الموت الشريف
أحمد البقري
قد يموت أحدهم في قصر والناس يلعنونه، وقد يموت على شفا رصيف والناس يمدحونه ويشهدون له بالصلاح والخير، فحب الناس ليس مرتبطا بالمكان بقدر ما هو مرتبط بالإنسان، والخلق شهود الحق كما يقولون.
لكل من الناس نهاية كما كانت للجميع بداية، وما أقرب المسافة بين هاتين النقطتين لولا أمل الناس في غد طويل، وفي الأخير تأتي النهاية التي ترسمها طريقة السير ما بين النقطتين.
لم يكن محمد مرسي إلا رجلا رأى الحق فاتبعه، تولى حكم مصر -وقل عن أدائه في الحكم ما شئت- لكنه حاول ألا يظلم، وألا يأكل حق أحد من شعبه، فرآه بعض الناس ضعيفا، لكنه وبمقياس الحقيقة المتجردة عفيفا.
انقلب العساكر على الرجل الذي لم يلبث في كرسي الحكم إلا عاما واحدا، فحبسوه وحاكموه بتهم لا ترقى لوصف ملفقة حتى، فما أدانوه في نقيصة أو سرقة أو قتل.. بل أدانوه بتهم هلامية لا يمكن الإحاطة بحقيقتها، فكيف تحكم على رجل قد برّأه خصمه، أو قل إن شئت لم يستطع أعدى أعدائه إلحاق نقيصة به؛ تهمة أو حُكما؟
الموت فاصل، والناس عند لحظة ارتقاء الروح شهود، وما شهد أحد لمرسي في موته غير أنه مات مظلوما على بلاط محكمة جائرة، نُصبت له بدون تهمة أو ذنب.
هل تعرفون الفضل بن مروان؟ لقد كان وزير الخليفة المعتصم، عيّنه فاستبد وظلم فعزله عن منصبه، ومات بعدها. ومن شدة ظلمه ما نعاه الناس ولا بكى عليه أحد ولم يذكره أحد بخير، بالرغم من كثرة المتملقين من حوله حين كان وزيرا، إلا أنه في لحظة الموت لا يشهد عموم الناس إلا بالحق، حتى قيلت بعض الأبيات وضربت في الناس مثلا لا يعرف من قائلها حتى الآن
لتبك على الفضل بن مروان نفسه فليس له باك من الناس يعرف
لقـد صحب الدنيـا منوعـاً لخيرهــا وفارقها وهو الظلوم المعنف
إلى النار فليذهب ومن كان مثلـه على أي شيء فاتنا منه نأسف
إن الدرس الأعظم من حياة مرسي القصيرة من وجهة نظري أن الشهيد بإذن الله استطاع تحويل كلامه لأفعال، حتى أنه قد دفع حياته ثمنا لمصداقية كلمته، فحين قال إنه مستعد أن يدفع حياته ثمنا للحفاظ على مكتسبات هذه الثورة لم يكن يزايد أو يهذي، بل صدق كلامه بأفعاله فوقف أمام كل هذه الإرادات الفاسدة عسكرية كانت أو دولية لإزاحة أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر عن سدة الحكم.. وإن كانوا قد نجحوا في ذلك فقد صدق الرجل وكذبوا، وما نراه اليوم من فساد وإفساد ما هو إلا تنبؤ الرجل من قبل أن يموت.
رحل مرسي -عليه سحائب الرحمة والرضوان- منذ أعوام أربعة ومن قبلها بستة أعوام أخرى انقلب عليه العسكر، فما رأت مصر من يومها خيرا، بل رأيت ديونا أثقلت كاهلها وأعيتها عن القيام من نكبتها، وما زال مَن على رأس السلطة في مصر يصرخ في كل مرة يخرج فيها للناس "مفيش"، قاصدا بها عدم وجود المال، والحقيقة أنه لا مال ولا عدل ولا حرية ولا كرامة حتى اليوم في مصر.
مات مرسي في قفص المحكمة الزجاجي المعزول تماما عن العالم الخارجي واقفاً على قدميه يقول للظالم لا، كما وقف طوال حياته يقول للحكومات المتعاقبة الآكلة لحقوق الناس الناهبة لمقدراتهم لا، فأي ميتة أشرف من هذه الموتة إن كنا جميعاً إلى زوال؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق