على متن قارب الموت.. شيءٌ من التخيُّل والوجع
إلى الشّاطئ تسلَّلنا لِواذًا، كنّا نستترُ ببعضنا البعض في العتم ومن العتم، وجوهٌ كثيرةٌ حولنا لا نعرفها لكنّنا نعرف الوجع السّاكن ملامحها جيّدًا، نعرفُ الترقّب البادي في عيونها، والقلق السّاكن ضلوعها، ونعرف جيّدًا الأحلام التي لا تزال ترتسم في يقظتها ومنامها منذ بدأت الرّحلة الطويلة قبل الوصول إلى الشّاطئ الأخير.
على الشّاطئ
انتصب “المهرّب” أمامنا يملي علينا التعليمات عن كيفيّة الصّعود إلى القارب الذي بدأ يلوح في العتم، لم يكن يحدّثنا بوصفنا بشرًا بل كان ينادينا وكأنّنا رؤوس ماشية يريد بيعها في السّوق بعد ساعةٍ من الزّمن، لكن لا بأس فليسَ هو الأوّل الذي يعاملنا هكذا ففي أوطاننا التي غادرناها كنّا أرقامًا أو وربمّا كانت رؤوس الماشية أكثر حظوة منّا، ولكن عساه يكون الأخير الذي لا يرانا بشرًا قبل وصولنا إلى أرض الحريّة والإنسانيّة المنشودة.
سألَه أحدنا: ألن تعطونا سترات النّجاة؟ فجاءت الإجابة: لا حاجة لها فالأمان بالله ونحن متوكلون عليه، والقارب متين وقوي، وعندما حاولت امرأة أن تناقشه في هذا جاء جوابه صارمًا حادًّا: “اللي مش عاجبه يحمل حاله ويرجع”، وبعد أن خيّم صمتٌ يسيرٌ كسرَه بكاءُ رضيعٍ أرهبه الصّمت ربّما؛ نادى “المهرّب” فينا لنبدأ الصّعود إلى قارب الحياة المنشودة.
تكدّسنا مثل أكياس الطّحين على متن القارب الذي لا يستطيع حمل أكثر من مئتين في حدّه الأقصى، غير أنّ المهرّب رأى بحكمته النّافذة أنّه يمكن أن يحمل سبعمئةٍ وخمسين روحًا، عفوًا بل رأسًا، فهذه اللّغة هي التي يتنادى المهرّبون بها عنّا فيما بينهم.
قرّروا لنا أنّ النساء والأطفال في الجزء السفليّ من القارب، معلّلين ذلك بحمايتهم من البرد الليلي والشمس المحرقة نهارًا، لقد كان في نفوسهم زاويةٌ جانبيّة لممارسة حقوق المرأة والطفل؛ المهرّبون وحكّامنا بارعون في ممارسة حقوق المرأة والطّفل وإظهار الرّحمة بهم.
بدأ القارب المكتظّ بالأمل حركته مبتعدًا عن الشّاطئ شيئًا فشيئًا، كنّا نحاول رؤية الشّاطئ وأنواره من قلب العتم المحيط بنا، كانت الأنوار تبتعد وتخفت شيئًا فشيئًا، ولم نكن نعلم أنّها آخر يابسةٍ وآخر أنوارٍ نراها، ولم يكن هذا مهمًّا كثيرًا لنا فهمُّنا وقِبلتنا هو الشّاطئ القادم الموعود.
على القارب
بدأ الصبح يتنفّس، ومع أنفاسه الأولى رأينا الزّرقة المحيطة بنا، ملأت الرّهبة قلوبنا، وجاء صوتٌ شجيّ من جانب القارب يتلو قوله تعالى: {اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} كانت محاولةً منه لبعث الطّمأنينة في نفسه ونفوس المحيطين به إذ كانت الرّهبة المعشّشة فيها باديةٌ في الوجوه والنّظرات.
بدأتُ المسيرَ بصعوبة على متن القارب المكتظّ بالخوف والترقّب، جلستُ قربَ مجموعةٍ من الشباب أحادثُهم، كانوا من سوريا، فأخبرني أحدهم أنّ أباه باع بيته ليؤمّن ثمن الرّحلة لابنه، بينما قال الآخر إنّ أباه باع آخر قطعة أرض يملكها على أمل أن يصل ابنه إلى أوربّا، وكان معه ابن اخته الذي لا يبلغ من العمر عشر سنين في الجزء السفلي مع النساء والأطفال، كم هي قاسيةٌ إذن تلك الحياة التي يفضّل فيها الأب أن يقذف ابنه في اليمّ والمجهول على أن ينشأ طفله أمام ناظريه، ويبيع المرء أرضه وبيته لأجل ألّا يبقى أولاده في حجرِه وأمام ناظريه؟!
في القرب منهم كان شباب تعلو السّمرة وجوههم والطّيبة تنضح من قسماتهم، من أين الشباب؟ من مصر؛ حتّى في مصر لم تعد الحياة تطاق فصار البحرُ أرحم من يابستها؟ كانوا يرشّون على الموت سكّرًا بحلو حديثهم ونكاتهم وضحكاتهم التي تدفع شيئًا من البؤس والخوف المخيّم.
وفي الزاوية المقابلة كان شباب من فلسطين، كان أحدهم يصدح بأغنية “أبو عرب”: “هدّي يا بحر هدّي؛ طوّلنا بغيبتنا، ودّي سلامي ودّي؛ للأرض اللي ربّتنا”.
ومن أفغانستان ومن باكستان شباب عرفناهم بلباسهم وسيماهم كانوا ينظرون يمنةً ويسرةً يتفقّدون الرّكّاب بنظراتٍ حانيةٍ وصمتٍ يقول الكثير.
كان القارب كسفينة نوح يحمل على متنه المظلومين المكلومين في بلدانهم الباحثين عن رمقٍ من حياةٍ كالحياة، ويمّموا وجوههم حيثُ الفردوس الموعود؛ أوربا الجنّة التي يحلم بها المظلومون بعد أن تجهّمت بلاد المسلمين في وجوههم وسدّت منافذها أمام أوجاعهم.
وجع النّهاية ونهاية الوجع
وعلى حين غرّة توقّف القارب في عرض البحر، سرت همهمة خوف جليّ، علَت بعض الأصوات المتسائلة “ماذا هناك؟ ما الذي جرى؟” أرسل الشّاب القارئ بصوت رخيم قول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} فالتقط الرّكاب الخائفين الرّسالة فبدأت أصوات الضّراعة تنطلق من الحناجر، وبدأ يختلط بها بكاءٌ ونشيج بعضه من الأطفال وبعضه من غيرهم.
ساعاتٌ مرّت من الرّعب الذي يفلق الأكباد قبل أن تلوح في الأفق سفينةٌ عسكريّة تهلَّلت لقدومها وجوه الركّاب، وشعروا بالفرج القادم من الغرب، كان عليها علم اليونان الذي يعرفه الرّكاب جيدًا، فقد مارسوا شيئًا من الثّقافة قبل انطلاق الرّحلة ليعرفوا أين تكون “البصمة” الأكثر نفعًا لهم إن حطت بهم الرّحال على أرض الفردوس المنشود.
اقتربت السفينة اليونانيّة من المركب ونحن نرى فيها الأمّ الرّؤوم التي تقترب لاحتضان طفلها، وعلى عجلٍ منهم وصلوا قاربنا بسفينتهم بحبالٍ شعرنا أنّها الحبل السريّ الذي سيمدّنا بالحياة، وستكون معه ولادتنا الجديدة.
مخرت السفينة عباب الموج ومخرت معها أرواحنا وقلوبنا، وبعد بضع دقائق بدأ شيءٌ غريبٌ يحدث، قاربنا يهتزّ بعنف، والصّراخ يعلو من الجميع في السفينة، فقد تحوّلت لحظات الشّعور بالأمن والطّمأنينة إلى رعبٍ كبير، والسفينة اليونانيّة لا تبالي بكلّ هذا الصراخ، بل إنّها ازدادت عنفًا وقامت باستدارةٍ مفاجئة بدأ القارب على إثرها يميل منقلبًا، وبدأت المياه تتسرّب داخله، وقطّع العاملون على السفينة اليونانيّة الحبال ومضت سفينتهم مبتعدةً عنّا وقاربنا يتشقّق وتتسارع المياه فيه.
في ذلك البحرِ الواسع كنّا نقطةً صغيرةً لا يراها أحد بل لا يريد أن يراها أحد، كانت استغاثاتنا تملأ جنبات البحر؛ وما من مجيب، وكان بكاء الأطفال والنساء يقطع قلوب الأسماك، ولكن البشر في أوربا الجنّة لم يتحرّك لهم رمش.
ملأت المياه القارب، ولم يعد للأطفال والنّساء صوتٌ أو بكاء، وكان صمتهم الأخير رزينًا وموجعًا، ولم يبق إلّا نزيف ذكرياتٍ يجعل العمر يمرّ أمام الذّاكرة في ثوانٍ قبلَ الرّحيل الأخير.
ما أقسى الغرق، ولكن أقسى منه وجع الظّلم والخذلان، فيا أيها الحكام، ويا أيها المهرّبون، ويا أيّها الغرب، ويا بلادنا الإسلاميّة: أجسادنا أكلها السمك، ولكنّ أرواحنا تنتظركم عند الميزان، وعند الله تجتمع الخصوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق