صراخ نساء السودان من الحرب.. هل تسكُت مُغتصَبة؟
صرخة تلك المرأة السودانية التي استمعنا إليها، وهي تطلب الحماية، لها ولبناتها من انتهاكات المليشيا المتمردة، كانت كافية تمامًا لتخبرنا إلى أي مدى تقاسي النساء هنا مع الحرب، في وقتٍ لا يجدن فيه من يهب لنجدتهن، أو ينافح عن شرفهن الغالي، لدرجة أن أجسادهن تحولن إلى ساحات أخرى للمعارك.
الفرار من الجحيم
في مايو/ أيار الماضي رصدت وحدة العنف ضد المرأة في السودان ما لا يقل عن 36 حالة اعتداء جنسي في الخرطوم، و25 حالة في دارفور، 18 منها ارتكبها رجال يرتدون زي قوات الدعم السريع، وهي أرقام أقل بكثير مما يحدث في الواقع، حيث يتعذر الوصول إلى من سعين للفرار من ذلك الجحيم، أو لذن بالصمت، أو حال دخان الحرب دون التعرف والاستماع إليهن.
آخر مقطع فيديو لجرائم الاغتصاب تم توثيقه من قبل الجناة أنفسهم وهم يتناوبون على فتاة عارية ضعيفة، تئن من الخوف وتطلب منهم التوقف دون فائدة، وقد سلبوها شرفها بطريقة سادية جبانة، ولم يكتفوا بذلك بل التقطوا الصور الفاضحة تحت تأثير نشوة المتعة الحرام، ويكاد يكون معظم السودانيين قد شاهدوا تلك الدقائق المؤلمة، وهو ليس المقطع الوحيد المصور بالطبع، لكنه أثار عاصفة من الحزن في الشارع السوداني، وصدمة كبيرة، تجاوزت أهوال الحرب فداحة.
ذاكرة مسيح دارفور
ولعل مشاهد الاغتصاب الموثق بهواتف المجرمين، قد رسمت صورة سوداوية لما يمكن أن يحدث إذا سيطر الدعم السريع على السودان بالقوة، ولا سيما أن حميدتي لا يملك أي سيطرة على قواته، التي لا تعرف أخلاق ومواثيق الحرب، وتتباهى بتلك الجرائم الشنيعة، وربما تستخدمها سلاحًا للانتقام ممن يقف ضد وحشيتها، وشعاراتها الخادعة، فما هي مشكلة آل دقلو مع النساء ليتم امتهان كرامتهن بتلك الطريقة البشعة من قبل قواتهم؟
في وصف أدبي بليغ لما يعرف بالجنجويد -جندي على ظهر جواد يحمل بندقية ج3- تحدث الكاتب الروائي عبد العزيز بركة ساكن في رواية “مسيح دارفور” عن أولئك الجنود، قائلاً: “قوم عليهم ملابس مُتسخة، مُشرّبة بالعرق والأغبرة، يحيطون أنفسهم بالتمائم الكبيرة، على أكتافهم بنادق تطلق النار لأتفه الأسباب، ليست لديهم حرمة للروح الإنسانية، لا يفرقون مطلقًا بين الإنسان والمخلوقات الأخرى، ليس معهم نساء ولا أطفال ولا بنات، ليس بينهم مدني ولا مثقف ولا متدين، ولا منازل يحنون للعودة إليها في نهاية اليوم..”.
ولعل بركة ساكن بهذه الأوصاف قدم صورة تقريبية لما شاهده وسمع عنه من وقائع حرب دارفور، وحرق القرى والاغتصاب الجماعي، في حين تحولت هواتف المغتصبين أنفسهم إلى هواتف إدانة ضدهم، ومع ذلك لم يكن كثير من السودانيين قد أدركوا خطورة الأوضاع في تلك البقعة المُحترقة بغرب السودان، حتى اندلعت حرب الخرطوم، وبرزت ذات المشاهد على مرأى منهم، القتل والتمثيل بالجثث والاعتداء على الأطفال، وتحملت النساء لوحدهن فاتورة باهظة، وهن يبحث عن الماء والطعام لأطفالهن، وعن الأمان لأرواحهن، ويدافعن عن حرماتهن المُنتهكة، حتى مستشفى الولادة بمدينة أم درمان تم احتلاله، مما يعني أن الهم الأكبر والسؤال الذي أصبح يؤرق النساء الحوامل في الخرطوم هو أين يضعن مواليدهن الجدد؟ لا يوجد مستشفى ولا قابلة متاحة والطريق لم يعد أمنًا للهروب بما يحملن في أرحامهن.
أرقام وضحايا
فضلًا عن القصص المؤلمة التي استمعنا إليها، والفيديوهات التي عُرضت على مواقع التواصل الاجتماعي، تحدث المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك في الجلسة الـ53 لمجلس حقوق الإنسان، وأشار إلى أن مكتبه تلقى تقارير بتعرض عشرات الفتيات إلى العنف الجنسي. لكن فولكر ومجلسه اكتفوا بالتعبير عن قلقهم، فهم لا يملكون غير الثرثرة حول تلك التقارير، والمتاجرة بها لحشد الدعم المالي الذي لا يصل عادة إلى الضحايا، ولا يساهم في تشديد العقوبة على المتهمين، دعك من أن يتحرك المجتمع الدولي لإنقاذ من يصرخن، وهي صرخة إدانة لكل من ألقى السمع وهو شهيد، بما في ذلك الحركات النسوية المتطرفة التي تجاوزت قصص التحرش، ووصل بها الأمر إلى إشهار لافتات الفصل بين الأزواج، ومنع إجبار الزوجة على الخضوع لزوجها، والتمسك بعبارة “لا تعني لا”، ولكن ما يجري في السودان لم يثر غضبهن، كما لو أنه يجري في كوكب آخر بعيد.
من الصعوبة بمكان التحدث إلى ضحايا الاغتصاب في السودان، ربما يكون هنالك قليلات يمتلكن الشجاعة، ولكن الأزمة تكمن في فعل الاغتصاب الذي يُعتبر وصمة عار على جبين الضحية، ولا تسمح معظم الأسر لبناتهن بالحديث عما جرى لهن، يتعايشن معه وهن مقهورات مرتين، وتكتفي المنظمات بتحويل الضحايا إلى أرقام، بل تكاد تكون الأرقام المعلنة أقل بكثير من الحقائق على الأرض، لأن أغلب الفتيات يفضلن الصمت على الاغتصاب لتجنب الفضيحة، والحصول على رعاية نفسية داخل البيت، أو سمّه الصبر على الأذى، وربما لا يصح استخدام ذلك المثل الأمريكي الإشكالي كنصيحة للنساء هنا “إن لم تستطيعي مقاومة الاغتصاب فيمكنكِ الاستمتاع به” لأن التجارب السودانية بالفعل مريرة، وأحيانًا يتم قتل النساء وترويعهن، وإذلالهن لأهداف سياسية في الغالب.
قضايا الاغتصاب تلك يجب أن تواجه برأي عام واسع النطاق، يتحرك على طريقة الخليفة المعتصم، وهو يهب لإنقاذ تلك المرأة المُسلمة التي صرخت تستغيث به، وفي نفس الوقت من المهم الطرق لحماية الناجيات، والدعوة إلى تحقيق مستقل لمعرفة ما جرى بالفعل وراء كواليس الحرب، وجلب المتهمين وقادتهم إلى العدالة، مهما كلف الأمر، ليكونوا عبرة لغيرهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق