العشرية المصرية السوداء (2): الديون المسمومة
قطب العربي
عند لحظة الانقلاب على حكم الرئيس المدني محمد مرسي في تموز/ يوليو 2013 كان مقدار الديون الخارجية على مصر 43 مليار دولار؛ قفزت إلى 163 مليار دولار بنهاية العام 2022 وفقا لأرقام البنك المركزي، أي أنها تضاعفت 4 مرات خلال العشرية السوداء التي حلت بمصر عقب الانقلاب، ولا تزال تعيش فظائعها حتى الآن، بينما تتواصل الاستعدادات لتنظيم احتفالات صاخبة في هذه الذكرى الأليمة تغطي على تلك الفظائع والأضرار التي تعرض لها الشعب المصري.
ببساطة يعني هذا أن كل مصري -ولو كان مولود حديثا- يحمل في رقبته دينا خارجيا بقيمة 1500 دولار بخلاف الديون الداخلية. وهذا الدين لا علاقة للمواطن به، فلا هو سبب فيه، ولا يعرف كيف تم الحصول عليه، ولا أين أُنفق بالضبط، كما لم يلمس المواطن أثرا له في حياته اليومية.
هذا المواطن الذي لم يلمس فائدة لهذه الديون قد يجد نفسه مجبرا على سداد بعضها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سواء عبر حملات لحث المواطنين على المساهمة في سداد ديون مصر، كما حدث في عهد الخديوي إسماعيل الذي فرض على المصريين شراء سندات ذهب أغلب حصيلتها لسداد الديون، أو كما حدث في عهد مبارك، وإن كانت تلك الحملات رمزية إلى حد كبير لم تستطع جمع سوى مبالغ هزيلة، أو ربما بفرض رسوم على الخدمات العامة، أو بتقليص تلك الخدمات توفيرا للنفقات المخصصة لها، وتحويل تلك النفقات لدفع أقساط الديون، أو حتى بالمصادرة المباشرة للأموال والممتلكات تحت ذرائع مختلفة؛ ومنها ذريعة دعم الإرهاب وتمويل أنشطة ومنظمات مصنفة إرهابية كما حدث بالفعل مع ممتلكات عدد من المعارضين السياسيين، وخصوصا الإسلاميين.
بعد عشر سنوات عجاف ظهرت بقوة الأزمة الاقتصادية، حيث تعاني مصر فجوة تمويلية خارجية تبلغ 60 مليار دولار بما فيها أقساط الديون الخارجية التي تبلغ نصف هذا الرقم خلال العام الحالي. والفجوة التمويلية هي احتياجات مصر من الدولار لتغطية فجوة الاستيراد من السلع والخدمات فضلا عن أقساط الديون.
ووفقا لبيانات البنك المركزي يبلغ إجمالي قيمة الالتزامات على مصر خلال العام المالي 2022-2023، الذي بدأ في شهر تموز/ يوليو الماضي وينتهي في تموز/ يوليو المقبل، نحو 20.2 مليار دولا، منها نحو 8.7 مليار دولار خلال النصف الأول الذي انتهى في كانون الأول/ ديسمبر 2022، ويرتفع الرقم إلى 24 مليار دولار العام المقبل، ثم 15 مليارا في العام 2025، و17 مليارا في العام 2026، و10 مليارات دولار في العام 2027، وهكذا دواليك.
الدين العام في مجمله يمثل 93.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المصري في العام 2022، وفقا لوكالة موديز الدولية التي غيرت نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى سلبية، مشيرة إلى أن مواعيد استحقاق الدين الخارجي الكبير لمصر أصبحت تمثل تحديا متزايدا، وهو ما دفع صحيفة فايننشال تايمز للتأكيد على أن مصر ضمن دول أخرى تواجه مصيرا مشابها لسيريلانكا.
في العام 1863 تولى الخديوي إسماعيل حكم مصر، وكانت ديونها 11 مليون جنيه إسترليني، وتركها عام 1879 (أي بعد 16 عاما) مدينة بحوالي مائة مليون إسترليني، صحيح أنه استخدم جزءا منها لمشروعات مهمة مثل حفر قناة السويس، وبناء دار الأوبرا، وحفر تِرع، وتشييد جسور، لكنه استخدم الجزء الأكبر في مشروعات مظهرية مثل بناء القصور، ورشاوى للباب العالي، وشراء أراض زراعية، وإقامة حفل ضخم في افتتاح القناة.
وبعد 12 عاما من حكمه فشل في سداد الديون، فاضطر إلى اقتراض المزيد لسداد الأقساط المستحقة، ورفعِ الضرائب وابتزاز أصحاب الأراضي، بل باع الأسهم التي تمتلكها مصر في قناة السويس (44 في المئة). وفي النهاية تم وضع مصر تحت الرقابة المالية الأوروبية (أكبر الدائنين)، وتدهورت الأوضاع المعيشية بشدة، وهو ما تسبب في احتجاجات شعبية، وتحرك عسكري قاده الضابط أحمد عرابي، انتهى بالاحتلال البريطاني لمصر.
تلك الأزمة تتكرر في الكثير من أسبابها ونتائجها مع ما يحدث الآن، فبعد عشر سنوات (العشرية السوداء) لحكم السيسي ارتفعت الديون الخارجية 4 أضعاف (من 43 مليار دولار إلى 162 مليار دولار)، ومع حلول آجال الدفع للأقساط يلجأ النظام الآن إلى قروض جديدة لسداد الأقساط القديمة، كما يزيد الرسوم والضرائب، بل إنه اتخذ خطوات عملية لبيع بعض أصول شركة قناة السويس، حيث أسس في الثامن من حزيران/ يونيو الجاري شركة قابضة لقناة السويس، ثم قام بطرح ٢٠ في المئة من أسهم شركة "القناة لرباط وأنوار السفن" في البورصة، كمقدمة لبيع المزيد من الأسهم من هذه الشركة وغيرها من شركات القناة لمصريين أو حتى لأجانب، وكأن التاريخ يعيد نفسه.
مأساة الديون الأولى في عهد الخديوي إسماعيل أطاحت به من الحكم، لكن الأخطر أنها وضعت مصر تحت الاستعمار البريطاني لمدة 70 عاما، وإذا كان عهد الاستعمار المباشر قد انتهى، فإن هناك أشكالا جديدة من الاستعمار، والوصاية الأجنبية والتنازل عن السيادة مقابل تخفيف بعض الديون، وهو ما يجري بالفعل.
twitter.com/kotbelaraby
ببساطة يعني هذا أن كل مصري -ولو كان مولود حديثا- يحمل في رقبته دينا خارجيا بقيمة 1500 دولار بخلاف الديون الداخلية. وهذا الدين لا علاقة للمواطن به، فلا هو سبب فيه، ولا يعرف كيف تم الحصول عليه، ولا أين أُنفق بالضبط، كما لم يلمس المواطن أثرا له في حياته اليومية.
هذا المواطن الذي لم يلمس فائدة لهذه الديون قد يجد نفسه مجبرا على سداد بعضها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سواء عبر حملات لحث المواطنين على المساهمة في سداد ديون مصر، كما حدث في عهد الخديوي إسماعيل الذي فرض على المصريين شراء سندات ذهب أغلب حصيلتها لسداد الديون، أو كما حدث في عهد مبارك، وإن كانت تلك الحملات رمزية إلى حد كبير لم تستطع جمع سوى مبالغ هزيلة، أو ربما بفرض رسوم على الخدمات العامة، أو بتقليص تلك الخدمات توفيرا للنفقات المخصصة لها، وتحويل تلك النفقات لدفع أقساط الديون، أو حتى بالمصادرة المباشرة للأموال والممتلكات تحت ذرائع مختلفة؛ ومنها ذريعة دعم الإرهاب وتمويل أنشطة ومنظمات مصنفة إرهابية كما حدث بالفعل مع ممتلكات عدد من المعارضين السياسيين، وخصوصا الإسلاميين.
بعد عشر سنوات عجاف ظهرت بقوة الأزمة الاقتصادية، حيث تعاني مصر فجوة تمويلية خارجية تبلغ 60 مليار دولار بما فيها أقساط الديون الخارجية التي تبلغ نصف هذا الرقم خلال العام الحالي. والفجوة التمويلية هي احتياجات مصر من الدولار لتغطية فجوة الاستيراد من السلع والخدمات فضلا عن أقساط الديون.
ووفقا لبيانات البنك المركزي يبلغ إجمالي قيمة الالتزامات على مصر خلال العام المالي 2022-2023، الذي بدأ في شهر تموز/ يوليو الماضي وينتهي في تموز/ يوليو المقبل، نحو 20.2 مليار دولا، منها نحو 8.7 مليار دولار خلال النصف الأول الذي انتهى في كانون الأول/ ديسمبر 2022، ويرتفع الرقم إلى 24 مليار دولار العام المقبل، ثم 15 مليارا في العام 2025، و17 مليارا في العام 2026، و10 مليارات دولار في العام 2027، وهكذا دواليك.
الدين العام في مجمله يمثل 93.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المصري في العام 2022، وفقا لوكالة موديز الدولية التي غيرت نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى سلبية، مشيرة إلى أن مواعيد استحقاق الدين الخارجي الكبير لمصر أصبحت تمثل تحديا متزايدا، وهو ما دفع صحيفة فايننشال تايمز للتأكيد على أن مصر ضمن دول أخرى تواجه مصيرا مشابها لسيريلانكا.
في العام 1863 تولى الخديوي إسماعيل حكم مصر، وكانت ديونها 11 مليون جنيه إسترليني، وتركها عام 1879 (أي بعد 16 عاما) مدينة بحوالي مائة مليون إسترليني، صحيح أنه استخدم جزءا منها لمشروعات مهمة مثل حفر قناة السويس، وبناء دار الأوبرا، وحفر تِرع، وتشييد جسور، لكنه استخدم الجزء الأكبر في مشروعات مظهرية مثل بناء القصور، ورشاوى للباب العالي، وشراء أراض زراعية، وإقامة حفل ضخم في افتتاح القناة.
وبعد 12 عاما من حكمه فشل في سداد الديون، فاضطر إلى اقتراض المزيد لسداد الأقساط المستحقة، ورفعِ الضرائب وابتزاز أصحاب الأراضي، بل باع الأسهم التي تمتلكها مصر في قناة السويس (44 في المئة). وفي النهاية تم وضع مصر تحت الرقابة المالية الأوروبية (أكبر الدائنين)، وتدهورت الأوضاع المعيشية بشدة، وهو ما تسبب في احتجاجات شعبية، وتحرك عسكري قاده الضابط أحمد عرابي، انتهى بالاحتلال البريطاني لمصر.
تلك الأزمة تتكرر في الكثير من أسبابها ونتائجها مع ما يحدث الآن، فبعد عشر سنوات (العشرية السوداء) لحكم السيسي ارتفعت الديون الخارجية 4 أضعاف (من 43 مليار دولار إلى 162 مليار دولار)، ومع حلول آجال الدفع للأقساط يلجأ النظام الآن إلى قروض جديدة لسداد الأقساط القديمة، كما يزيد الرسوم والضرائب، بل إنه اتخذ خطوات عملية لبيع بعض أصول شركة قناة السويس، حيث أسس في الثامن من حزيران/ يونيو الجاري شركة قابضة لقناة السويس، ثم قام بطرح ٢٠ في المئة من أسهم شركة "القناة لرباط وأنوار السفن" في البورصة، كمقدمة لبيع المزيد من الأسهم من هذه الشركة وغيرها من شركات القناة لمصريين أو حتى لأجانب، وكأن التاريخ يعيد نفسه.
مأساة الديون الأولى في عهد الخديوي إسماعيل أطاحت به من الحكم، لكن الأخطر أنها وضعت مصر تحت الاستعمار البريطاني لمدة 70 عاما، وإذا كان عهد الاستعمار المباشر قد انتهى، فإن هناك أشكالا جديدة من الاستعمار، والوصاية الأجنبية والتنازل عن السيادة مقابل تخفيف بعض الديون، وهو ما يجري بالفعل.
twitter.com/kotbelaraby
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق