لـ"ن" وسط ساحة التغيير، ستحصد من جديد عدداً هائلاً من اللايكات وإن أقل بقليل مما حصدته وهي طازجة. مساء السبت توسد "ج" بطن "ن" وهما يتصفحان الفيسبوك ويضعان جيم لصور الثوار. الأخبار تقول إن الرئيس سيتنحى. صحف ومجلات العالم وقنواته تناقلت أخبارا مفادها إن الرئيس الجديد سيكون من الشعب. صحف أخرى قالت إن الرئيس هرب. مرت سيارات متشابهة ووزعت أكلا وماء وسجائر على المعتصمين.
تقدمت الدبابات أكثر محاصرة الساحة للحفاظ على الأمن العام موجهة منصة إطلاق صواريخها في اتجاه الطلاب. تبادلت طالبات جميلات الورود مع الجنود. يبدو مشهدا رومانسيا أكثر مما هو ثوري. بعد يومين فرق الجنود الحشد بأنابيب المياه الفائرة.
الجماهير تصفر احتجاجاً أمام المبنى الرئاسي. سيطول الاعتصام. سيضطران إلى المبيت في الشارع. سيارات متشابهة وزعت السندويتشات والمياه المعدنية على المتظاهرين. بعضهم التحف بالعلم الوطني ونام على الرصيف
الأعلام الوطنية والشعارات والورود عامت على الرصيف وداسها الهاربون وهم يناوشون الجنود قاذفين قناني المولوتوف في اتجاه الدبابات ومعيدين قنابل الغاز المسيل للدموع في اتجاه سيارات الشرطة. بعد أسبوع فرغت الساحة، إنها صبيحة الأحد، موعد السوق الأسبوعي. ساحة التغيير والتحرير امتلأت بالخضار والفواكه والحمير والبغال والعربات والتوك توكات. من بعيد يبدو الأمر كما لو أنها مظاهرة. جالت "ن" في الساحة ببطن منتفخة ممسكة بيد "ج" الذي يحمل في يده كيسا مليئا بالخضروات والفواكه. لم يتنح الرئيس بعد. مجلس النواب أعلن عن تشكيلة جديدة للوزراء. مظاهرة أخرى أعلن عنها نشطاء فيسبوكيون غامضون احتجاجا على التشكيلة الجديدة التي ضمت لصوصا. "ن" أصبحت منشغلة أكثر ببطنها وببيتها الجديد. "ج" يبحث عن سيارة مستعملة بثمن مناسب. لا بد للمهندس الشاب من سيارة. بعد شهرين أنجبت "ن" طفلة جميلة سماها "ج": ثورية. بعد عام أخذت الطفلة تحبو وتضحك وتلعب. بعد خمس سنوات التحقت بالمدرسة. بعد عشرين سنة أخذت الماستر. "ج" أصبح مهندسا ناجحا ذا منصب محترم في الدولة. "ن" أنجبت بنتين أيضا. الرئيس ما زال رئيسا، يبدو شابا كما لو أن الزمن لا يمر إلا فوق المباني العشوائية بينما وجه "ج" ضمر أكثر ولحيته زوقها الشيب. "ن" لم تعد صالحة للمظاهرات ولا للسيلفيات. ثورية أصبحت ثورية هي الأخرى كأمها وأبيها. نادى الطلاب إلى مظاهرة جديدة. "ج" لم يعد مهتما كثيرا بالمظاهرات، بل أصبحت تشكل خطرا على وظيفته ومركزه الاجتماعي، لم يعد يدري بالضبط إن كان لا يزال من الشعب أم أصبح جزءا من النظام. "ن" أيضا لم تعد مهتمة بشيء. أما ثورية الصغيرة فوقفت في ساحة التحرير ذلك المساء والتقطت سيلفيات كثيرة. بدت شابة وجميلة ناضحة بالحيوية ومفعمة بالأمل. "ن" في البيت تطبخ لحما بالبرقوق. أخرجت ثورية أحمر شفاه وعكرت والتقطت سيلفي. تضع كاسكيطة على رأسها وترفع في يدها علما صغيرا. نشرت الصورة على الفيسبوك فحصدت آلاف اللايكات. قالت الأخبار إن الرئيس سيتنحى. اتصلت "ن" بثورية لتطمئن عليها.
لا تقلقي ماما، الجو هنا جميل، أنظري. أدارت ثورية الهاتف كي ترى "ن" الساحة والمتظاهرين وهم يصدحون بالشعارات كما لو أنهم في احتفال.
لا تتأخري حبيبتي، قالت "ن".
لن أتأخر ماما لا تقلقي، هل أحضر أبي الهدية؟
هدية ماذا؟
هدية عيد ميلادي طبعا، هل نسيت ذلك؟
أووه لا لم أنس.
كلا لقد نسيت.
سنناقش ذلك لاحقا. متى ستعودين؟
لا أدري، هناك اعتصام، قد نبيت هنا.
كلا، لا تبيتي، عودي بعد ساعة.
ارتفعت الشعارات، الجماهير تغني: شيد قصورك على المزارع.. من كدنا وعمل إيدينا.. والخمارات جنب المصانع.. والسجن مطرح الجنينة..
لم يعد بإمكان "ن" سماع ثورية، ولا عاد بإمكان ثورية سماع "ن". ظلت "ن" تصرخ: قلت لك عودي إلى البيت.. عودي الآن وإلا..
بينما تصرخ ثورية: لا أسمعك ماما.. لا تقلقي.. أنظري..
راجت أخبار جديدة، الرئيس لن يتنحى وخبر تنحيه ليس سوى مناورة. قررت الجماهير تمديد الاعتصام. شاب بدا كما لو أنه مهتم بثورية. نحيف وطويل وثوري هو الآخر. اقترب منها وأهداها وردة، نظرت إليه بتحفظ. قال: يمكنك تقديمها إلى الجنود وسألتقط لنا سيلفي وأنت تمدينها. بدت فكرة جيدة لثورية. بعدها ظل الشاب صامتا وظلت ثورية صامتة. تعرفه جيدا إنه زعيم تنسيقية مشهور. الوردة منكسة في يد ثورية بينما زعيم التنسيقية قد سقط دون شك في الحب. قال الشاب: سنبيت هنا الليلة، لا بد من الضغط على النظام. قالت ثورية: نعم، التصعيد ضروري. رنت الأم من جديد. أجابت ثورية: نعم ماما..
أينك؟ مرت أكثر من ساعة.. باباك يطلب منك العودة حالا..
لن أعود ماما.. هناك اعتصام.. سأرسل لك الصور أولا بأول.. لا تقلقي الأجواء سلمية..
أعرف لكن عودي الآن هذا أمر..
لا أسمعك ماما.. الاتصال ضعيف.. أعتقد أن الحكومة ستحجب الإنترنت..
بعد عامين حبلت ثورية من زعيم التنسيقية.. بعد ثلاث سنوات أنجبت طفلا سموه: باسل.. بعد ثماني سنوات التحق باسل بالمدرسة..
"ج" و"ن" أصبحا عجوزين.. ثورية أصبحت منشغلة بطفلها وبالبيت أكثر من انشغالها بالثورة.. المتظاهرون ما زالوا يصرخون في ساحة التغيير والتحرير والنصر "ب": شيد قصورك.. قالت الأخبار إن الرئيس مريض.. بعد شهر آخر.. الرئيس أخيرا.. تنحى.. مُنصّبا.. ابنه.. مكانه.. ظهرت نتائج قرعة أميركا.. اسم ثورية مذكور.. بعد شهور قليلة ستهاجر الأسرة بأكملها.. يبدو أن الأوضاع مستقرة في البلاد وأن العهد الجديد أفضل من العهد القديم.. هذا ما أكده المحللون الاستراتيجيون البدناء..
صدح المكروفون داخل المطار: الطائرة المتوجهة إلى أوهايو ستقلع بعد ساعة.. ثورية وزوجها صامتان.. ممسك بيدها.. ملامحهما ذاهلة.. يبدو أنها حامل وأن الطفل سيولد بعيدا.. إنها تثلج هناك قالت ثورية.. بعد ربع ساعة علينا التوجه إلى المدخل رقم ستة أجابها.. قلبها خفق.. صعد باسل فوق الحقيبة ورقص وصرخ: شايد قصورك.. شايد أصورك.. نهره والده: انزل.. دقائق مرت في صمت.. تثاءب زعيم التنسيقية.. تمطى.. غير موضع حقيبة كانت عن يمينه إلى يساره.. نداء مكروفون المطار بأرقام الرحلات والطائرات متواصل.. المهاجرون يسحبون حقائبهم بعجلة فوق السيراميك.. أخرج هاتفه لالتقاط سيلفي للأسرة مع الطائرات.. قالت ثورية التقط السيلفي من هذه الزاوية سيكون أفضل.. صورة جميلة.. ويفي المطار من دون قفل يمكننا نشرها قالت.. إنها تثلج في أوهايو أعادت التأكيد..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق