الخميس، 20 يوليو 2023

بلاد العُميان ومدن الملاهي الزرقاء

 بلاد العُميان ومدن الملاهي الزرقاء

أحمد عمر

استيقظتُ من نومي فانتبهت متأخرًا أنّ رعايا وسائل التواصل تعشى أبصارهم، ويُصابون بدوار الغرور، ودوخة مدن الضباب، فيفقدون رُشدهم، ويضيّعون صوابهم، ويرتدّون أطفالًا. 

ووجدتُ أنَّ من نجا منهم من العمى والردّة إلى جهالة الطفولة قلة. 

وأنَّ حمقى "تويتر" أقل من حمقى "فيسبوك"، لأن "تويتر" تشرط شرطًا في عدد الحروف، فكأن الإيجاز قيدٌ يُجبر أسراه على انتخاب أحسن القول وأبلغ الألفاظ. وقد شرط صاحب "تويتر" ومالكها على طالبي الإقامة الشرعية في مخيّمات "تويتر"، إشارة زرقاء شرعية مقابل جعالة شهرية مالية، ومنع عن المحرومين من العلامة الزرقاء كيل الأخبار. 

والزرقة هي شعار "فيسبوك" أيضًا، لون مملكة مارك، ولها تفسير ديني، يتصل بالهوية، فأكثر مدن التواصل زرقاء، والحاذق يفهم.

وإني هجرتُها هجرًا جميلًا، وأطللت عليها بعد سنةٍ أو أكثر من الغربة المجيدة، إطلالة نور الشريف في فيلم "أيام الغضب"، عندما قال في خاتمة الفيلم: "مصر حلوة أوي من فوق"، وقد قلّت زرقة مصر التي تتصحّر، بعد أن انحسرت زرقة النيل عنها. 

وجملة "أيام الغضب" تدرس في معاهد السينما كجملة شعرية حسنة، بدأ بها الفيلم وخُتم بها أيضا. وكان نور قد سيق إلى مشفى المجانين، فقال تلك الجملة.

وكنتُ قرأت لزهّاد كبار من الرعيل الأول ينعون زمانهم، وشعراء فحولًا، بل إن أعلامًا نعوا زمانهم في القرن الهجري الأول، لما وجدوا من استشراء فساد وكثرته. 

ولي أصدقاء جازفت ونبّهتهم إلى أخطاء في منشوراتهم، ليس في الرأي، فأكثر الناس يظنّون أنهم على صواب، ولكن تصويبًا لمعلومات لغوية أو علمية، فتوعّدوني: كلمة أخرى ونعمل لك "بلوك".

أما سبب خلاصي إلى قولي الآنف ذكرًا، فذلك أننا نُرى ولا نرى، فنستعرض أطعمتنا، وأزياءنا وآراءنا، بإفراطٍ وإسراف، وهي آراءٌ سياسيةٌ ودينيةٌ مفرقة للصلة، وكنّا في الحياة الحقيقية نخفيها حرصًا على الجوار والأرحام والمودّة، فجهرنا بها، بل وتاجرنا بها سعيًا وراء حبّ فئة من المتابعين لن نراهم أبدًا، يدرّون علينا "لايكات" رخيصة. 

وقد أخطأت وأنا أحدّث صديقًا لي، وهو يغدق اللايكات على كاتبة، ليس لها من حظ الكتابة نقير، سوى أنها تكتب قصصًا تخلط فيها المقال بالحكي، ولغتُها عرجاء، وسردُها أعجم، ولحنها كثير. وكان تلاميذ الصف الرابع يكتبون في زماني مواضيع إنشاء أفضل منها. ولكن لشأنٍ لا أعرفه، وأعرفه لكن لا أستطيع البوح به سطع نجمها في بلاد العميان، فانتفخت وكبُر سحرها. وهي سيّدة لا تخلو من جمال، فلعلّ جمالها في خفّتها وحمقها، وقد نبغ حمقى كثيرون على وسائل التواصل. 

من ذلك أني أعجبت بسيدةٍ حمقاء تعلم الألمانية في دروس قصيرة، تبثّها في أفلام شديدة القِصر، وتصنع فيديوهات شديدة الطرافة من غير قصد.

الطريق إلى الشهرة، والشهرة مُلك، وهو عضوضٌ، يعضّ صاحبه قبل عضّ الأتباع، كان شاقًا وعرًا، ولها مضماران، هما السيف والكلمة، وقد كسرا تكسيرًا، ثم ظهرت الصورة فعدا عليها كل من هبّ ودبّ، وصنع لنفسه تلفزيونًا، يسطو فيه على أفكار غيره ويسرُدها بلسانه. ورأيت أعلامًا كبارًا فتنتهم الصورة أيما فتنة فهم يرتجلون الفيديوهات، كما كان الشعراء يرتجلون الشعر. وشتّان.

ووجدتُ، بعد غياب، أن بعضا من أصحاب مرابع الطفولة في "فيسبوك" قد نزحوا منها، فلعلهم زهدوا في الحبّ الكاذب، وهربوا من الكذب والاستعراض والغرور والتفاخر والمعارك الوهمية، وتفقّدت بعض ديارهم فوجدُتها أطلالًا، فإما أنهم هجروها إلى مدن افتراضية جديدة أو كبروا وعادوا إلى المنازل الأولى وأوطان الكتب، أو اعتزلوا لعدم قدرتهم على منافسة الصبيان الكبار، أو أنهم بلغوا منزلة الإشراق ورتبة العرفان فأبصروا وتبصروا.

أخبرني صديق روائي أنه يتعاطى أدوية مهدّئة لإسرافه في استعراض أسراره وشؤونه الشخصية، وسعيه الدؤوب إلى نيل إعجاب متابعيه، واستعرض صوره مع النجوم، حتى كاد أن يعرى، وشبّه نفسه براقصة التعرّي، وإنه لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق