الأربعاء، 28 يونيو 2023

من يحكم مصر.. الحاكم أم الجيش؟!

 من يحكم مصر.. الحاكم أم الجيش؟!

سليم عزوز 


أي كلام عن "ازدواجية الحكم" في مصر، هو محض بضاعة فاسدة للاستهلاك المحلي؛ فالجائع يحلم بسوق الخبز!

في الأسبوع الماضي أذيع على نطاق واسع، أن هناك خلافاً بين الفريق أسامة عسكر ورأس السلطة، وأن الأخير اتخذ قراراً بعزل الأول، وانتظرنا نشر القرار، حيث أن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها الوقوف على حقيقة قرار رئاسي صدر، هو النشر في الجريدة الرسمية، لكن دائماً فإن مثل هذا النوع من الشائعات يعتمد "خط الرجعة"، استناداً على أن تكذيباً لها لن يصدر من جهة الاختصاص، ومن ثم يقال إن رئيس أركان الجيش تمرد على القرار، وعليه تم الرجوع فيه والعدول عنه، وقد قرأت لمن يقول إن جهات أمريكية هي التي اعترضت عليه!

ولن تتوقف الشائعات من هذا النوع، فسوف ننام ونستيقظ على تأكيد جديد لوجود خلاف جديد، حتى إذا حدثت الاستقالة ذات مرة، تم اعتمادها على أنها تأكيد لما أثير عن وجود خلاف في حينه. ومثل هذه الشائعات ترددت في السابق عندما غاب وزير الدفاع الفريق محمد زكي عن بعض الاجتماعات التي حضرها السيسي، حتى إذا ظهر ذهبوا يفسّرون كل حركة بأنها تعبير عن وجود الخلاف. ولعل الرجل احتاط لذلك، فلم تعد تصدر منه ولو التفاتة يمكن أن تفسر على هذا النحو. ويعتمد من يرددون هذه الشائعات على أن ذاكرة الناس تنسى، أو أن العامة لديهم استعداد فطري لأن يبلعوا زلط من يحبون، والناس فيما يعشقون مذاهب!

هذا الكلام قائم على تصور خاطئ من البداية؛ بتصوير الحكم في مصر على أنه حكم المؤسسة العسكرية، وما الرئيس إلا مندوب المؤسسة التي هي بيدها عقدة الأمر، وأن دور الحاكم هو تسيير الأعمال، وقد يحضر "الأصيل"، فلا يكون هناك محل للإعراب لـ"الوكيل"، وهو تصور عززت منه "الأساطير" التي انتشرت بعد الثورة، عن دور الجيش في حماية الثورة، وطلبه من مبارك التنحي، وتأييده لكل ما حدث لأنه كان يرفض التوريث


مثل هذا الكلام قائم على تصور خاطئ من البداية؛ بتصوير الحكم في مصر على أنه حكم المؤسسة العسكرية، وما الرئيس إلا مندوب المؤسسة التي هي بيدها عقدة الأمر، وأن دور الحاكم هو تسيير الأعمال، وقد يحضر "الأصيل"، فلا يكون هناك محل للإعراب لـ"الوكيل"، وهو تصور عززت منه "الأساطير" التي انتشرت بعد الثورة، عن دور الجيش في حماية الثورة، وطلبه من مبارك التنحي، وتأييده لكل ما حدث لأنه كان يرفض التوريث!

ضد التوريث:

لا توجد أية إشارة يمكن أن تقوّي هذه الرواية التي يتم التعامل مع فصولها على أنها من المسلّمات، فلم يحدث أن خضعت للمناقشة الموضوعية، فلا نعرف أي تلميح لرفض التوريث تم رصده، والبعض قد يذهب إلى أن ضابطا كبيراً أسرّ له قبل الثورة بأنهم لن يسمحوا بتوريث الحكم، وأنهم سيقفون لمبارك بالمرصاد، ولا نعرف لماذا لم تذع هذه الروايات في الوقت المناسب، فعلى الأقل كانت نفوسنا ارتاحت، فلم نشارك في مظاهرات تهتف ضد التوريث، ويتعرض المشاركون فيها للتنكيل، دون أن يظهر لنا سند، أو يهمس في آذاننا أحد بأن ظهورنا ليست مكشوفة!

وإذا صحت هذه الروايات، فلماذا لم يتم حسابها على أنها شيء لزوم الشيء، فالمؤكد أن من بين أعضاء المجلس العسكري من كانوا يقولون للصحفيين في صرامة، إن مبارك هو قائدهم ولن يسمحوا بمحاكمته، ثم قُدم للمحاكمة على الوضع المزري الذي ظهر به، والمعنى أنه لم يكن يتلقى رسائل تطمئنه على نحو يمكن أن يدفعه لأن يكون صامداً كما صدام حسين في محاكمته! ومن أعضاء المجلس العسكري من قالوا إنهم لن يؤدوا التحية العسكرية لمدني، لكن مع هذا فاز الدكتور محمد مرسي وأدوا له التحية!

كل الأطراف كانت صاحبة مصلحة في اعتماد الرواية التي صُنعت في الشؤون المعنوية، أيضاً في اعتبار أنها شرعية ثورة يوليو 1952، ومن هنا يكون انتقال الحكم من مبارك للمجلس العسكري هو الوضع الطبيعي، والبعض اعتمد ذلك تأكيدا على أن الانقلاب العسكري في 3 تموز/ يوليو، هو عودة الحق لأهله، فالانقلاب كان على الانتخابات التي أفرزت أول رئيس مدني منتخب!

كما أن ما جرى برر للبعض من قوى سياسية من بينها تكتلات ما سمي بشباب الثورة، أن يذهبوا لاجتماعات المجلس العسكري مقصّرين ومحلّقين، بحثاً عن نفوذ، أو إثباتاً لمكانة، أو تخليقاً لدور، ولو أدى الأمر إلى إدخال الغش والتدليس على الناس، بتمرير رواية أن عصام شرف المعين رئيساً للحكومة، هو اختيار ميدان التحرير، وهو الذي كان عضواً في لجنة السياسات لآخر يوم في حياة اللجنة، وشارك في آخر اجتماع لها بينما كانت الثورة مشتعلة في الميادين!

حتى وصلنا لمرحلة السيسي، الذي استغل هذا كله في التأكيد على أنه خيار مؤسسة الجيش، صاحب الولاية في البلاد، مع أن نمط الاختيار الديمقراطي لم تعرفه هذه المؤسسة منذ أن اختارت اللواء محمد نجيب رئيساً لنادي الضباط، وسقوط مرشح الملك، ومن هناك كان استغلال مكانة نجيب ورمزيته كواجهة لحركة ضباط الجيش في سنة 1952!

وصلنا لمرحلة السيسي، الذي استغل هذه كله في التأكيد على أنه خيار مؤسسة الجيش، صاحب الولاية في البلاد، مع أن نمط الاختيار الديمقراطي لم تعرفه هذه المؤسسة منذ أن اختارت اللواء محمد نجيب رئيساً لنادي الضباط، وسقوط مرشح الملك، ومن هناك كان استغلال مكانة نجيب ورمزيته كواجهة لحركة ضباط الجيش في سنة 1952


ازدواجية السلطة أنهاها جمال عبد الناصر بالتخلص من المشير عبد الحكيم عام ورفاقه في مؤسسات القوة، ومن شمس بدران إلى صلاح نصر. وكان ناصر قد سلم صديقه الجيش، وبعد أن تخلص من صيغة "مجلس قيادة الثورة"، شكل "مجلس الرئاسة" ثم تجاوزه، وبدأ الخلاف يدب بينه وبين عبد الحكيم، ووصل به الحال إلى حد الخوف من انقلاب عسكري عليه، لأن الجيش كان خارج سيطرته، وقد تحول إلى حزب توزع في داخله المنشورات السياسية. وتمكنت فرقة من الحرس الجمهوري، من القبض على الجنرالات الكبار من رجال عبد الحكيم، وبعضهم كان يحيط ببيته، وعند المواجهة الحقيقية فليس بإمكان "الحرس الجمهوري" أن ينتصر في معركة مع الجيش، لكن كانت قوة عبد الناصر يستمدها من كونه صاحب القرار السياسي، وبجرة قلم يستطيع أن يعيّن ويعزل!

أبو غزالة ومبارك:

وإذا كان الحكم يستمد شرعيته من ثورة يوليو 1952، فلم تأت سنة 1968 إلا وعبد الناصر هو أساس الشرعية، التي استمرت مع السادات بصفته من الضباط الأحرار، ونائباً لعبد الناصر، ثم سرعان ما تجاوزها إلى شرعية نصر أكتوبر 1973. وجاء تعيين حسني مبارك تعبيراً عن هذه الشرعية الجديدة، فلما اغتيل السادات كان الوحيد الذي تبقّى من الضباط الأحرار في الحكم هو المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، والذي لم يكن بحاجة إلى من يذكّره بأن شرعية حركة الجيش انتهت، حتى وإن كان هو من يتولى المسؤولية عن مؤسسة القوة الأولى، كوزير للدفاع!

وفي صيف 1987، رفع وزير الداخلية زكي بدر تقريراً لمبارك يفيد وجود تنظيم سري داخل الجيش، فيأمر بالتعامل معه بدون إحاطة أبو غزالة علماً، وتم إلقاء القبض على عدد من الضباط، وكان هذا كاشفاً بأن مبارك يحكم مستنداً على وزارة الداخلية وأجهزتها المختلفة!

وإذ كان للمشير عبد الحكيم عامر شعبية كبيرة داخل الجيش، فالملاحظ أنها لم تتحرك للدفاع عنه، أو عن شمس بدران، أو مدير المخابرات العامة صلاح نصر! وبعد هذه المرحلة فإن شعبية أبو غزالة داخل الجيش لم تكن لتضاهى، لكن مبارك تمكن من عزله على غير إرادته، ليأتي اليوم الذي تعرض عليه جريدة "الاتحاد" الإماراتية أن يكتب مقالاً أسبوعياً، فيطلب الإذن بذلك بحسب التقاليد العسكرية، فلا يؤذن له بذلك، فيلتزم!

فأبو غزالة كان يدرك أن قوته يستمدها من وضعه الوظيفي، فإذا فقدَ الوظيفة، لن يمكنه أن يجابه رأس السلطة، كما أن مجابهته استناداً لموقعه ستعرّضه من البلاء ما لا يطيق!

عندما استقال وزير الحربية الفريق فوزي، في أزمة مراكز القوى والرئيس السادات، وأصدر أمراً لأحد قيادات الجيش، تلقى رداً غير جيد يخبره بأنه فقدَ صفته!

كان الفريق فوزي يقول قبل وفاته إنهم في أزمتهم مع السادات لم يضعوا في اعتبارهم "الحرس الجمهوري"، الذي هو جيش لا يتلقى الأوامر منه ولكن من رئيس الجمهورية!

والرئيس السادات هو صاحب قرار الحرب، وصاحب قرار السلام، وعندما تململت قيادة الجيش في الأولى عزل المتململين، وعرض على القيادة الجديدة قراره بالحرب فحاربوا، ثم ذهب للسلام فذهبوا معه، وإذ استقال وزراء مدنيون، فلم تقدم قيادة عسكرية استقالتها احتجاجاً على هذا التحول الذي قوبل برفض شعبي كبير، حتى وإن كان للوزير محمد عبد الغني الجمسي رأي مخالف، فقد أعلنه بعد تقاعده، وبعد رحيل السادات، في مذكراته، وذكره في لقاءات تلفزيونية!

فالعسكريون يتسمون بالانضباط، لا سيما إذا كانوا ينتمون لجيش محترف، وذلك على العكس من المدنيين الذين لهم "رأي سياسي"!

الشراكة في الحكم:

شعبية الجيش المصري استمدها من أنه كان بعيداً عن السياسة، فلم يكن جزءاً من المشاحنات السياسية، أو القمع السياسي، ولم يكن أداة من أدوات الحكم الذي كان يعتمد اعتماداً أساسياً على سياسييه وجهازه الأمني، وبنى جهاز المخابرات سمعته الوطنية بهذا البُعد عن أن يكون طرفاً في الخلافات السياسية كما كان في مرحلة التأسيس


وشعبية الجيش المصري استمدها من أنه كان بعيداً عن السياسة، فلم يكن جزءاً من المشاحنات السياسية، أو القمع السياسي، ولم يكن أداة من أدوات الحكم الذي كان يعتمد اعتماداً أساسياً على سياسييه وجهازه الأمني، وبنى جهاز المخابرات سمعته الوطنية بهذا البُعد عن أن يكون طرفاً في الخلافات السياسية كما كان في مرحلة التأسيس، وتعجب بعد الحملة القاسية في عهد عبد الناصر التي أخذت عنوان "انحرافات جهاز المخابرات"، أن ينجح في بناء هذه السمعة الطيبة بهذه السرعة، ولم تكن القضية إلا تعبيراً عن صراع على السلطة بين جمال عبد الناصر من ناحية وعبد الحكيم عامر من ناحية أخرى. بعد موت عبد الناصر نُشرت مذكرات سياسيين عن التعذيب الذي تعرضوا له في الجهاز وفي حضور صلاح نصر نفسه، وكان ملف التعذيب قد أبعد عن المحاكمة، والتركيز على ما عرف بـ "العمليات القذرة" المرتبطة بتوظيف النساء في مثل هذه الأعمال!

لقد حكم السادات باعتباره أحد الضباط الأحرار، وحكم مبارك استناداً لانتصار أكتوبر، وهما وإن كانا عسكريين (عمل السادات خمس سنوات متفرقات في الجيش)، إلا أن المؤسسة العسكرية لم تكن شريكاً لهما في الحكم، أو صاحبة قرار سياسي.

وفي كل الأحوال فإن الرئيس هو صاحب السلطة الأعلى، يرفع ويخفض، ويعين ويعزل، وكل ما تردد مؤخراً هو خلاف المنطق، فهل يعقل أن يصدر صاحب هذه السلطة قرارا كهذا ثم يتراجع فيه بعد ضغوط داخلية أو خارجية؟ إنه يكون قد سلّم بوجود رأسين في الحكم، وهي مسألة لا يمكن التسليم بها مهما كان الثمن، ولا ثمن هناك، إن الثمن سيكون إذا لم يستخدم صلاحياته، وبعض الأمور لا تقبل أنصاف الحلول، فأنصافهما مهلكة!

إن السادات بكل ما عُرف عنه من تقريب لكل من أسدى له في يوم من الأيام معروفاً، فأحدث لعوائل في المحافظات أوضاعاً في مجتمعاتهم لمجرد أنهم أحسنوا إليه في وقت هروبه، يقوم بعزل الجمسي الذي تصدى لانتفاضة الخبز، وبعد أن كان قد وُعد بأنه وزير الحربية مدى الحياة. كما أنه عزل قائد الحرس الجمهوري الليثي ناصف، الذي هتف في معركة السادات مع مراكز القوى: مع الشرعية يا ريس!

وهذا العزل كان لأنه بدأ يتحلل من مظهر الضبط والربط في هندامه العسكري أمام السادات، وكأن الرؤوس قد تساوت!

لقد عزل السيسي وزير الدفاع الذي شاركه في الانقلاب، كما عزل وزير الداخلية الشريك في الانقلاب أيضاً، وأي صورة مغايرة يتحدث عنها البعض الآن، هي محض خيال، لدغدغة المشاعر الجياشة للعامة!

كفى!

twitter.com/selimazouz1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق