ترامب رئيسا لأميركا.. مرة أخرى
رغم رحيله عن البيت الأبيض قبل عامين ونصف العام، فإن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لا يزال يملأ الدنيا ويشغل الناس في أميركا وخارجها، وذلك بسبب الملاحقات القضائية التي يتعرض لها؛ فالرجل يواجه لائحتي اتهام جنائيتين، إحداهما تشمل 34 اتهاما وجهها له المدعي العام في ولاية نيويورك ألفين براغ في أبريل/نيسان الماضي، وتضم تزوير سجلات تجارية وشراء صمت ممثلة الإباحية أثناء حملته الانتخابية عام 2016.
ما كان لترامب أن يصل إلى هذا المستوى من الثقة والغرور بقدرته على استباحة المؤسسات والأعراف الأميركية لولا وجود تيار شعبي يدعمه ويراه بطلاً ومنقذًا؛ وبالتالي فنحن لسنا إزاء شخص بقدر ما نحن نتعامل مع حالة أو ظاهرة يسميها البعض "الترامبية"
اللائحة الثانية وجهها له المحقق الخاص جاك سميث بولاية فلوريدا، وتشمل 37 اتهاما؛ أهمها الاحتفاظ بوثائق رسمية سرية، ورفض تسليمها للجهات المختصة، وإصدار بيانات مضللة من أجل تعطيل العدالة في بعض القضايا أثناء توليه السلطة، وذلك بمخالفة قانوني السجلات الرئاسية لعام 1978، وكذلك قانون مكافحة التجسس الذي صدر قبل قرن ونيف. أي أن ترامب يواجه ما يقرب من 71 تهمة جنائية، وهي سابقة لم تحدث مطلقا في تاريخ أميركا الممتد على مدار ما يقرب من قرنين ونصف القرن.
ولا يبدو الأمر غريبا بالنسبة لشخصية مثل ترامب الذي كان أول رئيس أميركي في التاريخ تجري محاولة عزله مرتين عبر الكونغرس أثناء فترته الرئاسية، وهو كذلك أول رئيس أميركي لا يعترف بخسارته في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2020، ولا يزال يصرّ حتى الآن على أنه تم تزويرها.
هو أيضا أول رئيس أميركي يحرّض أنصاره على اقتحام الكونغرس الأميركي من أجل منع أعضائه من التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية، وهو ما نتج عنه كثير من الفوضى والاضطراب في السادس من يناير/كانون الثاني 2021.
هو أيضا أول رئيس أميركي يرفض الكشف عن ذمته المالية وسجلاته الضريبية، وهو الآن يعد أول رئيس أميركي يتحدى القانون ويرفض تطبيقه، بل ويتهم خصومه من الديمقراطيين بتسييس القضاء من أجل الإيقاع به.
ورغم كل ما سبق، فإن ترامب يظل المرشح الرئاسي الأوفر حظًا للفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة عام 2024، خاصة أنه يتصدر السباق الانتخابي الجمهوري وبفارق كبير عن أقرب منافسيه وهو "رون ديسانتيس" حاكم ولاية فلوريدا.
نحن إذا إزاء شخصية غير تقليدية في التاريخ السياسي الأميركي لا تحترم قواعده وتقاليده، بل على العكس من ذلك يسعى ترامب إلى كسر المألوف من هذه القواعد والتقاليد بكافة الطرق.
وحقيقة الأمر أنه ما كان لترامب أن يصل إلى هذا المستوى من الثقة والغرور بقدرته على استباحة المؤسسات والأعراف الأميركية لولا وجود تيار شعبي يدعمه ويراه بطلاً ومنقذًا؛ وبالتالي فنحن لسنا إزاء شخص بقدر ما نحن نتعامل مع حالة أو ظاهرة يسميها البعض "الترامبية".
الترامبية ظاهرة نشأت وترعرت طيلة العقدين الماضيين نتيجة عدد من السياسات التي طبقها الديمقراطيون حين كانوا في السلطة تحت إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما. ومن أبرز سمات الترامبيين التي يجسدها ترامب -في خطابه على الأقل- هو فقدان الثقة في الحكومة المركزية، ومناصبتها العداء بشكل كبير، والرفض الكبير للطبقة السياسية التقليدية بكافة مكوناتها الديمقراطية والجمهورية، ناهيك عن رفض المهاجرين والعداء للأجانب (الزينوفوبيا)، والتشدد في برامج الرعاية الاجتماعية، والسعي لتقليل دور الحكومة الفدرالية في إدارة شؤون الاقتصاد والولايات.
على عكس ما قد يرى البعض، فإن محاكمات ترامب ليست أمرا سيئا بالنسبة له، وإنما جاءت هدية على طبق من ذهب كي تحيي آماله في أن يصبح الرئيس القادم لأميركا؛ فالرجل كان قد خسر جزءا معتبرا من شعبيته داخل الأوساط الجمهورية، خاصة بعد فشل ما كان يروّج له بوصفه "الموجة الحمراء" خلال انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي، التي كانت تعني اكتساح الجمهوريين غرفتي الكونغرس (النواب والشيوخ) في الانتخابات التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وهو ما لم يحدث حيث احتفظ الديمقراطيون بمجلس الشيوخ، وفاز الجمهوريون بمجلس النواب بشّق الأنفس، وبفارق بسيط عن الديمقراطيين الذين رأوا ذلك نصرًا مبينًا.
لذا فإن ترامب قد نجح -ولا يزال- في استثمار محاكماته، وتوظيفها بشكل إيجابي لصالح حملته الانتخابية، وهو ما حدث على عدة أوجه:
- أولا: تحفيز قاعدة الحزب الجمهوري لدعمه بوصفه "ضحية" للدولة الأميركية ومؤسساتها، خاصة وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي). والترويج لأنه يتعرض لمؤامرة من الديمقراطيين الذين يخشون عودته للبيت الأبيض. وعلى ما يبدو فإن خطاب المظلومية هذا يجد صدى ومردودا كبيرين لدى مؤيديه من الجمهوريين الذين يعتقد ما يقرب من 80% منهم بأن محاكمات ترامب تجري لدوافع سياسية، وذلك حسب آخر استطلاع للرأي أجرته وكالة رويترز الأسبوع الماضي.
- ثانيًا: زيادة التبرعات لحملته الانتخابية؛ فقد نجح ترامب في جمع ما يقرب من 34 مليون دولار خلال الشهور الأربعة من العام الجاري، منها نحو 4 ملايين عشية إعلان لائحة الاتهامات ضده في ولاية نيويورك. ومن المتوقع أن تزداد حصيلة هذه التبرعات خلال الأسابيع المقبلة، وذلك كلما زادت القضايا والاتهامات الموجهة له.
- ثالثًا: زيادة الفارق بينه وبين منافسه في الحزب الجمهوري رون ديسانتيس بشكل كبير؛ فحسب استطلاع وكالة رويترز الذي أجرته الأسبوع الماضي فإن نحو 43% من الجمهوريين سيصوتون لترامب في الانتخابات المقبلة مقابل 22% لصالح ديسانتيس، وهي نسبة تكاد تصل إلى الضعف تقريبا.
- رابعًا: الضغط بشكل أكبر على الرئيس جو بايدن الذي يعد -حتى الآن- المرشح الأساسي لخوض الانتخابات الرئاسية عن الحزب الديمقراطي. وقد استفاد ترامب من هذه المحاكمات في اتهام بايدن بالوقوف وراءها خوفا من هزيمته في الانتخابات القادمة.
ولذلك فإن السؤال الملّح الآن هو: هل بإمكان ترامب أن يصبح رئيسا لأميركا في حال تمت إدانته وسجنه؟ والإجابة هي: نعم.
من الناحية الدستورية هناك 3 شروط للترشح للرئاسية:
- أولها: أن يكون المرشح مولودا على الأراضي الأميركية.
- وثانيها: أن يكون قضى عليها مدة لا تقل عن 14 عاما.
- ثالثها: ألا يكون عمره أقل من 35 عاما عن الترشح للرئاسة.
هذه الشروط الثلاثة تنطبق على ترامب؛ وبالتالي فمن حقه أن يترشح للرئاسة ولا يوجد ما يحول بينه وبين ذلك، بل هناك كلام كثير حول حقه في أن يدير البلاد وهو رئيس من وراء القضبان، في حين يرى البعض أن بإمكانه أن يصدر قرارا بالعفو عن نفسه إذا أصبح رئيسا، وهي مسألة لم تحدث من قبل في التاريخ الأميركي.
وأغلب الظن أن ترامب إذا استمر في خوض الانتخابات الرئاسية، فإنه سيفوز بها، وذلك مقابل بايدن الذي جاء أداؤه السياسي والاقتصادي على مدار أكثر من عامين مخيباً لكثير من الآمال؛ ولذلك فإن ترامب قد يصبح الرئيس القادم لأميركا.. مرة أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق