سِلسلةُ: أَوهامُ العَوَامِ
د.علي فريد الهاشمي
الوَهمُ الأوَّلُ: (وَهْمُ التَّقريبِ بَينَ المُسلمِينَ والشِّيعةِ)
***
حَسْبُ الذين عادوا من وادي الضِّبَاعِ أنهم عادوا..
وَحَسْبُكَ رَادِعَاً عن السير في واديهم؛ جِرَاحَاتُهم الباديةُ أمامَ عينيك!!
لا تَغتَرَّ بنفسك كما اغتروا؛ فتسيرَ فلا تعود؛ فتكونَ أوكسَ الفريقين!!
***
"لقد ضَحِكُوا عَلَيَّ وعَلى كَثيرٍ مِثْلي"!!
هكذا صَرَخَ الشيخُ يوسف القرضاوي بعدَ أكثرَ من ثلاثين سنةً قضاها في وَهْمِ التقريبِ بين المسلمين والشِّيعة!!
لم يَكُنِ القرضاويُّ أولَ المُتَلَفِّعِينَ بِوَهْمِ التَّقريب بين دِينَينِ مختلفين أُصولاً؛ فقد سَيطرَ هذا الوهمُ على كثيرٍ من علماء المسلمين في مَشارق الأرض ومَغاربها؛ مُتجاوِزِينَ بذلك ما يمكن أن يكونوا قد قرؤوه في صفحات التاريخ عن أفاعيل الشِّيعة حِينَ يتسلطون، ومُتناسِينَ بمَعسول الكلامِ طبائعَ الضِّبَاعِ المَركوزة في نفوس الشِّيعة!!
والشِّيعةُ -كما يَعرفُ من عَايَشَهُم- مِنْ أَرَقِّ النَّاس أَلسنةً وأخبثهم قلوباً، ولا تَبلغ ألسنتُهم الغايةَ من الرِّقَةِ واللِّين، إلَّا وقد بَلغَتْ قلوبُهم الغايةَ مِن الحقد والقسوة سواءً بسواءٍ!!
كان القرضاوي حلقةً صغيرةً في سلسلةٍ طويلةٍ من علماء المسلمين الذين خُدِعُوا بالله أو بالمثاليةِ الحمقاءِ أو بضغطِ الواقعِ؛ فانخدعوا!!
بدأ الأمرُ -أو اشتدَّ- في أواسط الأربعينيات من القرن العشرين حين أرسل المرجعُ الشيعيُّ (البروجردي) تلميذَه (محمد تقي القُمِّي) إلى مشيخة الأزهر برسالةٍ شفهيةٍ للتقريب.. ولأنَّ علماء المسلمين معروفون بالطِّيبة والمثالية والتغافل -الذي يصل أحياناً حَدَّ الغفلة-؛ فتح الشيخُ المراغي (شيخُ الأزهر آنذاك) أبوابَ الأزهر لِيُلقيَ القُمِّيُّ محاضراتٍ على مشايخه وطلابه بغرض تقريب وجهات النظر، وكسْر الحاجز النفسي، وتعريف الطلبة والمشايخ بما سمَّاه القُمِّيُّ (مَذهبَ التَّشيُّع)!!
واستغلالاً لهذه الطِّيبة المُفرِطة والرغبة الفِطرية عند علماء المسلمين في الوَحدة ولَمِّ الشَّعَث وجمع الشَّتات؛ عَمِلَ القُمِّي -بأموال المرجعية الشِّيعيَّة- على إنشاء دار التَّقريب بالقاهرة، والتي أُنْشِئت بالفعل سنة 1947م، وضَمَّ مجلسُ إدارتها الأولُ عشرين عضواً؛ منهم: الشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمّد المدني، والشيخ حسن البنا؛ الذي يُروى أنه هو الذي أعطى دارَ التَّقريب اسمَها هذا!!
كما أصدرت الدارُ -بعد ذلك- مجلةً خاصةً باسم (رسالة الإسلام) استُخدمت مَدْرَجَاً لنشر التَّشيُّع تحت سِتار التَّقريب، وافتَتَحت النشرَ مُستخدمةً الأسلوبَ المُحَبَّبَ والدائمَ للشِّيعةِ في اختراق الأوساط الإسلامية؛ وهو: التعريف بالمشتركات الفقهية بين المسلمين والشِّيعةِ، والتهوين من مساحاتِ الخلافِ العقدي بينهم، والتأكيد على أنه خلافٌ لا يكاد يَتجاوز خلافاتِ المذاهبِ الأربعةِ في الفروع، ثم ثَنَّت بالدِّفاعِ عن عقائد الشِّيعةِ والترويج لِمَعْقُولِيَّتِهَا، ثم ثَلَّثَتْ بالتعريف برجالات الشِّيعة وأعمالهم ومُؤلَّفاتهم، ثم طَبَعَتْ مجموعاتٍ فقهيةً شيعيةً اكتفتْ فيها بفقه الفروع دُونَ الأصول؛ لعلمهم أنَّ كتب الأصول ستَفضحُ ضلالهم وتُظهِرُ عَوَارَهم، بخلاف كتب الفروع التي يشتركون في معظم أبوابها مع المسلمين؛ رَغمَ شُذوذاتهم الغريبة في كل باب من أبوابها.. وبهذا الاشتراك والتشابه في الفروع كانوا -وما زالوا- يَخدعون العامَّة والغَوْغَاء مِنْ حَمَلَةِ شهادات الدكتوراه.. وما أكثرَ العامَّةَ والغوغاءَ في حَمَلَةِ شهادات الدكتوراه!!
أمَّا الأبحاثُ التَّقريبيَّةُ ومقالاتُ إعادة قراءةِ التُّراث في ضوء التَّقريب، أو في ضوء ما يُسمُّونها (مَظلومِيَّةَ آلِ البَيتِ في الحُكْمِ والسِّياسة)؛ فقد تَولَّى كِبْرَها (الأنصافُ) الذين استَكْتَبَهُم القُمِّيُّ -بأموال المَرجعية- في هذا الباب وأمثالِه، وَنَشَرَ مقالاتِهم، وأثنى على عقولهم المتفتحة وآفاقهم المتسعة وأفكارهم النَّيِّرة!!!، تماماً كما يَحدُث الآن في إسطنبولَ والقاهرةِ وبعض العواصم العربية المنكوبة بالشِّيعة والمتشيعين وطُلابِ المال والشُّهرة من الإسلاميين الباحثين عن حَظِّ أنفسهم، والفارغين من العِلم الحقيقيِّ والفَهم الواقعي لمآلات أفعالهم!!
ومع دُخول الدَّارِ سَنَتَها الثانية بدأت (التَّقِيَّةُ) تَخِفُّ شيئاً فشيئاً؛ فنشر القُمِّيُّ مقالاً دعا فيه المسلمين صراحةً إلى الأخذ بعقيدة الشِّيعة، بعدما أخذوا -على حَدِّ زَعمِه- فِقْهَهُم؛ قائلاً: "فماذا عليهم لو استقبلوا ما وراءَ الفقه، كما استقبلوا الفقه، وما الفرق بين الفروع العَمَلية والفروع العِلْمِية"؟!
كما نشرت المجلة في سَنَتِها الثالثة بحثاً لأحد كبار شيعة إيران، وهو (محمد صالح الحائري)؛ طَالَبَ فيه المسلمين بالرجوع إلى مصادر الشِّيعة الثمانية، وتدريس الفقه الشيعي والعقيدة الشِّيعيَّة، والاعتراف بخُرافة (الإمامة)؛ لِيَتِمَّ لهم التصور الأوحد للتقريب؛ فيتشيع المسلمون فروعاً وأصولاً؛ إذ لا تقريبَ عندهم سوى بالتَّشيُّع الكامل.. وكان البحثُ -ويا لغرابة الموافقات!- بعنوان: (مِنهاجٌ عَمَليٌّ للتَّقريبِ)!!
وعلى هذا النَّحوِ سارت الدارُ ومجلتها تُصَرِّحُ حيناً وتُلَمِّحُ أحياناً حتى بدأ الوعيُ يَدِبُّ شيئاً فشيئاً في الجزء المُتَخَثِّرِ من عُقول بعض العلماء؛ ليَتنَبَّهوا إلى الخديعة التي مُورِسَتْ عليهم؛ فشاركوا فيها -بحُسْنِ نيةٍ - وأَدخلوا إلى حُصونِهم من يُهدِّدها مِن دَاخلِها.. وكان مِن أسبابِ هذه اليقظةِ المُتأخرةِ اطِّلاعُ بَعضِهم على كُتبِ الأصولِ الشِّيعيَّة، واكتشافُ ما أُخفِيَ عنهم من حقيقتها، ثم شُعورُ بَعضِهم الآخَرِ بأنَّ الدار لا تَبذلُ جهوداً مماثلةً في نشر كُتبِ المسلمين في مجتمعات الشِّيعة أو تدريسها في حَوْزاتِهم العِلْمِية.. وكأنَّ المقصودَ هو نشرُ الكتاب الشيعيِّ بين المسلمين دُونَ نشرِ كُتب المسلمِينَ بينَ الشِّيعةِ.
نَفَضَ الدكتورُ (محمد البهي) يَدَهُ من الفكرة والدار والمجلة، وتَبِعَه الشيوخُ: (محمد عرفة)، و(طه محمد الساكت)، و(عبد اللطيف محمد السبكي).. وآخرون كُثُرٌ انكشف لهم الغرضُ الحقيقيُّ من أُكذوبةِ التَّقريبِ، ولم يَبْقَ مُتعلِّقاً بعضوية الدار سوى المنتفعين مادياً، وأصحابِ الأهواء والمصالح، حتى بَقِيَتِ الدارُ دُونَ دَيَّارٍ، ثم أُغلِقت أبوابُها بعد سنواتٍ وتَوقَّفَتْ مَجلتُها.
وقد يَعجَبُ القارئُ -وَحُقَّ له أن يَعْجَبَ- كيف لرجلٍ واحدٍ أنْ يَخدعَ هؤلاءِ العلماءَ جميعاً، وكيف لهؤلاءِ العلماءِ جميعاً أن يَنخدعوا برجلٍ واحدٍ؟!
وجوابُ هذا السُّؤالِ مُعَقَّدٌ ومتشابكٌ من جِهةٍ، وَجَالبٌ للحُزنِ والكآبةِ من جهةٍ أُخرى؛ أمَّا تَعقيدُه وتشابكُه؛ فإنه ما كان لهذا الرَّجُل ولا لأمثالِه أن يَفعَلَ ما فَعَلَ مُنفرداً دُونَ أن تَكونَ وَراءَه مؤسسةٌ كمؤسسةِ المرجعية الشِّيعيَّة..
ومؤسسة المرجعية -لمن لا يَعرِفُ- مؤسسةٌ مستقلةٌ استقلالاً كاملاً -أو شِبْهَ كاملٍ- بأموالِها ومواردِها وأوقافها؛ فهي أشبهُ شيءٍ بالكنيسةِ في عصور أُورُبا المظلمةِ؛ نَشأتْ حول السُّلطةِ وتَغَوَّلَتْ حتى صارتْ سُلطةً، وفيها وفي رجالها من الاستقلالية والكَهَنُوتِ والتَّراتُبِيَّةِ والفسادِ وضِيقِ الأُفُقِ والتَّناحُرِ؛ مِثْلُ ما في كنيسةِ العُصورِ الوَسطىِّ.. وكما انتهكتْ هذه المؤسسةُ أعراضَ الشِّيعة (بالمُتعة)؛ أَكلَتْ أموالَهم أيضاً (بالخُمْس)؛ ففائضُ المالِ عِندَها يَفوقُ مِيزانياتِ كثيرٍ من الدُّول في العالَم، واستثماراتها الخَفِيَّة والعَلنيَّة تَكادُ تُسَيِّر(البازار) الإيرانيَّ أو العراقيَّ.. أما جمعياتُها العِلْمِيةُ ومَراكزُها الثقافيةُ؛ فهي ضَاربةٌ بأَطنابِها في عُمْقِ المُجتمعاتِ الشِّيعيَّة أياً كان مكانُها في العالَم.
كلُّ هذا وأضعافُ أضعافِه كان موجوداً ومُتجذِّراً قَبْلَ الثورة الإيرانية؛ فما بالُك بما جاء بَعدَها حين جَمعت المرجعيةُ -بالثورة- بَينَ السُّلطتَينِ الدِّينيةِ والسِّياسيةِ!!
ولتَقريبِ الصُّورة شيئاً مَا؛ خُذ الكنيسةَ المصريةَ مِثالاً؛ فإنك لا تَحتاجُ إلى دليلٍ على أنَّ استقلالَ الكنيسةِ المصريةِ بأَموالِها وأَراضيها واستثماراتِها وعُشُورها لا يَكادُ الأزهرُ نفسُه يصلُ إلى رُبْعِهِ، ولا تَكادُ الدَّولةُ المصريةُ تَتدخلُ فيه رَغمَ جَبرُوتِها على مشاريعِ المسلمينَ الخيرية والاستثمارية، وإنْ فَعَلَتْ قامَتِ الدنيا ولم تَقعُدْ؛ حتى صارت الكنيسةُ دولةً داخلَ الدولةِ، إنْ لم تظهر أحياناً وكأنَّها هي الدولةُ!!
لم يكن القُمِّي إذنْ أكثرَ من (مبعوثٍ بابويٍّ) أَرسَلَه (بابا) المرجعيةِ للتَّبشيرِ بالتَّشيُّع في دِيارِ المسلمينَ؛ فهو مَدعومٌ مَعنوياً ومَادياً بمَكانةِ المَرجعيةِ وأموالها. وقد اعتَرفَ الشيعيُّ (أحمد مغنية) في كتابٍ له بذلك فقال: "ليس له -أي القُمِّيِّ- ولا لغيرِه من الناس أن يَقومَ بمِثْلِ هذا العملِ من وراء المراجع ومن غيرِ مُوافقتِهم".. كما ارتاب الشَّيخُ عبد اللطيف السُّبْكي -في مقالٍ له كَتَبَه بعد تَركِه للفكرةِ وللدَّارِ- من بَذَخِ الإنفاقِ على الدارِ أثاثاً وعقاراً، وسخاءِ الدار على العاملين فيها وفي مجلَّتها رَواتبَ ومكافآتٍ.. وهي ذاتُ رِيبَتِنا في المراكزِ البحثية -وأصحابها وباحِثِيها- التي انتشرَتْ في إسطنبولَ والقاهرةِ لاستقطابِ الحمقى و(الأَرزُقِيَّة) من شباب الإسلاميين، والإنفاق عليهم ببذخٍ، وتَسفيرِ بَعضِهم إلى إيرانَ أو لبنانَ أو العراقِ؛ ليكونوا لهم عِزاً وحزباً في بلادِهم بعد ذلك.. تماماً كما فَعَلَ نابليونُ بَعدَ هُروبِه من مصرَ؛ حِينَ كَتَبَ لخليفتِه كليبر أن يَجمَعَ خمس مئة صبيٍّ من صِبيان مصرَ ويَشحنَهم في أول سفينةٍ ذاهبةٍ إلى فرنسا ليُعايِشُوا الثقافةَ الفرنسيةَ خمسَ سنواتٍ؛ فيكونوا -بَعدَ عودتِهم- حزباً لفرنسا في مصرَ.
أمَّا عُلماؤُنا وكيف انخدعوا بمَبعوثِ البابويَّة الشِّيعيَّةِ هذا؛ فإنِّي ليَحزُنُني أنْ أقولَ: إنَّ حالنا مع كثيرٍ من عُلمائنا -ولا أَقولُ: كلهم- كحال قُرَيْط بن أُنَيْف العنبريِّ مع قَومِه حِينَ قال:
لكنَّ قومِي وإِنْ كانوا ذَوِي عَدَدٍ
ليسوا مِن الشَّرِّ في شيءٍ وإِنْ هَانَا
يَجْزُونَ مِن ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً
ومِن إِساءَةِ أَهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا
كأَنَّ رَبَّك لم يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ
سِواهمُ مِن جَميعِ النَّاسِ إِنسانَا
فغالبُ عُلمائِنا -رَحِمَهم اللهُ وغَفَرَ لهم- مَشهورون -مع الآخَرِ المُغَايِر خاصةً- بالطِّيبة، والحياء، وسلامة الصَّدر، والتماس الأعذارِ، وتقديم حُسْنِ الظَّنِّ.. وهي صفاتٌ إسلاميةٌ رفيعةٌ إنْ لم تُضبَطْ بضوابطها انقلبَتْ غفلةً وتمييعاً لا تَكادُ تُرتقُ خُروقَها أو تُرفَأُ فُتُوقُها أو تُتَداركُ جَرائرُها.. وكم قد رَأيْنا مِنَ العلماءِ الأَجِلَّاءِ مَنْ يَزِنُ عِلمُهُم الجبالَ الرَّواسِيَ، ثم لا يَتكلَّفُ لهم العدوُّ الظاهرُ أو المنافقُ المُتَلَوِّنُ إلا ابتسامةً في الوَجهِ أو قُبلةً على الرَّأسِ فيَنخدعون له خديعةً لو مُزِجَتْ بماءِ البَحرِ لمَزَجَتْه؛ فيَأخُذُ منهم بسَيفِ الحَياءِ أَضعافَ ما يَأخُذُه من العَوامِّ بسَيفِ الجَهلِ!!
وقد كُنتُ أَظنُّ -وبعضُ الظَّنِّ إِثمٌ- أنَّ سَببَ ذلك فيهم قُصُورُهُم -رَحِمَهم اللهُ- عن مُتابعةِ الواقعِ.. وكانوا -إنْ صَحَّ التَّعبيرُ- عُلماءَ (بَركةٍ) لا عُلماءَ (حَركةٍ)؛ فلمَّا رَأيْنا علماء الحركة؛ تَذكَّرْنا قول القائلِ:
رُبَّ يومٍ بَكيتُ مِنه، فلمَّا
صِرتُ في غَيرِه بَكيتُ عَلَيْهِ
وإذْ في كُل صِنفٍ آفةٌ؛ فقُصورُ أُولئِك عن مُتابعةِ الوَاقعِ أَخرَجَهم خارجَ الوَاقِعِ، وانغماسُ هؤلاءِ في الواقعِ أَوْقَعَهم في شِراكِ الواقعِ.. وما أَظُنُّ -والله!- أنَّ الكثرةَ الكاثرةَ منهم جَامَلَتْ أو دَاهنَتْ في دِينِ اللهِ أو باعَتْ دِينَها بِعَرَضٍ من الدُّنيا قليلٍ -وإنْ حَدثَ ذلك مِن بَعضِ المُنتسِبِينَ للدَّارِ-، ولكنَّهم -غَفَرَ اللهُ لهم- دُخِلَ إليهم مِن بابِ رَأْبِ الصَّدعِ وجمْعِ الكلمةِ وتوحيدِ الشَّتاتِ.. وما أَكثَرَ ما تُوقِعُ هذه الأوهامُ في مصائبَ!!
والغريبُ -الذي قد نَراه نَحنُ غريباً الآنَ لشُيوعِ العِلْمِ به عِندَ المُحقِّقين من أَهلِ العِلمِ؛ بل وعندَ كثيرٍ من العامَّةِ أيضاً- أنَّ غَالبَ هؤلاءِ العُلماءِ كانوا يَظُنُّون التَّشيُّعَ الإمَامِيَّ خاصةً مذهباً مضافاً إلى المذاهبِ الأربعةِ الإسلاميةِ.. وكأنَّهم طال عليهم الأَمَدُ فلم يَهتمُّوا بدراسةِ الشِّيعةِ والتَّشيُّعِ؛ لعَدمِ شُيوع كُتُبهم في مصرَ آنذاك، أو لعدمِ ظُهورِ الشِّيعة على مسرحِ الأحداثِ ظُهوراً يَستلزمُ الدِّراسةَ والاهتمامَ.
وإنِّي لأَعلمُ أنَّ كثيرين من أَدعياءِ الثَّقافةِ الإِسلاميِّين ما يزالون يَعتبرون التَّشيُّع الإماميَّ مذهباً لا ديناً، ويَشْتَطُّون في المِثاليةِ المُغَلَّفَةِ بوهمِ التَّحقيقِ والتَّدقيقِ كما يَشْتَطُّ زوجٌ مخدوعٌ يَتَمَحَّلُ الأعذارَ لتكذيبِ قَالةِ السُّوءِ في زوجَتِهِ المتسلطةِ اللَّعُوبِ؛ لا يَقيناً من بَراءتِها أو إيماناً بطَهارتِها؛ بل رَغبةً في راحةِ الجَهلِ ورَهبةً من ثِقَلِ الحَقيقةِ.. ومَنْ لم تُوقِظْه كُلُّ هذه المَجازرِ ليَقرأَ عن القومِ ويَعرفَ حقيقةَ عقيدتهم؛ فلا أَيقَظَه اللهُ!.. وقديماً دَفعَ الشيخُ محمد المهدي (أحدُ أساطين الدار والمجلة) تلميذَه الدكتور علي السالوس لدراسة التَّشيُّع باعتبارِه مذهباً إسلامياً خامساً؛ فَمَا بدأ السالوسُ بحثَه بقراءةِ أصولِ القومِ؛ حتى هَالَهُ الخلافُ الذي يَستحيلُ معه التَّقريبُ، إلا أن يَنزلَ طرفٌ للآخَرِ عن دِينِه ويَخرُجَ له عن عَقيدتِه.. ثُم كَتَبَ أَسفارَه القَيِّمة عن الشِّيعة والتَّشيُّع.
وقد ظهرتْ غفلةُ العلماءِ -عن دِين الشِّيعةِ هذا- واضحةً جَلِيَّةً في فتوى شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت -غَفَرَ اللهُ له- بجواز تعبُّد المُسلمِين بالمَذهبِ الشِّيعيِّ الجعفريِّ، والتي جاءَتْ نصراً معنوياً كبيراً للشِّيعةِ لم يَتحققْ لهم مثلُه منذ ظهورهم على يدِ اليهوديِّ عبد الله بن سَبَأٍ، أو الثَّقَفِيِّ الكذَّابِ المختارِ بن عُبيدٍ!!
وقد احتفلوا بهذه الفتوى احتفالاً كبيراً؛ حتى ليُشاعُ أنَّ شاهَ إيرانَ نَفْسَه -وَهُوَ مَنْ هُوَ في العلمانيةِ والقوميةِ والبُعدِ عن مُطلَقِ الدِّينِ- أَمَرَ أجهزةَ الإذاعةِ والتِّلفازِ -كما تقولُ (ويكي شيعة)- بالاستعدادِ لقطعِ البثِّ وإذاعةِ الفتوى مُحاطةً بالتَّبجيلِ والتَّجليلِ، بَيْدَ أنَّ القُمِّيَّ -وكان في إيرانَ وَقْتَها- سَارعَ لِلقاء الشَّاهِ وطلب منه عدمَ إذاعةِ الفتوى لعِلمِه بما ستُحدِثُه من أثرٍ سياسيٍّ ودينيٍّ سلبيٍّ بينَ المسلمينَ، وحِينَ رَضَخَ الشَّاهُ لطلبِه مُتأفِّفاً؛ جمعَ القُمي مَحفلاً عِلمياً في مدينة (مشهد)، ضَمَّ فيه بعضَ كبارهم مِن أمثالِ: (محمد هادي الميلاني)، و(واعظ زاده الخراساني)، ثم قرأ عليهم نَصَّ الفتوى كما يَقرأُ الفاتحُ خُطبةَ النصرِ.. وتَذكُرُ بعضُ المصادرِ الشِّيعيَّة أنَّ شاباً في العشرينياتِ من عُمرِه اسمُه (علي خامنئي) كان مِن بينِ الحُضورِ آنذاك، وهو -كما هو معروفٌ الآن- مُرشدُ إيرانَ الحالي وقاتِلُ المسلمينَ في الشَّامِ والعراقِ واليَمنِ.. وهكذا هي دورةُ حياةِ الشِّيعيِّ بالنِّسبةِ للمُسلمِ؛ أوَّلُها -غالباً- تقريبٌ باللِّسانِ، وآخرُها -دائماً- طعنٌ بالسِّنانِ.. ولا عَزاءَ لمَوهوميِ المثاليةِ والتَّعايُشِ والتَّقريبِ!!
ولكيْ تَعجَبَ أكثرَ -أو لكيْ تَفهَمَ أكثرَ-؛ اعلَمْ أنَّ (محمد الخالصي)- أحدَ كِبارِ دُعاةِ التَّقريبِ الشِّيعةِ، وأحدَ المشهورينَ هو ومدرستُه وعائلتُه- بالدَّعوةِ إلى الوَحدةِ ونَبْذِ الطَّائفيةِ؛ حين سُئل عن جوازِ تَعَبُّدِ الشيعيِّ -فِقهياً- بأحدِ مذاهبِ المُسلمينَ الأربعةِ؛ حَرَّمَ ذلك ومَنَعَهُ قائلاً: "لا يَجوزُ الدُّخولُ في مذهبٍ من المذاهبِ الأربعةِ، ولا تقليدُ أيِّ مَيتٍ من الأمواتِ ما لم يُرجَعْ إلى المجتهدِ الحيِّ"!!
هذا ما أفتى به الخالصيُّ الذي هو (وَجْهُ الطَّبَقِ) عندهم -كما تَقولُ العَامَّةُ-، وزُبدةُ دعاةِ التَّقريب الشِّيعة.. فما بالُك بغَيرِه من الشِّيعةِ المَعجونينَ بطِينةِ الحِقدِ المُتقلِّبِينَ في مُستنقعاتِ الكراهيةِ!!
وإنَّ من أَعجَبِ العَجَبِ عندي أن يَتغاضَى كثيرٌ من علمائنا الحَركيِّين عن كلِّ هذه الشَّواهدِ الدَّالَّةِ على مُخالفةِ باطِنِ الشِّيعةِ لظاهِرِهم؛ فيَكتُبوا الكتبَ ويُدَبِّجُوا المقالاتِ -مَأخوذِينَ بمِثاليَّاتِ الوَحدةِ والتَّجمُّع- لتَقريبِ رافضي التَّقريبِ إلا بشُروطِهم، والتَّحبُّبِ إلى كارهي الوَحدةِ إلا حَسَبَ مُعتقداتِهم.. وقد أَخذَ الشَّيخُ محمد الغزالي -رَحِمَه اللهُ، وغفر له- حظاً وافراً من هذا التَّغاضي، وكان اشتغالُه بالدَّعوةِ -بالإضافةِ إلى عُضويَّتِه في دارِ التَّقريبِ- باباً واسعاً دَلَفَ منه إلى مُنتدياتِ الشِّيعةِ ومُؤتمراتِهم؛ فَكَوَّنَ صَداقاتٍ ممتدةً مع كثيرٍ من عُلمائِهم ومُفكرِّيهم، وجاءَتْ طبيعتُه النَّفسيةُ الهادئةُ غالباً، وعاطفتُه الجياشةُ تُجاهَ قضايا الإسلامِ والمسلمين؛ عاملاً مساعداً في حِرصِه على هذا التَّغاضي، واعتبارِ مساحاتِ الخلافِ مساحاتٍ سياسيةً وتاريخيةً مَضَى زَمنُها ويجب تَجاوُزُها أو إماتَتُها بتَركِها.. وعلى طَريقتِه الهَيِّنةِ اللَّيِّنَة معَ عَوامِّ المُسلمِينَ حِينَ سَألَه سائلٌ: ما حُكمُ تاركِ الصَّلاةِ؟ فقال: حُكمُه أن تَأخُذَه مَعَك إلى المسجدِ!! (وما أَجمَلَها من طريقةٍ مَعَ العَوامِّ فقط).. على هذه الطَّريقةِ سَارَ الشَّيخُ الغزاليُّ مع أفاعي الشِّيعةِ وعَقارِبِهم؛ فبَذَلَ جُهداً كبيراً في التَّهوينِ من فَداحةِ الخِلافِ، والتَّركيزِ على المُشترَكِ الفِقهيِّ؛ ظناً منه -رَحِمَه اللهُ- أنَّ الخلافَ كلَّه في الفُروعِ لا الأُصولِ، وهاجَمَ بلسانٍ حادٍّ- خلافاً لطبيعتِه الهَيِّنةِ اللَّيِّنةِ- بعضَ علماءِ الأزهرِ الذين وَقفُوا في وَجهِ الشِّيعة والتَّشيُّع واتَّهمهم بأنهم كَوَّنُوا صورةً مغلوطةً عن الشِّيعة "نَسَجَتْها الإشاعاتُ والفروضُ المدخولةُ" كما قالَ.. ولم يَكتفِ -غَفَرَ اللهُ له- بالتَّرحيبِ بفتوى الشَّيخِ شلتوت واعتبارِها "بِدايةَ الطَّريقِ وأَوَّلَ العملِ" -على حَدِّ قولِه-؛ بل زاد على ذلك في بعضِ كُتبه فأعربَ عن سُرورِه بقيامِ إدارةِ الثَّقافةِ بوزارةِ الأوقافِ المِصريَّةِ بطبعِ كتابٍ فقهيٍّ على مَذهبِ الشِّيعةِ الإماميةِ، ثُم أَوْغَلَ في حالةِ نشوةٍ عاطفيةٍ مَشبوبةٍ؛ فقال: "ولقد رَأيتُ أنْ أَقومَ بعملٍ إيجابيٍّ حاسمٍ سَدَّاً لهذه الفجوةِ التي صَنَعَتْها الأوهامُ؛ بل إنهاءً لهذه الفَجْوَةِ التي خَلَقَتْها الأهواءُ؛ فرأيتُ أن تَتوَلَّى وزارةُ الأوقافِ ضَمَّ المذهبِ الفقهيِّ للشِّيعةِ الإماميةِ إلى فِقهِ المذاهبِ الأربعةِ المَدروسةِ في مِصرَ، وستَتوَلَّى إدارةُ الثقافةِ تقديمَ أبوابِ العباداتِ والمعاملاتِ في هذا الفقهِ الإسلاميِّ للمُجتهدِينَ من إِخوانِنا الشِّيعةِ، وسَيرَى أُولُو الألبابِ عندَ مطالعةِ هذه الجُهودِ العلميةِ أنَّ الشَّبَهَ قريبٌ بينَ ما أَلِفْنا من قراءاتٍ فقهيةٍ وبينَ ما بَاعَدَتْنا عنه الأحداثُ السَّيئةُ"!!
هذا ما كَتَبَه الشَّيخُ الغزاليُّ -رَحِمَه اللهُ بعدما سَيطَرَ عليه وَهمُ التَّقريبِ- مُصِرَّاً على حَصرِ الخلافِ في الفروعِ دُونَ الأُصولِ، ومُتجاوزاً خلافَ الأُصولِ باعتبارِه خلافاً مَضَى زَمَنُه، ومُتوَهِّماً أنَّه حِينَ تَتوَلَّى إدارةُ الثقافةِ تقديمَ أبوابِ العباداتِ والمعاملاتِ الشِّيعيَّةِ للمُسلمينَ؛ فإنَّ أُولِي الألبابِ -كما سَمَّاهُم- سَيُدركون الحقيقةَ حِينَ يَكتشفونَ (قُربَ الشَّبَهِ) بَيْنَنا وبَيْنَهم، فتَنجَلِي الغَشاوةُ عن الأَعيُنِ، ويَمُدُّ المسلمون أَيدِيَهم إلى إخوانِهم الشِّيعةِ ويَستقبِلُهم إخوانُهم الشِّيعةُ بالأَحضانِ والقُبُلاتِ؛ فيَسودُ السَّلامُ ويَعُمُّ الوِئامُ ويَعيشُ النَّاسُ معاً في (تَباتٍ ونَبَاتٍ).. وكأنَّ الخلافَ كُلَّه مَحصورٌ في أبوابِ العباداتِ والمعاملاتِ والمذاهبِ الفقهيةِ!! وهو تَصورٌ مثاليٌّ غريبٌ من شيخٍ يُفترَضُ أنه عَرَكَ الأحداثَ وعَرَكَتهُ الأحداثُ.. ولا أَدري -واللهِ!- كيف خُدِعَ الشيخُ عن الأصلِ بالفرعِ وعن الجوهرِ بالعَرَضِ، وكيف ظَنَّ أنَّ قُربَ الشَّبَهِ الفقهيِّ -رَغمَ شُذوذاتِ الشِّيعةِ فيه- يُمكِنُ أن يُسقِطَ الخلافَ في الأُصولِ.. ومَعلومٌ أنَّ خلافَ الأُصولِ يُنتِجُ كُفراً أو إِيماناً بعَكْسِ خِلافِ الفروعِ الذي يُنتجُ صَواباً أو خَطأً.. وشَتَّانَ بينَ النَّتيجتينِ!!
أَرادَ الشَّيخُ الغزالي سَدَّ الفجوةِ التي صَنَعَتْها -في زَعمِه- الأوهامُ، وخَلَقَتْها -في ظَنِّه- الأهواءُ، ولكنَّه انتَقَلَ إلى رَحمةِ اللهِ قبْلَ أن يَرى الشِّيعةَ يَسُدُّونَ هذه الفجوةَ بجُثَثِ أكثرَ من مليونِ مُسلمٍ، وتَهجيرِ أَكثرَ من خَمسَةَ عَشَرَ مليوناً آخرِينَ؛ غَيْرَ عَابِئِينَ بشَبَهٍ فقهيٍّ ولا بمُشتركٍ فرعيٍّ، أو تَارِكِينَ هذه المشتركاتِ والأشباهَ لأهلِ (المَكْلَمَةِ) في المؤتمراتِ واللِّقاءاتِ الرَّسميةِ، ومُتفرِّغِينَ للواقعِ الذي يَعرفون أنه لا يُخاضُ بالقُبَلِ والمُجاملاتِ؛ بل بالخناجرِ والقنابلِ والبراميلِ المُتفَجِّرةِ.. وقديماً قال الشَّيخُ الغزاليُّ نَفْسُه: "ليس شرطاً أن تَكونَ عَميلاً لتَخدُمَ عَدوَّك؛ يَكفي أن تَكونَ غَبِياً"!!
لقد كانتْ فَتوى الشَّيخِ شلتوت -رَغمَ صُدورِها بَعدَ انحسارِ نشاطِ الدَّارِ بسنواتٍ - أكبرَ نصرٍ حَقَّقَتْه حالةُ الاختراقِ التي صَاحبَتِ الدارَ، وما انحَسَرَ نشاطُ الدارِ إلا بَعدَ اكتشافِ كثيرٍ من العلماءِ حقيقةَ الشِّيعةِ والتَّشيُّع.. وكانت الدَّارُ داراً نُخبويةً تَعمَلُ بالعلماءِ ومع العلماءِ، وأَمَدُ مخادعةِ العلماءِ عن الحقيقةِ قصيرٌ؛ فهم -رَغمَ طِيبَتِهم وحيائِهم وغَفلَتِهم أحياناً- مُجْبَرُونَ بسببِ حالةِ العِلمِ التَّداوُليَّةِ ومَشَاعِيَّةِ الأسئلةِ؛ على البحثِ والتَّقصِّي والقراءةِ؛ مما يَعني أنَّهم سيكتشفون الحقيقةَ عاجلاً أو آجلاً، وسيَترَتَّبُ على اكتشافِهم للحقيقةِ شِدةٌ في رَدِّ فِعلهم؛ لأنهم لن يَشتَدُّوا آنذاك بسَببِ كَشْفِهم للحقيقةِ فقط؛ بل بسَببِ شُعورِهم بمَهانةِ الخَديعةِ أيضاً.. وقد حَدَثَ هذا مَعَ الشَّيخِ التُّركستانيِّ موسى جار الله، والشيخ رشيد رضا، والشيخ محب الدين الخطيب، والشيخ مصطفى السباعي.. ومئاتٍ غيرِهم بَدؤُوا حياتَهم مُقدِّمينَ حُسْنَ الظَّنِّ، ثم انْتَهَوْا إلى ما انتهى إليه الشيخُ القرضاوي حين قال: "إنَّها ليسَتْ مذاهبَ؛ بل فِرَقٌ"!!
***
مَاتَ أولئك العلماءُ المَخدوعون قَبْلَ أن تَقومَ للشِّيعةِ دولةٌ حديثةٌ؛ فيروا -مِن خِلالِها- صُوَرَ التَّقريبِ مُجَسَّدةً في مَساجدِ المُسلمين المَقصوفةِ، ومَنازلِهم المُهَدَّمةِ، وأَشلائِهم المُمزَّقةِ، وأَعراضِهم المُنتَهكةِ، وأجسادِ أطفالِهم المُحترقةِ، وقُبورِ أَجدادِهم المَنبوشةِ.. ماتوا قَبْلَ أن يُشاهدوا الشِّيعةَ وهُم يُمارسون (التَّقريب!!) على المُسلمينَ في الشَّامِ والعِراقِ واليَمنِ؛ حَرقاً وشَنْقاً ونَحراً وتَغريقاً وتَجويعاً وتَهجيراً!!
مَاتُوا قَبْلَ أن يَسمَعُوا عن طرائقِ القَتلِ التي تَأنَفُ منها الوُحوشُ الضَّواري؛ مِثلُ: ثَقْبِ الأَعيُنِ والآذانِ والرُّؤوسِ بالمِثقابِ الكَهربائيِّ، أو نَشْرِ المسلمينَ أحياءً بمِنشارِ الأخشابِ، أو التَّسليةِ بذَبْحِ الأطفالِ أَمامَ أُمَّهاتِهم، أو بَقْرِ بُطونِ الحَواملِ وقَتْلِ الأَجِنَّةِ، أو إقامةِ الحفلاتِ الجماعيةِ لاغتصابِ المسلماتِ، أو شَيِّ أجسادِ المسلمينَ في السُّجونِ والمعتقلاتِ!!
أَرادَ اللهُ للقرضاوي أن يَرى بعَيْنيْه مآلاتِ (فِقْهِهِ للواقعِ).. ذلك الفِقهِ الذي لَبِثَ عُمُراً يُنادي به ويُؤسِّسُ له.. كما أرادَ اللهُ للحمقى والمغفَّلين مِن شَبابِ الإِسلاميِّين أن يَرَوْا مآلاتِ (الواقعيةِ السِّياسيةِ) التي يَلُوكُونها بأَفواهِهم ادِّعاءً للحِكمةِ والحِنْكَةِ والتَّفتُّحِ والدِّرايةِ، وهم لا يَدرُون أنَّهم لا يَدرُون!!
اقْتنَعَ القرضاوي أخيراً بأنَّ حسن نصر الله -الذي طالما مَدَحَه وأَثْنَى عليه- ليس سِوَى (حسن نصر اللَّاتِ)، وأنَّ حِزبَ اللهِ -الذي طالما دَعا له بالنَّصرِ- ليس سوى (حِزبِ الشَّيطانِ).. كما اكْتَشَفَ -على حَدِّ قولِه- أنه كان مُخطِئاً حِينَ خالَفَ كِبارَ مَشايخِ السُّعوديةِ الذين كانوا -على حَدِّ قَولِه أيضاً- أَنضَجَ منه وأَبصَرَ بحقيقةِ الشِّيعةِ وحِزبِ اللهِ؛ فعَرَفُوا -قَبْلَهُ!- أنَّ الشِّيعة كَذَبَةٌ، وليسوا ناصِحِينَ للمُسلمين ولا مُناصِرِينَ لهم.. ثُم أَضافَ قائلاً في مُؤتمرٍ جماهيريٍّ في إسطنبولَ: لو كُنتُ أَملكُ القُدرةَ على قِتالِهم بيَدَيَّ لقَاتَلْتُهم!!
احتاجَ القرضاوي -ليَصِلَ إلى هذه القناعةِ- إلى أكثرَ من أَربعةِ ملايينِ قتيلٍ في الشَّامِ والعِراقِ واليمنِ، وأكثرَ مِن خَمسةَ عَشَرَ مليونَ مُهَجَّرٍ؛ مَارَسَ الشِّيعةُ التَّقريبَ عليهم بأبشعِ أَفانينِ القَتلِ والتَّهجيرِ التي كادَتْ أن تَكونَ علامةً مُسَجَّلةً لهم عَبْرَ تاريخِهم الأسودِ مع المُسلمِينَ!!
***
الدُّكتور عبد الله النفيسي أيضاً لم يَكُنْ بعيداً عن القرضاوي في التَّلبُّسِ بهذا الوهمِ؛ بل لعلَّه يَكونُ أَقدمَ زمناً في علاقتِه بالشِّيعةِ بحُكمِ القُربِ المكانيِّ والتَّخصُّصِ العلميِّ؛ فهو كُويتيُّ الجنسيةِ، أَعَدَّ رسالتَه للدكتوراه في أواخرِ ستينياتِ القرنِ العشرين في جامعةِ كامبردج ببريطانيا عن (دَوْرِ الشِّيعةِ في تَطوُّرِ العِراقِ السِّياسيِّ الحديثِ)، ورَحَلَ إلى النَّجفِ مُحَمَّلاً بتوصيةٍ من أُستاذِه (سارجنت هاربي) للمَرجعِ العراقيِّ الشِّيعيِّ آنذاك: محسن الحكيم؛ فأَحسَنَ الحَكيمُ استقبالَه وأَمَرَ أولادَه -ومنهم (محمد باقر الحكيم)- بتَسهيلِ مَهَمَّتِه وتيسيرِ مُقابلاتِه مع مَن يُريدُ.. شخصٌ واحدٌ اعتَرَضَ الحكيمُ على مقابلةِ النفيسيِّ له لأنه -على حَدِّ قولِ الحكيمِ- (مُشَوَّشُ العقلِ وغيرُ مُتَّزِنٍ).. كان هذا الشَّخصُ هو (رُوزَبَّة بسنديدة سينكا) وكان لاجئاً في النَّجفِ بالعراقِ قَبْلَ أن يُصبِحَ (الإمامُ الخمينيُّ) الذي رَكِبَ ثورةَ إيرانَ، فأَحسَنَ رُكوبَها بحبلٍ من اللهِ وحبلٍ من فرنسا والنظامِ العالميِّ!!
أَنْهى النفيسيُّ رسالتَه، وطَبَعَها، فذَاعَ صِيتُها وفُتِحَتْ له أبوابُ الجامعاتِ الإيرانيةِ التي اسْتقَبَلَتْه مُحاضراً فيها؛ لِيُكَوِّنَ صداقاتٍ ممتدةً مع النُّخبةِ الإيرانيةِ العِلميةِ والسِّياسيةِ.. ومع اشتِعالِ الثَّورةِ الإيرانيةِ كان النفيسيُّ من أكبرِ الدَّاعمينَ لها والمُدافعِينَ عنها؛ شأنُه في ذلك شأنُ غالبيةِ الإسلامِيِّين الطَّيبينَ الذين ظَلُّوا ضُيوفاً دائِمِينَ في مؤتمراتِ التَّقريبِ الإيرانيةِ؛ مثلُ: البوطي، والقرضاوي، وفتحي يكن، ومحمد عمارة، وعشراتٍ غَيرِهم سَيطَرَ عليهم وَهمُ التَّقريبِ رَدَحَاً طويلاً من الزَّمنِ، وتَجَمَّلَ الصَّفَوِيُّون الإيرانيون بأسمائهم، فاخترقوا بها عقولَ المسلمين وقلوبَهم.. تماماً كما يَتجَمَّلُ الصَّفويُّون الإيرانيون الآنَ بأكاذيبِهم عن دَعمِ المقاومةِ، أو (بجرجرةِ) شبابِ الإسلاميِّينَ الأغرارِ إلى مُؤتمراتِ طهرانَ؛ ليُكَمِّلُوا بأضوائها نقصَ نُفوسِهم، ويَمْلَؤُوا بأموالِها فراغَ جُيوبِهم، ويُخرِسُوا بمُواءَماتِها صُراخَ ضَمائِرِهم.. إنْ كان بَقِيَ لهم ضمائرُ في ظِلِّ المذبحةِ الدائرةِ علينا من إيرانَ ومِيليشيَّاتها!!
ومع مُرورِ السَّنواتِ بدأَ النفيسيُّ يَتململُ من (الحَجِي والسَّواليف) -على حَدِّ قولِه-، وصَاحَبَ تَمَلْمُلَهُ هذا تحذيرُ بعضِ العقلاءِ له مِن مَغَبَّةِ مُساهمتِه في التَّعميِة على حقيقةِ الشِّيعةِ وإيرانَ، وأنه -ومَن مَعَهُ مِن مُتَوَهِّمي التَّقريبِ- أغبياءُ لا يَعرِفون مآلاتِ أفعالِهم..
الغريبُ أنَّ لحظةَ الاستنارةِ التي أَيْقَظَتِ النفيسيَّ من وَهمِ التَّقريب؛ جاءَتْ على يَدِ سفيرِ إيران في الكويتِ؛ فقد لاحَظَ النفيسيُّ أثناءَ وجودِه في إيرانَ خلوَّ العاصمةِ طهرانَ من مسجدٍ للمُسلمينَ يُقيمونَ فيه صلاةَ الجمعةِ في الوقتِ الذي تَعُجُّ فيه طهرانُ بمعابدِ اليهودِ وكنائسِ النَّصارى.. وحين عادَ للكويتِ دعا السفيرَ الإيرانيَّ فيها (علي أحمد جنتي) إلى منزلِه ليَطلُبَ منه توصيةً بشراءِ قطعةِ أرضٍ في طهرانَ ليُقيمَ عليها مَسجداً للمُسلمينَ.. كان السَّفيرُ الإيرانيُّ -على حَدِّ قولِ النفيسيِّ- يُمسِكُ كوبَ الشاي في يَدِه، وحِينَ سَمِعَ طَلَبَ النفيسيِّ؛ قَهْقَهَ عالياً ووضعَ كوبَ الشاي جانباً، وقال: مُستحيلٌ.. لا يُمكنُ إنشاءُ مسجدٍ (للسُّنَّةِ) في طهرانَ.. إنَّه قرارٌ سياسيٌّ من أعلى هَرمِ السُّلطةِ.. وحتى لو أَعطيْتُك التَّوصيةَ فلن تُفلِحَ بها، وسيَكونُ أشدُّ المُعترضِينَ عليها أبي (أحمد جنتي) خطيبَ الجمعةِ في طهرانَ وعضوَ مجلسِ الخبراءِ"!!
كانَتْ صراحةُ السفيرِ الإيرانيِّ أَشبهَ بدلوِ ماءٍ باردٍ سُكِبَ على رأسِ النَّفيسيِّ ليَستيقظَ من أَوهامِه ويُعيدَ مُراجعةَ أَفكارِه؛ ليس عن التَّقريبِ فحَسْبُ؛ بل عن الشِّيعةِ عامةً وإيرانَ خاصةً!!
استقالَ النفيسيُّ من عُضويةِ (حِصانِ طروادةَ)، أو ما يُسَمَّى (المجمعَ العالميَّ للتقريبِ بينَ المذاهبِ)، وقَضَى السَّنواتِ الثَّلاثَ اللَّاحقةَ في قراءةِ مَصادرِ الشِّيعةِ وكُتُبِهم المعتبرةِ؛ ليَصِلَ إلى قَناعةٍ كاملةٍ بأنَّ التَّشيُّعَ ليس مَذهباً إسلامياً؛ بل دينٌ آخَرُ ليس فيه من الإسلامِ سِوى الشَّكلِ الخارجيِّ أو الاسمِ الظاهريِّ.. وهي ذاتُ القناعةِ التي صَرَّحَ بها القرضاوي حِينَ قال: "إنَّها ليسَتْ مذاهبَ؛ بل فِرقٌ".. وذاتُ القناعةِ التي يُمكِنُ أن يَصِلَ إليها أيُّ إنسانٍ وَهَبَه اللهُ مِثقالَ ذَرَّةٍ من عَقلٍ حِينَ يَقرأُ (الكافي، للكليني)، أو (بحار الأنوار، للمجلسي)، أو (فصل الخطاب في تحريف كتاب رَبِّ الأرباب، للطبرسي)!!
وقد ذَكَّرَتْني هذه القناعةُ البَدَهِيَّةُ التي وصلا إليها بَعدَ جُهدٍ مَشكورٍ على أيِّ حالٍ؛ بجوابٍ للشيخِ عبد اللهِ بن جبرينَ -رحمه الله- حِينَ سُئلَ: هل الشِّيعةُ مُرتدون؟! فقال: (الشِّيعةُ ليسوا مُرتدِّينَ؛ لأنَّهم لم يَدخُلُوا الإسلامَ أصلاً).. كما ذَكَّرَتْني أيضاً بِردِّ العلَّامةِ محمد الأمين الشِّنْقِيطِي حِينَ جاءَه بعضُ دَجَاجِلةِ الشِّيعةِ لمُناظرتِه، فقال لهم: "لو كُنَّا نَتفِقُ على أُصولٍ واحدةٍ لنَاظَرْتُكم، ولكنْ لنا أُصولٌ ولكم أُصولٌ، وبصورةٍ أَوضحَ: لنا دِينٌ ولكم دِينٌ، وفَوقَ هذا كُلِّه أنتم أهلُ كذبٍ ونفاقٍ"!!
ومع دراسةِ التَّشيُّعِ دِينياً وتاريخياً، ودراسةِ إيرانَ سياسياً وثقافياً واجتماعياً؛ وَصَلَ النفيسيُّ مرةً أُخرى إلى قناعةٍ بَدَهِيَّةٍ أُخرى؛ مَفادها: أنَّ (إيران الملالي) كـ(إسرائيل الحاخامات) كلاهما كِيانٌ مُفتَعَلٌ يَشعرُ بالعُزلةِ عن المنطقةِ العربيةِ لاختلافِه عنها لغةً وديناً، وأنَّ الكراهيةَ المُتَجَذِّرةَ في النَّفسيَّةِ العبرانيةِ للمُسلمينَ والعربِ لا تَزيدُ عن الكراهيةِ المُتجَذِّرةِ في النَّفسيَّةِ الفارسيَّةِ للعربِ والمسلمين!!
هذا ما وَصَلَ إليه النَّفيسيُّ بَعدَ سنواتٍ من القراءةِ والبحثِ والتَّقصِّي؛ رَغمَ ما يُمكنُ أن يُقالَ عن الطَّبيعةِ التَّبادليَّةِ للكَراهيةِ بَينَ الأجناسِ وبَعضِها؛ خاصةً إذا تَجاوَرَتْ مكاناً وتَفاعَلَتْ زماناً.. وقد استدلَّ النفيسيُّ على هذه الكراهيةِ بما يُمكنُ أن يُستدلَّ بِضِدِّهِ على ضِدِّه؛ فذكرَ بعضَ شِعرِ الفردوسيِّ صَاحِبِ (الشاهنامه) في ذمِّ واحتقارِ العَربِ، كما ذَكَرَ قصيدةً لشاعرِ إيرانَ المعاصِرِ (مصطفى بَادْكُوُبَه) بعنوانِ (رسالة إلى اللهِ) أَلْقاها في بَلَدِيَّةِ طهرانَ سنة 2013، وجاء فيها:
"يا إِلهَ العَرَبِ!
لا مُشكلةَ لديَّ أن تُلقِيَنِي في جَهَنَّمَ..
أَلْقِنِي في جَهَنَّمَ كما تَشاءُ..
ولكنِّي أَرجُوكَ ألَّا تُسْمِعَني حَرفاً عَرَبِياً واحداً هناك".
الغريب أنَّ هذه الكراهيةَ لم تُوجَّه للعربِ المسلمينَ فقط؛ بل وُجِّهت للعربِ الشِّيعة أيضاً، وَمَا مِنْ شيعيٍّ عراقيٍّ صادقٍ مع نَفْسِه -وما أَنْدَرَ الصَّادقِينَ في الشِّيعةِ!- تَسأَلُه عن هذه الكراهيةِ إلَّا ويُقِرُّ بها إقرارَ المخذولِ المُهانِ، بَعدَ أن اسْتَخدَمَتْهُم إيرانُ -باسْمِ التَّشيُّعِ- لتَدميرِ العراقِ والشَّامِ، وَرَهْنِ مُقَدَّراتِهما الضَّخمةِ لمَصلحةِ فَارسيٍّ مُعَمَّمٍ يَدَّعِي النَّسبَ الشَّريفَ ولا يُحسِنُ قِراءةَ الفاتحةِ قِراءةً صحيحةً!!
بل إنَّ البُيُوتاتِ العريقةَ للمَرجعيَّاتِ الشِّيعيَّةِ العربيةِ لم تَسْلَمْ أيضاً من العُنصريَّةِ الفارسيَّةِ ضِدَّها؛ فها هو محمد باقر الحكيم -صديقُ النفيسيِّ القديمُ- يَلتقيه في طهرانَ سنة 2002م ويُحَدِّثُه عن قرارِ الأمريكانِ بإسقاطِ صَدَّام حسين؛ مُستبشراً بقُربِ انتهاءِ عَهدِ الذُّلِّ والضَّنْكِ في المنفى الإيرانيِّ.. وحِينَ اندهَشَ النفيسيُّ من كلامِ الحَكيمِ عن الضِّيقِ الذي يُعانيه آلُ الحكيمِ في إيرانَ؛ أَردَفَ الحكيمُ قائلاً: إنَّ الإيرانيين يُعاملوننا مُعاملةَ التَّابعِ الذَّليلِ، ويَستخدمون التَّشيُّعَ كحِصانِ طروادةَ للسَّيطرةِ على العَربِ وإذلالِهم، وإنَّ أوَّلَ عملٍ سأَعمَلُه حِينَ أَعودُ للنَّجفُ هو تَعريبُ المَرجعيةِ وتَنظيفُها من العناصرِ الفَارسيَّةِ... وكان هذا التَّصريحُ من الحكيمِ للنَّفيسيِّ هو الذي دَفَعَ النَّفيسيَّ -بعدَ ذلك- إلى التَّشكيكِ في حَقيقةِ قَتَلَةِ الحكيمِ وَتَرْجِيحِهِ وجودَ يدٍ لإيرانَ في عمليةِ قَتلِه، رَغمَ اشتهارِ مَقتلِه -إِعلامياً- على يَدِ تَنظيمِ القاعدةِ انتقاماً منها لمجازرِ المُسلمينَ في العراقِ.
***
القرضاوي والنفيسي ليسا وَهَّابِيَّيْنِ ولا نَاصِبِيَّيْنِ..
لا أَحدَ -يَملكُ عقلاً- يُمكِنُ أن يَتَّهِمَهما بهذه التُّهمةِ المُعَلَّبَةِ التي يَرفَعُها الشِّيعةُ وأذنابُهم في وَجهِ مَنْ يُحَذِّرُ من الشِّيعةِ وأَذنابِهم!!
القرضاويُّ والنفيسيُّ -بحَسَبِ إعلامِ هذا الزَّمنِ- عَلَمَان من أَعلامِ الفقهِ والفكرِ الإسلاميِّ، وكلاهما خَرَجَ من عَباءةِ جماعةِ الإخوانِ المسلمينَ.. تلك الجماعةُ التي جَمَعَتْ كلَّ الألوانِ لتَظَلَّ دائماً بلا لونٍ!!
وعلى ذِكْرِ جماعةِ الإخوانِ المُسلِمِينَ -والهَمُّ بالهَّمِّ يُذكَرُ- فقد كانَتْ هذه الجماعةُ أكبرَ بوابةٍ إسلاميةٍ في العَصرِ الحديثِ دَخَلَ منها التَّشيُّعُ إلى عُقولِ المسلمينَ وقُلوبِهم -بالإِضافةِ إلى التَّصوُّفِ كبوابةٍ ثانيةٍ- وكان هذا الدُّخولُ في بداياتِه سياسياً مَحضاً، ثُم انداحَ واتَّسَعَ بَعدَ ذلك ليَأخُذَ شَكلَه الدِّينيَّ تَحتَ سِتارِ السِّياسةِ.. ولم يَكُنِ الشِّيعةُ يَحتاجون أكثرَ مِن هذا الدُّخولِ المَبدئيِّ ليَتَمَدَّدُوا دِينياً بَعدَ ذلك في خَواصرِ أُمَّتِنا الرَّخْوَةِ.. وما أَكثرَ خَواصِرَنا الرَّخْوَةَ في هذا الزَّمنِ!!
إلَّا أنَّ الإنصافَ يَقتضي أنْ نَقولَ: إنَّ علاقةَ جماعةِ الإخوانِ المسلمينَ بالشِّيعة علاقةٌ شديدةُ التَّعقيدِ والإرباكِ والتَّشابُكِ، ولا يُمكِنُ لباحثٍ يَحترمُ نَفْسَه أن يُطلِقَ عليها -مَعَ تَشابُكِها وتَعقيدِها وإِرباكِها- حُكماً جَازماً؛ فيَصِفَها وَصفاً صَحيحاً بجُملةٍ أو جُملتَينِ، ثُم يَرتاحَ لهذا الوَصفِ؛ فهي حِيناً جَهلٌ فاضحٌ، وحِيناً غَفلةٌ قاتلةٌ، وحِيناً مِثاليةٌ حمقاءُ، وحِيناً براجماتيةٌ مُقزِّزةٌ، وحِيناً خيانةٌ للهِ ولرسولِه وللمسلمِينَ!!
والغريبُ أنَّ الإخوانَ المُسلمينَ لم يَكونُوا في بِداياتِ هذه العِلاقةِ تَابِعينَ للشِّيعةِ؛ بل العكسُ هو الصَّحيحُ؛ فمُفكِّرو الشِّيعةِ وحَرَكِيُّوهم- إبَّانَ تَشَرْذُمِهم في أواسطِ القرنِ العشرينَ الميلاديِّ وقَبْلَ انفجارِ الثَّورةِ الإيرانيةِ ونَجاحِها-؛ كانوا عِيالاً على الفِكرِ الحركيِّ الإخوانيِّ، وَيَرَوْنَ أَقطابَ الإخوانِ أَمثالَ الشَّهيدَينِ -بإِذنِ اللهِ-: (البنا، وقُطب) أَساتذةً لهم.. بل كانوا يَرَوْنَ أنَّ الطَّريقَ الوَحيدَ لإنشاءِ الحُكمِ الإِسلاميِّ لا بُدَّ أن يَمُرَّ عَبْرَ الفِكرِ الحَركيِّ للإخوانِ المُسلمِينَ.. ولعلَّنا لا نَتجاوَزُ الحَقيقةَ إنْ قُلْنا: إنَّ الفِكرَ السِّياسيَّ الشِّيعيَّ الحديثَ لم يَنشأْ حِينَ نَشَأَ إلَّا استجابةً لتأثيرِ الفِكرِ الحَركيِّ الإخوانيِّ الذي رَأى فيه مُفكِّرو الشِّيعةِ المُحْدَثُون المُعاصِرون حالةً انعتاقيةً من قُيودِ التَّديُّن التَّقليديِّ للمَرجعيَّةِ الشِّيعيَّةِ التَّقليديَّةِ، أو تحديثاً فكرياً يُضافُ إلى قُيودِها التَّقليديَّةِ؛ فيُخلْخِلُ جُمودهَا مِن جِهةٍ ويُثَبِّتُ وُجودَها مِن جِهةٍ، ويُطوِّرُ أَداءَها مِن جهةٍ.. كما أنَّ بَعضَ شَبابِ الشِّيعةِ في العِراقِ والشَّامِ كانوا أعضاءً في جماعةِ الإخوانِ المُسلمِينَ، وحِزبِ التَّحريرِ، قَبْلَ تَأسيسِ (حِزبِ الدَّعوةِ) الشِّيعيِّ العراقيِّ في أَواخِرِ السِّتينياتِ، والذي أُسِّسَ مُتأثراً بحركيَّةِ الإخوانِ وحِزبِ التَّحريرِ معاً، وكان أَكبَرُ سَببين لتأسيسِه هما: مُناهضةَ الشُّيوعيَّةِ، وجَذبَ الشَّبابِ الشِّيعيِّ وحِفْظَه من التَّأثُّرِ الفكريِّ لِما سَمَّاه بعضُ مُؤرِّخِيهم: الإسلامَ السُّنِّيَّ!!
ورَغمَ كُلِّ هذا التَّداخُلِ؛ فإنَّ جَمَّاً غفيراً من الأفاضلِ الأوائلِ في جَماعةِ الإخوانِ المُسلمِينَ -في بِلادِ الشَّامِ خاصةً- حَذَّروا جماعَتَهم مِن وَهْمِ التَّقريبِ تَحذيراً شديداً، والتمسوا الأعذارَ للشَّيخِ حسن البنا -غَفرَ اللهُ له- بالزمنِ والسياق.. وكان على رَأسِ هَؤلاءِ الأفاضلِ: المُراقبُ العامُّ الأستاذُ (مصطفى السِّباعي) الذي دَعا للتَّقريبِ ابْتِداءً، ثُم عادَ وحَذَّرَ منه بَعدَ اكتشافِه خَطَرَه وسَرَابِيَّتَه.. أمَّا الشَّيخُ (سعيد حوى) فقد كَتَبَ رِسالةً نفيسةً عن الخُمينيِّ؛ سَمَّاها: (الخُمينيَّةُ: شذوذٌ في العقائدِ وشُذوذٌ في المَواقفِ)، وكان الشَّيخُ سعيد قد التقى الخمينيَّ في مايو 1979 على رأسِ وفدٍ من الإخوانِ المسلمِينَ، ودَارَ بينهما حديثٌ مُقتَضَبٌ أَخبَرَه فيه الخمينيُّ بأنَّه مُطَّلعٌ على الأحداثِ في سوريا، ووَعَدَه بالتَّوسُّطِ لدى حافظ أسد ليَكُفَّ أذاه عن المسلمِينَ في الشَّامِ.. وقد صَدَّقَ الشيخُ سعيد حوى وُعودَ الخُمَيْنيِّ كما صَدَّقَهَا غالبُ الإسلاميِّين من الإخوانِ وغَيرِهم، وتَمَنَّى الشيخُ ألَّا تَتَوَرَّطَ الثورةُ الإيرانيةُ في سوريا، ولكنَّها -على حَدِّ قَوْلِه في مُذكِّراتِه- تَوَرَّطَتْ.
بل إنَّ الخُمَيْنيَّ -وكعادةِ الشِّيعةِ- لم يَكتفِ بتجاهُلِ وُعودِه حِينَ اشْتَدَّتْ حاجةُ الإخوانِ المسلمِينَ لوَساطَتِه إِبَّانَ مَذابحِ حافظ أسد لهم وللشَّعبِ السُّوريِّ في الثمانينيَّاتِ؛ بل وَقَفَ مع حافظ أسد وسانَدَه ضِدَّ الإخوانِ المُسلمينَ، وهاجَمَتْ صُحُفُه الرَّسميةُ ومنابرُ مساجدِه الإخوانَ المسلمِينَ ووَصَفَتْهم بالمنافقِينَ والعُملاءِ.. كما زار سَفَّاحُ الثَّورةِ الإيرانيةِ ومُدَّعِيها العامُّ آنذاك (محمد صادق خلخالي) دِمشقَ لمؤازرةِ حافظ أسد، وسَمَّى الإخوانَ المسلمين في تَصريحٍ له -مِن قَلْبِ دِمشقَ إِبَّانَ تلك المَذابحِ- بإخوانِ الشَّياطينِ!!
حَدَثَ ذلك في الثَّمانينياتِ من القرنِ العشرينِ، كما يَحدُثُ الآنَ في العشرينياتِ من القرنِ الحادي والعشرين دُونَ أن تَتَعَلَّمَ الجماعةُ الدَّرسَ، أو يَظهَرَ في الأُفقِ أنَّها يُمكِنُ أن تَتَعَلَّمَ مِن أيِّ دَرسٍ!!
***
لا يَصفُو شِيعيٌّ لمُسلمٍ أبداً.. وإنِّي -واللهِ- لا أَدري كيف يُمكنُ لِمُسلِمٍ بالغٍ عَاقلٍ مُكَلَّفٍ أن يَدعُوَ للتَّقارُبِ معَ الشِّيعةِ بَعدَ قِراءةِ كُتُبِهم ومَعرفةِ أُصولِهم والِاطِّلاعِ على تَاريخِهم قَديماً وحديثاً؟! لقد التمستُ لهؤلاءِ الأعذارَ السَّبعين؛ مرةً بالزَّمنِ والسِّياقِ، ومرةً باشتدادِ الخِداعِ، ومَرَّاتٍ بالمثاليةِ الحَمقاءِ؛ حتى صَارَتِ الأعذارُ تَبريراً والتَّبريرُ إرجاءً والإرجاءُ خِيانةً للهِ ولرسولِه وللمُسلمين!!
كيف يُمكِنُ أن نَتقارَبَ -دِينياً- مَعَ قومٍ يَرَوْنَ (الإِمامةَ) أَصلاً مِن أُصولِ الدِّينِ لا يَكُونُ المسلمُ مُسلماً إلَّا إذا اعتَقَدَها وَسَلَّمَ بها، وآمنَ أنها نَصٌّ مِن اللهِ تعالى في كِتابِه الكريمِ، ووَصيةٌ من رَسولِه -صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- في حَديثِه الشَّريفِ، وأنَّ مَن أَنْكَرَها فقد أَنْكَرَ النُّبُوَّةَ والأنبياءَ -بل إنَّ إِنكارَها أَشَدُّ كُفراً مِن إِنكارِ النُّبوَّةِ والأَنبياءِ-، ولا فَرقَ بَينَ كُفرِ مَنْ كَفَرَ باللهِ ورَسولِه وبَينَ كُفْرِ من كَفَر بإِمامةِ الأَئمَّةِ الاثنيْ عَشَرَ، وأنَّ مَنْ آمَنَ بإِمامٍ واحدٍ وجَحَدَ أيَّ إمامٍ آخَرَ؛ كان كمَن آمَن بعِيسى وكَفَرَ بمُحمَّدٍ، أو آمَنَ بمُحمَّدٍ وكَفَرَ بعيسى -عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ-!!
كيف يُمكِنُ أن نَتقارَبَ -دينياً- مَعَ قومٍ يَرَوْنَ القرآنَ الكريمَ مُحَرَّفاً زيادةً ونقصاناً، ويَزعُمون أنَّ علياً -رَضِيَ اللهُ عنه- جَمَعَ القرآنَ الصَّحيحَ، ثُم عَرَضَه على أبي بكرٍ وعُمرَ -رَضِيَ اللهُ عنهما-؛ فرَأَيَا في أوَّلِ صفحةٍ منه فضائحَ المُهاجِرِينَ والأَنصارِ بأَسمائِهم؛ فرَفَضَاه وأَمَرَا زيدَ بنَ ثابتٍ -رَضِيَ اللهُ عنه- أن يَجمَعَ لهما قرآناً يَمحُو منه تلك الفَضائحَ ويُسقِطُ منه إِمَامَةَ عليٍّ وأَبنائِه.. صَرَّح بهذا وأمثالِهِ غالبُ عُلمائِهم المُعتَبَرين؛ مِثلُ: الكليني، والمفيد، والمجلسي، والجزائري، والعياشي.. ولا تَكادُ تَجِدُ عالماً لهم يُشارُ له بالبَنانِ إلَّا وَجدْتَ له تَصريحاً بالتَّحريفِ أو تَصديقاً به، أو تَلْمِيحاً يُقارِبُ التَّصريحَ كَذِباً وتَقِيَّةً؛ حتى كَتَبَ أَحدُ عُلمائِهم- وهو النُّوريُّ الطبرسي- كتاباً كاملاً وسَمَّاه: (فَصْل الخطابِ في تَحريفِ كِتابِ رَبِّ الأربابِ)!!
كيف يُمكِنُ أن نَتقارَبَ -دِينياً- مَعَ قَومٍ يَعتقدُونَ (العِصمةَ) في اثْنَيْ عَشَرَ رجلاً يَرَوْنَهم مُنَزَّهِينَ عن الذُّنوبِ كَبيرِها وصَغيرِها، وعن الخَطأِ والنِّسيانِ والسَّهوِ واللَّهْوِ مِن الميلادِ حتى المَماتِ، وأنَّهم يَعلَمُون عِلمَ ما كان وما سيَكونُ، ويَحْيَوْنَ برَغبَتِهم ويَموتُونَ برَغبَتِهم، وأنَّهم مَصدرٌ للتَّشريعِ ما أَحَلُّوه فهو حلالٌ وما حَرَّمُوه فهو حَرامٌ، ولهم مِن المَنزلةِ ما لا يَبْلُغُه مَلكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبيٌّ مُرسَلٌ -كما قَالَ الخُمَيْنِيُّ- فكأنَّهم بهذا اتَّخَذُوا هؤلاءِ الأئمةَ أربابَاً مِن دُونِ اللهِ أو مَعَ اللهِ.. ولا أَعرِفُ لهذا وأَمثالِه مُسَمّىً سِوى مُسَمَّى شِركِ العِبادةِ، وهو عَينُ ما قَالَه رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- لعَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ حِينَ سَمِعَ آية: "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابَاً مِنْ دُونِ اللهِ"؛ فقالَ عَدِيٌّ: إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ! فقَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-: "أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فتُحَرِّمُونَهُ؟ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فتُحِلُّونَهُ؟ فقالَ عَدِيٌّ: بَلَى؛ فقَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ"!!
كيف يُمكِنُ أن نَتقارَبَ -دِينياً- مَعَ قَومٍ يُجيزُونَ (البَدَاءَ) على اللهِ -جَلَّ وعَلَا- بمَعنَى ظُهورِ الأَمْرِ له بَعدَ خَفائِه، أو تَجَدُّدِ العِلمِ له بتَجَدُّدِ الأحداثِ؛ فيَرَوْنَه -جَلَّ وعَلَا- يُقَدِّرُ قَدَرَاً ثُمَّ يَرجِعُ عنه إنْ ظَهَرَ له خِلافُه -تَعالَى اللهُ عمَّا يَقولُونَ عُلُواً كَبيراً-.. وهي عقيدةٌ يهوديةٌ في الأصلِ ظَهَرَتْ عِندَهم أَوَّلَ ما ظَهَرَتْ على يَدِ المُختارِ الثَّقفيِّ الذي كانَ يَتنَبَّأُ لأَتْبَاعِهِ بالأَحداثِ قَبْلَ وُقوعِها؛ فإنْ حَدَثَتْ عَظُمَ في أَعيُنِهم، وإن لم تَحدُثْ قال لهم: (لقد بَدَا لرَبِّكم بَدْوَةٌ)؛ أي: ظَهَرَ للهِ -جَلَّ وعلا- أَمرٌ فغَيَّرَ قَدَرَه.. ثُم اتَّسَعَتْ هذه العَقيدةُ عِندَهم فاسْتَخَدَمَها كِبارُ كَذَّابِيهم -وكُلُّهم كَذَّابٌ- في تَبريرِ كَذِبِ تَنبُّؤَاتِهم لأَتباعِهم عن زَمنِ ظُهورِ مَهْدِيِّهم المَزعومِ.. وهذه العَقيدةُ الكُفريةُ يَعتبرُها بَعضُهم مِن لَوازمِ الإِيمانِ، ثُم يُفسِّرُونها تَفسيراتٍ مُراوغةً تَقِيَّةً وكَذِبًا!!
كيف يُمكِنُ أن نَتقارَبَ -دِينياً- مَعَ قَومٍ يُؤمِنون بـ (رَجْعَةِ) كَثيرٍ من الأمواتِ في الدُّنيا قَبْلَ الآخِرةِ، ويَرَوْنَها من وَاجباتِ الدِّينِ وضَرورِيَّاتِه ومَحَلِّ الإجماعِ والتَّواتُرِ.. وهي عَقيدةٌ يَهوديَّةٌ أيضاً قال بها ابنُ سَبَأٍ قَدِيماً وحَصَرَها في رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-، ثُم في عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عنه-، ثُم انْداحَ أَمرُها واتَّسَعَ حتَّى أَعطَوْها لكثيرٍ من أَئمَّتِهم وبَعضِ صَالحِيهم وفَاسِدِيهم على حَدٍّ سَواءٍ.. ثُم أَلْصَقُوها بالمَهديِّ الذي يُسَمُّونه قائمَ آلِ مُحمَّدٍ، والذي سيَعودُ آخِرَ الزَّمانِ ليَنتَقِمَ مِن العربِ عَامةً وقُريشٍ خاصَّةً، ويُخرِجَ جَثَامِينَ عَائشةَ وأبي بكرٍ وعُمرَ -رَضِيَ اللهُ عنهم-؛ فيَرجُمَ عائشةَ حَدَّ الزِّنا، ويَصلِبَ أَبا بكرٍ وعُمرَ، ثُم يُحرِقَهما، ويَقطَعَ أَيادي بَنِي شَيْبَةَ سَدَنَةِ الكَعبةِ، ويُحيي خَمسَ مئةٍ من قُريشٍ فيَضرِبَ أَعناقَهم، ثُم خمسَ مئةٍ فيَضرِبَ أَعناقَهم، ثُم خَمسَ مئةٍ فيَضرِبَ أَعناقَهم.. يَفعَلُ ذلك سِتَّ مَرَّاتٍ؛ كما ذَكَرَ شَيخُ طائفتِهم (المفيد) في كتابِه (الإرشاد)، و(النعماني) في كتابه (الغَيبة).
كيف يُمكِنُ أنْ نَتقارَبَ -دِينياً- مَعَ قومٍ يُكَفِّرونَ الصَّحابةَ جَميعاً عدا ثلاثةٍ أو أربعةٍ أو ستةٍ -على خلافٍ بينَهم في العددِ لَعَنَهم اللهُ- ويَرَوْن المُهاجِرِينَ والأَنصارَ كُفَّاراً رَفَضُوا إِمامةَ عليٍّ، وحَرَّفُوا القُرآنَ، وبَدَّلوا الدِّينَ، وغَيَّرُوا الشَّريعةَ، واتَّبعُوا أَهواءَهم، ويُسَمُّون أبا بَكرٍ وعُمرَ صَنَمَيْ قُريشٍ ويَلعَنُونَهما في سُجودِهم، ويُكَفِّرونهما ويُكفِّرون مَن يُحِبُّهما، وأنَّ من يَرى لهما حَظاً في الإِسلامِ فهو من الثلاثةِ الذين لا يُكَلِّمُهُم اللهُ يومَ القيامةِ ولا يَنظُرُ إليهم ولهم عذابٌ أليمٌ، وأنَّ عَذابَ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عنه- يَومَ القيامةِ سيَكونُ أَشَدَّ مِن عَذابِ إِبليسَ الذي سَيُغَلُّ بسَبعين غُلاً من حَديدِ جَهَنَّمَ؛ بينما سيُغَلُّ عُمرُ بمئةٍ وعشرين غُلاً.. أمَّا عائشةُ وحَفصةُ -رَضِيَ اللهُ عنهما- فهما مَلعونَتانِ عِندَهم يَرَى بَعضُهم أنَّهما اتَّفَقَتا مَعَ أَبَوَيْهما أبي بكرٍ وعُمرَ على قَتْلِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- بالسُّمِّ!!
كيف يُمكِنُ أن نَتقارَبَ -دِينياً- مَعَ قومٍ يُكفِّرونَ المُسلمين جميعاً ويَرَوْنَ نَجاسَتَهم، ويُسَمُّونهم (نَواصِبَ)، ويُفتونَ لأَتباعِهم بحِلِّ دِمائِهم وأَموالِهم، وجَوازِ تَغريقِهم أو تَحريقِهم أو سَمِّهم أو هَدْمِ الحوائطِ عليهم، شَريطَةَ أنْ يَكونَ ذلك في السِّرِّ -إنْ كانَ النِّظامُ الحَاكمُ سُنيَّاً- حتَّى لا يَتأذَّى الشِّيعيُّ أو يُحاكَمَ.. وقد جَزَمَ (كمال الحيدري) -وهو مَرجعٌ شِيعيٌّ عِراقيٌّ مُعاصِرٌ- في تسجيلٍ مُصوَّرٍ له أنَّ جَميعَ عُلماءِ الشِّيعةِ اتَّفَقُوا على أنَّ جَميعَ أَهلِ السُّنَّةِ كُفارٌ لا يُحسَبون من المُسلِمِين.. وقد وَصَلَ الأمرُ بالخُمَيْنِيِّ نَفْسِه إلى مَدحِ شَخصِيَّتَينِ تَاريخِيَّتَينِ أَقامَتَا المَذابحَ للمُسلمِينَ؛ هما: (علي بن يَقطينَ) الذي أَحسَنَ هَارونُ الرَّشيدُ الظَّنَّ فيه فوَلَّاه الوزارةَ فهَدَمَ السِّجنِ على خمسِ مئةٍ من أَهلِ السُّنَّةِ، و(نصير الدين الطوسي) وزير هولاكو الذي أَدارَ مَعَ (ابنِ العلقميِّ) مَجزرةَ التَّتارِ في بَغدادَ.. قَالَ الخُمَيْنِيُّ في كتابِه المعروفِ (الحكومةُ الإسلاميَّةُ): "وإذا كَانَتْ ظُروفُ التَّقِيَّةِ تُلْزِمُ أَحَداً مِنَّا بالدُّخولِ في رَكْبِ السَّلاطينِ فهنا يَجِبُ الِامتناعُ عن ذلك حتَّى لو أَدَّى الامتناعُ إلى قَتْلِه، إلَّا أنْ يَكونَ في دُخولِه الشَّكليِّ نَصرٌ حَقيقيٌّ للإِسلامِ والمُسلمينَ مِثْلُ دُخولِ عليِّ بنِ يَقطينَ ونصيرِ الدِّينِ الطُّوسيِّ -رَحِمَهما اللهُ-".. فالخُمينيُّ يَرَى أنَّ ما فَعَلَه ابنُ يَقطينَ بقَتْلِ المَساجينِ المُسلمينَ غِيلةً وغَدْراً، وما فَعَلَه الطُّوسيُّ بتَزْيِينِه مَذْبَحَةَ بَغدادَ لهُولاكو؛ نصرٌ للإسلامِ والمُسلمينَ، ويَمْدَحُهما على ذلك، ويَمنَعُ دُخُولَ الشِّيعيِّ في رَكْبِ السَّلاطينِ، إلَّا إذا كان دُخولُه سيُحدِثُ للمُسلمِينَ هذه المَجازرَ وأَمْثالَها.. ولَعَلَّ ذلك يَضَعُ أَيدِيَنا على الأَصلِ الدِّينيِّ لهذه المَجازرِ التي قَامُوا ويَقومُون بها اليَومَ في الشَّامِ والعِراقِ واليَمنِ!!
كُلُّ هذا الجُنونِ الكُفريِّ أو الكُفرِ المَجنونِ -إنْ صَحَّ أن يَكونَ الكُفرُ جُنوناً- يَتضَاءَلُ أَمامَ مُعتَقَدِ (التَّقِيَّةِ) الأَشدِّ بشاعةً والأكثرِ انحطاطاً، لا لأنَّ التَّقِيَّةَ أَعظمُ كُفراً من كُفْرِيَّاتِهم سَالِفَةِ الذِّكْرِ؛ بل لأنَّها المُعتقدُ الذي يَجعَلُ أَجرَ إنكارِ الدِّينِ ظَاهراً؛ أَعظمَ من أَجْرِ إِثباتِه بَاطِناً؛ فهم يَرَوْنَ أنَّ تِسعَةَ أَعشارِ دِينِهم في التَّقيَّةِ، وأنَّ تَاركِهَا كتَارِكِ الصَّلاةِ، وأنَّه لا إِيمانَ لمن لا تَقِيَّةَ له، ولا يَجُوزُ تَركُ هذه التَّقِيَّةِ إلى أن يَخرُجَ قَائِمُ آلِ مُحمَّدٍ من سِردابِه ليَسفِكَ دِماءَ العَربِ عَامَّةً ودِماءَ قُريشٍ خَاصَّةً، ومَن تَرَكَها قَبْلَ خُروجِه؛ فقد خَرَجَ عن دِينِ اللهِ تعالى ودِينِ الإِماميَّةِ، وخَالَفَ اللهَ ورَسولَه والأَئمَّةَ.
وهذه التَّقِيَّةُ ليسَتْ هي التَّقِيَّةَ التي أَباحَهَا اللهُ -جَلَّ وعلا- للمُكَرهِ في قَولِه تعالى: "إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ"، ولا هي التي أَباحَها رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- لعَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ -رَضِيَ اللهُ عنه- حِينَ أَشرَفَ على الهَلاكِ تَحتَ التَّعذيبِ؛ عَملاً بقولِه تعالى: "إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً"؛ بل هي تَقِيَّةُ اسْتِحلالِ الكَذِبِ والخِداعِ والمُراوغةِ لإِخفاءِ المُعتَقَدِ دُونَ اضطِرارٍ أو إِكراهٍ.. وهي بهذه الصُّورةِ لا تَدُلُّ على شَيءٍ قَدْرَ دَلَالَتِها على انْعِدامِ الشَّرفِ وسُقوطِ المُروءةِ؛ فإنَّ الشَّريفَ ذا المُروءةِ يَأنَفُ مِن أنْ يَتَلَبَّسَ مَرةً واحدةً بالكذبِ أو الخِداعِ جُبناً دُونَ اضطِرارٍ مُهلكٍ؛ فكيف بمَن يَقضِي حَياتَه كُلَّها كاذباً ومُخادعاً ومُراوغاً دُونَ اضطرارٍ أو إِكراهٍ؛ ثُم يَرى ذلك ديناً يَتقرَّبُ إلى اللهِ به!!
وأنا لا أَجِدُ تَعريفاً للتَّقِيَّةِ -بحَسَبِ مَآلِها الوَاقعيِّ- أَصدقَ مِن كَوْنِها: (المُعتَقَدَ الذي يُنْكِرُ به الشِّيعةُ المُعتَقَدَ)؛ فإنَّك لا تَكادُ تُناقِشُ شِيعياً في مُعتقداتِه سَالِفَةِ الذِّكرِ إلَّا ويُنكِرُها كُلَّهَا واحداً واحداً أَشدَّ الإنكارِ، أو يُؤَوِّلُها على غَيرِ وَجهِها عِندَهم، ثُم لا يَشعُرُ بأَدنى تَأثُّمٍ أو وَخْزِ ضَمِيرٍ؛ بل ويَرَى إِنكارَها -أَمَامَكَ ظَاهراً- دِيناً يَتعَبَّدُ اللهَ به؛ تَماماً كما يَرَى الإِيمانَ بها -بَاطناً- دِيناً يَتَعَبَّدُ اللهَ به.. فهو يَتَرَضَّى أَمامَك عن الصَّحْبِ الكِرامِ، ويُنكرُ -أو يُؤَوِّلُ- مَعنى العِصمةِ والإِمامةِ، ويَسخَرُ من البَداءِ والرَّجعةِ، ويُظهِرُ الفَزَعَ والهَلَعَ إذا حَدَّثْتَه عن عَقيدَتِهم في تَحريفِ القُرآنِ، ويَرفُضُ أَشَدَّ الرَّفضِ عِلمَ الأَئِمَّةِ للغَيْبِ.. ثم هو عِندَ نَفْسِه -بَعدَ كُلِّ هذا الكَذِبِ- مَأجورٌ على كُلِّ هذا الكَذِبِ؛ لأنَّه أَجْرَى مُعتَقَدَ التَّقِيَّةِ في الظَّاهِرِ، كما -هو عِندَ نَفْسِه أيضاً- مَأجورٌ على صِدقِه مَعَ نَفْسِه؛ لأنَّه أَجرَى مُعتقداتِه الأُخرى في البَاطنِ؛ فهو مَأجورٌ في الحَالتَينِ صَادقاً وكاذباً؛ بل هو مَأجورٌ صَادقاً مَرَّةً، ومَأجورٌ كاذباً تِسْعَ مَرَّاتٍ.. فلا يُمكنُكَ -والحالُ هذه- إلَّا أن تُسلِّمَ بإِسلامِهم.. فإنْ كانَ عِندَك أَثارةٌ من عِلمٍ بحَقيقةِ عَقائِدِهم لم يَسَعْكَ أَيضاً إلَّا أن تَحْمِلَهم على ظَاهِرِهم وتَكِلَ سَرَائِرَهم إلى اللهِ، ثُم تُنكِرَ أَشَدَّ الإنكارِ على من يُكَفِّرُهم -بحَسَبِ ما يَعرِفُ مِن مُعتقَدَاتِهم الكُفريَّةِ-؛ اعتماداً منك على ظَاهِرِهم الذي أَظْهَرُوه لك تَقِيَّةً وخِداعاً.
وبهذا وأَمثالِه خَدعُوا كَثيراً من عُلماءِ المُسلمِين الطَّيِّبِينَ، (واسْتَحمَرُوا) كثيراً من أَدعِياءِ الثَّقافةِ الإِسلامِيِّين.. وما يَزالُ بَعضُ هؤلاءِ الأَدعياءِ -رَغمَ اطِّلاعِهم على كُلِّ هذه الكُفرِيَّاتِ ومُعاصَرَتِهم لكُلِّ هذه المَجازرِ- يُهوِّنون مِن خِلافِ المُسلمِينَ مَعَ الشِّيعةِ وإِيرانَ، ويَمدَحُون قَادَتَهم المُجرِمين ودَولتَهم العَدُوَّةَ؛ مُتَعَلِّلِينَ بالمَصلحةِ حِيناً وبالوَاقعيةِ السِّياسيَّةِ أَحياناً، فإذا دَعَوْناهم إلى رَفعِ غَمامَةِ ثَوْرِ السَّاقِيَةِ عن عُيونِهم، ونَبَّهْنَاهم إلى الأَصلِ الكُفريِّ الذي انطَلَقَ مِنه الشِّيعةُ قَديماً وحَديثاً، وإلى الوَاقعِ الدَّمويِّ الذي أَدارُوه علينا قَديماً وحَديثاً؛ جَعَلُوا أَصابِعَهم في آذانِهم واسْتَغْشَوْا ثِيابَهم وأَصَرُّوا واسْتَكْبَروا اسْتِكْبَارا، ثُم اتَّهَمُونا بالتَّشدُّدِ والتَّكفيرِ والطَّائفيةِ والخَارجيةِ والوَهَّابِيَّةِ ونَبْشِ المَاضي، وتَقَيَّؤُوا على مَسامِعِنا اختِلافَ العُلماءِ حَوْلَ الشِّيعةِ وأَنواعِهم وطَوَائِفِهم، ومَنْ يَكفرُ منهم ومَن لا يَكفُرُ، وهم يَعلَمُون -قَبْل غَيْرِهم- مَنْ نَقصِدُ ومَاذا نَقصِدُ، ولكنَّه الهوى النَّاتجُ عن عَمَى البَصيرةِ، والتَّبعيَّةِ، والمَصالحِ!!
***
ليسَ للشِّيعةِ عدوٌّ دائمٌ سوى المُسلمِينَ.. ومَنْ قَرَأَ تاريخَ الشِّيعةِ عَلِمَ أنَّ الشِّيعيَّ لا يَصنعُ سَيفاً إلَّا ليَطعُنَ به المُسلمين، ولا رَصَاصَةً إلَّا لِيُطلِقَهَا على المُسلمِينَ، ولا قُنبلةً إلَّا لِيُفَجِّرَ بها المُسلمينَ.. وَمَا مِن دَولةٍ شِيعيَّةٍ قَامَتْ -قَديماً أو حَديثاً- إلَّا وجَعلَتْ هَمَّهَا الأَوَّلَ عَداوةَ المُسلمِينَ؛ حتَّى كَأنَّه لا عَمَلَ للشِّيعةِ في الدُّنيا سِوَى قَتْلِ المُسلمِينَ أو الإِعانةِ على قَتْلِهم!!
إذا تَسلَّطَ الشِّيعيُّ بَدَأتِ المَجزرةُ.. هذا ما يُخبِرُنا به التَّاريخُ المَاضي والواقعُ الحَاضرُ.. ومُشكلتُنا مَعَ الشِّيعةِ (الآنَ) ليسَتْ في الكُفرِ والإِيمانِ فقط؛ بل في القَتلِ والتَّدميرِ أيضاً.. نَحنُ لَسْنا في مُؤتمرٍ؛ بل في مَجزرةٍ.. ومَنْ يُهَوِّنُ من الخِلافِ الشِّيعيِّ مَعَ المُسلمِينَ، أو يَغُضُّ الطَّرْفَ عن جَرائِمِهم؛ مُتَّكِئاً على ما يُسَمِّيها الوَاقعيَّةَ السِّياسيَّةَ، أو مُنطلقاً مِن مِثاليَّةٍ حَمقاءَ مُضحِكَةٍ تَنشُدُ التَّقريبَ والتَّجمُّعَ والوَحدةَ مَعَ القَتَلَةِ والمُجرمِينَ؛ كان كالَّذي يُعَرِّضُ طِفلَه للذَّبحِ، وعِرضَه للِانتهاكِ، ومَالَه للسَّلْبِ، ودَمَهُ للسَّفكِ!!
لقد وقف العربُ والمسلمون (شعوباً وجماعاتٍ وبعضَ أنظمة) مع الثورة الإيرانية وناصروها.. لم يقتصر الأمر على جماعة الإخوان المسلمين.. الجهاديون العقائديون خُدعوا أيضاً بظاهر الخميني ومَن معه من الملالي ، وكثيرٌ منهم- ومِن الجماعات الإسلامية- أحسنوا الظنَّ في إيران وغضوا الطرف عن بشاعة معتقداتها، وظنوا أنَّ الأمر محصور في السياسة القائمة على المصالح.. أما حزب الشيطان الإيراني في لبنان فحسبي أن أُذَكِّرَ الناس بصور حسن نصر الله التي كانت تملاً ميادين كثيرٍ من عواصم البلدان العربية إباَّن حربه المزعومة مع إسرائيل.. سأذكركم أيضاً بكلمة مهدي عاكف غفر الله له حين قال:" إننا على استعداد لإرسال عشرة آلاف مقاتل لنصرة حزب الله."!!
لقد كانوا معهم ظناً مِنْهُم أنَّهُم مِنْهُم؛ بيد أنه حين جَدَّ الجِد ورغبت الشعوب العربية في التحرر من نير حكامهم اللصوص؛ ظهر الشيعةُ على حقيقتهم؛ فَرَدُّوا الجميلَ للمسلمين جميعاً في صورةِ مجازر مهولة تأنف من ارتكابها الوحوش، وتعاونوا مع كل الملل والنِّحَلِ ضد المسلمين؛ حتى اعترف حسن نصر الله في لقاء تلفزيوني أنَّ (قاسم سليماني) طار إلى روسيا بعد نجاح الموجة الأولى من الثورة السورية، وقضى مع (بوتين) ساعتين كاملتين ليقنعه بالتدخل العسكري المباشر في سوريا؛ ليتقاسم كفارُ الروس مع كفار الفرس مناطقَ النفوذ في (أكناف بيت المقدس).. ذلك البيت الذي أصبح (سليماني) شَهِيْدَهُ على لسانِ المنافقين المخذولين.
لم يقتل اليهودُ من المسلمين في ستين سنة عُشرَ ما قَتَلَ الشيعةُ من المسلمين في عشر سنوات، وإنْ كان اليهود قد غَيَّرُوا (دِيمُغْرَافِيَّةَ) فلسطين وحدها؛ فإن الشيعة قد غَيَّروا جغرافية الشام والعراق بالقصف والهدم، و(دِيمُغْرَافِيَّتِهِمَا) بالتهجير والإبعاد!!
ألا يستحي هؤلاء الذين لا يزالون يَدْعُونَ إلى التقريب مع الشيعةِ بعد كلِّ هذا الذي ظهر منهم؟!
ألا يستحي هؤلاء الذين يتهمون المحذرين من الشيعة بالطائفية والوهابية والخارجية ونبش الماضي وتجديد الأحقاد؟!
أيّ طائفيةٍ ووهابيةٍ وخارجيةٍ يا هؤلاء؟!
ليت المسلمين كُلَّهُم كذلك؛ إذن لحفظ اللهُ دماءَهم وأموالهم وأعراضهم بهذه الصفات التي نتمنى والله أن يتصفَّوا بها حين لا يجدون مندوحةً عنها.. نحن لسنا في مؤتمرٍ؛ بل في مجزرة!!
عَلامَ ننبشُ لكم الماضي وقد جاءكم الحاضرُ بأبشع مما مَرَّ على أجدادنا في الماضي؟!
علامَ نُحدِّثكم عن بشاعات دول القرامطة والبويهيين والفاطميين والصفويين، وقد جمع الخميني كلَّ أحقاد هذه الدول الغابرة وسَبَكَها سَبْكَاً في دولةٍ واحدة، ثم صَبَّها- هو وأتباعُه القتلة- على رؤوسنا جميعاً!!
أيُّ شيء تَغَيَّرَ في الشيعة دينياً وسياسياً لنتقارب معهم؟!
إنِّي والله لأستحي أن أكتبَ كلَّ هذا الكلام بعد كلِّ هذه المجازر.. ما كنتُ أظن أنَّ توضيح الواضحات يحتاج إلى كل هذا الجهد، أو أنَّ الشمسَ في رابعة النهار تحتاج إلى دليل!!
إنَّ هؤلاء الحمقى الذين يُصرون على خداع أنفسهم أولاً والمسلمين ثانياً بمصطلحاتٍ جوفاء عن واقعيةٍ سياسيةٍ لا يعرفون عنها إلا الاستسلام للواقع؛ لا يفعلون شيئاً سوى تبييض سواد وجوه الشيعة بدماء إخوانهم المسلمين، وإعادة تسويق أكاذيب الشيعة عن مقاومتهم المزعومة للنظام العالمي في الوقت الذي يتحالف فيه الشيعةُ مع النظام العالمي في قتل المسلمين وتقسيم بلادهم إلى مناطق نفوذ.. وما كان لإيران- ولا لقادتها التي يُرَوِّجُونَ لشجاعتهم وحنكتهم- أنْ تُحَقِّقَ كلَّ هذه الانتصارات دون ضوء أخضرٍ من النظام العالمي، ودون دَعمٍ عسكري مباشر من الصليبيين أمريكاناً وروساً وبريطانيين.. ومَنْ ظَنَّ غير ذلك فَليَسْتَرِحْ بجانبِ أمثالهِ من الحمقى الذين يَظنون أنَّ (السيسي) أَسَرَ قائدَ الأسطولِ الخامس الأمريكي وألقاه في السجن!!
***
لقد عاد الشيخ القرضاوي مِن (وادي الضِّباعِ) نَادمِاً على أكثر من ثلاثين سنة قضاها في وَهْمِ التقريب بين المسلمين والشيعة.. كما عاد من ذات الوادي الدكتور النفيسي، والدكتور محمد البهي، والشيخ موسى جارالله، والشيخ الكوثري، والشيخ محمد بهجت البيطار، والأستاذ مصطفى السباعي، والشيخ محمد عبد الطيف السبكي.. ومئاتٌ غيرهم لا يُمكن أن يَتَّهِمَهُم عاقلٌ بما يسمونها الوهابية أو الطائفية أو الخارجية أو العداء لآل البيت الكِرام.. فإن كَبُرتْ في نفسِكَ نَفسُكَ فَرَأَيْتَهَا أعلمَ مِن هؤلاء وأذكى مِن هؤلاء وأعقلَ مِن هؤلاء؛ فَدُوْنَكَ (وادي الضِّباع) لِتَكُونَ أَوْكَسَ الفريقين.. واعلم قبل ذلك أنه:
في طريقِه إلى جَحيمِ الدُّنيا يَتلَفَّعُ المُسلمُ الطَّيِّبُ بأَوهامِ التَّسامُحِ والتَّعايُشِ والوَحدةِ والتَّقريبِ؛ ليَصِلَ -مُكَبَّلاً بهذه الأوهامِ- إلى حافَّةِ المَجزرةِ!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق