السلطة.. مزاعم السياسيين ومصائر الشعوب
العالم الحديث بما فيه من اضطرابات وتكتلات قائمة على المصالح السياسية والاقتصادية بصورة عامة قد تسبب في تغييرات عديدة في بوصلة العلاقات والتعاملات فصارت المعاداة أكثر قيمة وفعالية من التفاهم، ليضع في أذهان الأمم أن العداوة والمنافسة الشرسة من أجل البقاء والريادة صارت أكثر أهمية من إقامة علاقات صداقة وتفاهم وتضامن.
وهذا واضح بشكل كبير في تعاملات الحلفاء السياسيين الذين يهتمون ببقاء التحالف فيما بينهم حتى ولو في حالة من انعدام الثقة التي قد تتحول إلى عداء في أي لحظة. وعلى مستوى الأحزاب داخل الوطن الواحد، يظهر بين أعضائه مستوى كبير من العداوة بقدر ما بينهم وبين الطرف الآخر من خارج الحزب، وهكذا صارت السياسة حتى على مستوى الحزب الواحد قائمة في الأساس على العداوة.
ترى الناسَ إِلّا أَقَلَّهُم ذئابًا على أجسادِهِنَّ ثِيابُ
وهذا دفع الفلاسفة السياسيين المعاصرين إلى الاهتمام بفلسفة العداء وإعطائها مكانة أكبر من الصداقة. فمنذ ظهور الفلسفة السياسية الحديثة، أصبحت الطبيعة الموجهة للعلاقات الاجتماعية بين الإنسان وأخيه الإنسان طبيعة الاستقواء أو العداء المحتمل في أي فرصة، وصارت الموضوع الأكثر هيمنة على الفكر، وصارت تحاول بشتى الأساليب أن تزرع أخلاقيات المصلحة التي تزيد من فرص تحصيل المصالح المادية العقلانية.
ومع ذلك، ليس من الصعب تجاوز تلك الفلسفة السياسية التي لا تريد سوى النفع لنفسها فقط، لحزبها أو لقوميتها أو المنتسبين للفكرة ذاتها أو الدين نفسه، وليس لها أي غرض آخر سوى معاداة الآخرين. رغم أهمية هذه الفلسفة في شقها الأول، فإنه من الضروري تقييم أسلوب أصحابها، لأن السياسة لا تهتم فقط بما نقدمه للمنتمين إلى قوميتنا أو فكرتنا، ولكنها تتساءل أيضا حول ما نقدمه لآخرين مخالفين في القومية أو الرؤية السياسية.
إذ ما الداعي للنظر إلى المخالف في الرأي السياسي كأعداء؟! هل السياسة تعني خطة لتدمير ذلك المخالف أو إذلاله والانتقام منه فقط لأنه معارض في وجهة النظر؟! لا مانع من أن تصل الرغبة في الانتصار في الاستحقاقات السياسية ذروتها بالطبع، لكن ذلك لا يعني القضاء على المخالف، فهذه مدافعة وتعددية تُكسب الحياة عمومًا والسياسة على وجه الخصوص نشاطًا وفعالية.
وفي هذا المعنى، يُمثل الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة ومثالًا مميزًا يظهر بما فيه الكفاية أن هناك أسلوبًا آخر في التعاملات السياسية يمكن تأصيله في المجتمعات. إنه منهج قويم يحب الخير للجميع حتى في أشد لحظات الصراع الساخنة، إنه أسلوب لا يكره الأشخاص لكنه يكره أفعالهم ومواقفهم، دون أن يمنعهم الفرصة للمراجعة وطلب الهداية، وفي الوقت نفسه يجاهدهم بكل ما أوتي من قوة من ناحية، ومن ناحية أخرى يفتح أبوابه ويديه للمهتدين منهم إخوة في صفه دون أن ينشغل بما كان بينهم من عداوة.
هذا طريق ومنهج مستقيم يدعو إلى أخلاق الصداقة لإحياء هذا العالم المشوه سياسيًّا واجتماعيًّا، هو طريق سياسة أخرى عادلة ممكنة التطبيق مع توخي الحيطة والحذر واليقظة لمواجهة الغطرسة التي لا تقبل دعوات توظيف الصداقة في السياسة أو المجتمع الحداثي، وترفع من شأن العقلانية البيروقراطية، وتستخف بمعاني الصداقة باعتبارها قيمة بدائية تستحضر المحسوبية.
وقد ظهرت في الآونة الأخيرة أصوات لفلاسفة سياسيين معاصرين طالبوا بإعادة أخلاق الصداقة التي أُهملت في التعاملات السياسية لسنوات عديدة، فالصداقة ضرورة ومن دونها لا يمكن للمواطنين المشاركة الكاملة في الدولة وأعمالها، فالصداقة تجعل القوة ممكنة في السياسة لكنها تُقوِّم استخدامها وتضبط مساحتها.
السياسة في المدينة الفاضلة (يوتوبيا)
لقد سمعنا العديد من الشكاوى موجهة إلى الحركات السياسية التي تعمل على تشكيل العالم وفقًا لرؤيتها للمدينة الفاضلة (يوتوبيا)، ولذلك تخسر الجمهور أولًا وقبل كل شيء. فعندما تصبح اليوتوبيا الخيالية الهدف والمدى والغاية القصوى لحركة سياسية ما، فإنها تتحول إلى قمع واستبداد وعدائية بين الناس.
من أجل تحقيق كل أهداف اليوتوبيا، تنشر برامج لتحوّل جميع الناس وتغيير الحالة التي يعيشونها الآن، ولذلك من الممكن أن ترى في المدينة الفاضلة العنصرية والإبادة الجماعية وربما الإذلال والتطهير العرقي بين المخالفين.
ومن الأمثلة على ذلك، اليوتوبيا الاشتراكية الواردة من الآخر والتي تنطق بتحول دموي في مشاهد كثيرة، وفي نهاية التحول الذي سيحدث على أيدي دكتاتورية البروليتاريا لن يبقى أي شخص متدين ولا أي فروق طبقية، وستكون الصورة النهائية قائمة على توظيف الرغبات والأحلام لتعزيز موقف العداء تجاه الآخرين، وسيتم تحديد تعريف الصديق والعدو وفقًا لذلك.
كما أن بعضهم في هذا السياق يعتمد على إحياء قضايا جذورها في الماضي بالضبط مثل أصحاب اليوتوبيا، ويعيدون فتح مآسي الماضي وكأنها فواتير لا ينتهي تسديدها على مر العصور، ومن تلك المآسي ما حدث للحسين وأهله رضي الله عنهم أجمعين في كربلاء، ويتقدم في هذا العصر الأسد وشبيحته في سوريا وملالي إيران للانتقام وإثارة النعرات وتأجيج الحروب، رغم أن الحسين رضي الله عنه كان في سعي دائم ضد القمع والاستبداد واحتكار شخصية أو سلالة معينة وسرقتهم للسلطة من أيدي الشعوب، فيخرج المتحدثون باسم الفضيلة ليجعلوا آلاف الأبرياء يعيشون كربلاء كل يوم، ويمارس هؤلاء المتسلطون بأبشع الطرق كل ما هو مرفوض ولا بد من إزالته.
وفي هذه اليوتوبيا أيضًا، يتضح الارتباك الشديد في الأفكار والأدوار، الذي يشوه كل شيء ويزيد من نسب الكراهية عن طريق إحياء حدث أو أكثر من مآسي الماضي ومحاولة توظيفه من أجل كسب صداقات زائفة وإقامة عداوات دون وجه حق.
ويُعَد هذا النمط الفكري في السياسة اليوم أحد الأمثلة التي يمكن أن تلقي الضوء على اعتباراتنا حول اتخاذ الصداقة أساسًا لفلسفة سياسية معاصرة، حيث تُمثل الصداقة الحقيقية فضيلة علاجية للأساليب التي تتسبب في استمرار الكراهية والعداء الجارف تجاه الآخرين، إذ نجد في الحضارة الإسلامية ما قبل الحداثة وجود الحكم الإسلامي القائم على أسس أخلاقية وقانونية وسياسية واجتماعية مختلفة عن العصر الحالي بشكل لافت، حيث لم يكن هناك أي تمييز بين ما هو قانوني وما هو أخلاقي فكانا جسدًا واحدًا متكاملًا على مدى عصور طويلة ودول مترامية الأطراف، حتى تدخل الاستعمار وأربك المجتمعات الإسلامية ووجهات نظرهم السياسية بشكل كبير، مما أدى إلى تعطيل النسيج العضوي للثقافات الإسلامية، إلى جانب تأثير أنظمة الدولة الحديثة بعلاقاتها المؤسسية والحسابية التي جعلت من المستحيل تقريبًا إقامة سياسة على أساس العلاقات الإنسانية والودية التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي على مدار اتساعه الزماني والمكاني.
ومع ذلك يجب أن نبحث عن الممكن وليس المستحيل، وفي حدود الممكن يوجد دائمًا مجال لسياسة ودية ترى للآخر حقًّا في التعبير والعمل من أجل مصلحة الجميع بصدق وتجرد، فالمدينة العظمى هي تلك التي يسود فيها العلم والحرّية والإخاء والوفاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق