الشيخ السالوس.. فقيه الاقتصاد والمعاملات
تلقيت ببالغ الألم والحزن نبأ وفاة العلامة الفقيه الأستاذ الدكتور علي أحمد السالوس، عن (92) عاما هجريا و(89) عاما ميلاديا؛ حيث ولد عام 1353 هجرية الموافق 1934 للميلاد.
حصل الشيخ الفقيد على ليسانس من كلية دار العلوم جامعة القاهرة، عام 1376هـ/ 1957م، ودبلوم الدراسات العليا -كلية دار العلوم 1389هـ/ 1969م، وماجستير في الشريعة من كلية دار العلوم جامعة القاهرة 1389هـ/ 1969م وموضوعها: "فقه الشيعة الإمامية مواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة"، ودكتوراه في الشريعة من كلية دار العلوم جامعة القاهرة 1395هـ/ 1975م، وموضوعها: "أثر الإمامة في الفقه الجعفري وأصوله"، حصل عليها بمرتبة الشرف الأولى.
- وقد شغل الشيخ مناصب علمية عديدة، منها:
أستاذ الفقه والأصول، وأستاذ فخري في المعاملات المالية المعاصرة والاقتصاد الإسلامي في جامعة قطر، والنائب الأول لرئيس مجمع فقهاء الشريعة بأميركا. ومنها أيضا خبير بمجمع الفقه منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة ثم اختير عضوا بالمجمع. وخبير بمجمع الفقه برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ثم اختير عضوا بالمجمع. كما كان أحد الأمناء لمركز قطر الإسلامي بلندن، ورئيس الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح بمصر (سيأتي الحديث عنها).
كتب دراسة عن بيت التمويل الكويتي، ثم عين خبيرا اقتصاديا في مجمع الفقه لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة وذلك في المؤتمر الأول التأسيسي، ثم في المؤتمر الثاني كتب 3 أبحاث، ثم توالت الأبحاث والكتابة في الاقتصاد الإسلامي
مجالات الاهتمام العلمي
- عرف الشيخ بالكتابة في مجالين مهمين جدا
المجال الأول: كتاباته عن الشيعة وفقههم، وبخاصة الشيعة الاثنا عشرية، وهو من أوائل من كتب عنهم، وكان لهذه الكتابات قصة، يقول عنها: "في الدراسات العليا درّس لنا الأستاذ الشيخ الجليل محمد مدني رحمه الله، وكان ينادي بالتقريب بين المذاهب فدرس لنا أنه لا يوجد خلاف بين الإمامية والمذاهب الأربعة إلا كما يوجد بين أي مذهب وآخر.
ويواصل الشيخ رحمه الله القول "من هذا المنطلق سجلت رسالة الماجستير في فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة، أراد الشيخ المدني أن تكون النتيجة أنه مذهب خامس مثل المذاهب الأربعة، ولكن الله أراد غير ذلك، فلما بدأت أدرس ولما انتهيت من الماجستير وجدت أن نظرية الإمامة لها أثر كبير في الفقه والأصول وليس على العقيدة فقط، فكانت رسالة الدكتوراه "أثر الإمامة في الفقه الجعفري وأصوله" ثم توسعت بعد ذلك أكثر وأكثر".
وحسبك فقط أن تتصفح كتابه: "مع الشيعة الاثنا عشرية في الأصول والفروع"، وهو موسوعة شاملة جاءت على 4 أجزاء في مجلدين يقعان في 1218 صفحة، ونشر في دار الفضيلة بالرياض، عام 1424هـ- 2003م: الجزء الأول: جاء في 5 فصول: الفصل الأول: الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة، والفصل الثاني: أدلة الإمامة من القرآن العظيم، والفصل الثالث: الإمامة في ضوء السنة، والفصل الرابع: الاستدلال بالتحريف والوضع، تضمن الحديث عن تحريف القرآن الكريم، والاستدلال بالأحاديث الموضوعة، ونهج البلاغة، والصواعق المحرقة، والطرق التي يعلم بها كذب المنقول.. أما الفصل الخامس فتحدث عن عقائد تابعة، مثل: أولا: عصمة الأئمة، وثانيا: البداء، وثالثا: الرجعة، ورابعا: التقية.
أما الجزء الثاني من الموسوعة فجاء في قسمين كبيرين: القسم الأول عن التفسير وأصوله عند أهل السنة، في 8 فصول تضمنت تفسير الرسول والصحابة والتابعين ومن بعدهم، والقسم الثاني: التفسير وأصوله عند الشيعة الاثني عشرية، تضمن الفصل الأول: القرآن الصامت والقرآن الناطق، والفصل الثاني: الظاهر والباطن، والفصل الثالث: القرآن الكريم والتحريف، والفصل الرابع: كتب التفسير الشيعي في القرن الثالث، والفصل الخامس: التبيان للطوسي وتفاسير الطبرسي، والفصل السادس: التفسير بعد الطوسي والطبرسي، الفصل السابع: نظرة عامة لباقي كتب التفسير.
أما الجزء الثالث فجاء في قسمين كذلك: القسم الأول: الحديث وعلومه عند الجمهور، وتكون من 10 فصول، فيما جاء القسم الثاني عن: الحديث وعلومه وكتبه عند الشيعة، متضمنا 6 فصول، وبعد ذلك كان ملحقا للجزء الثالث، تحدث عن السنة بيان الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما الجزء الرابع والأخير فتضمن 3 أبواب كبيرة: الباب الأول: أصول الفقه، والثاني: العبادات، والثالث: المعاملات.
تأمل فقط هذه العناوين التي تضمنها هذا الكتاب -كتاب واحد من كتبه- وهو يعد موسوعة متكاملة لمن أراد أن يعرف الشيعة ومعتقداتهم ومذهبهم وأصولهم وفقهم مقارنا بأهل السنة؛ حيث اعتمد فيه عالمنا الجليل على نقل أقوالهم من مصادرهم وتوثيقها وفحصها بالحجة والبرهان، مقارنًا ذلك كله بما عند أهل السنة والجماعة الذين هم السواد الأعظم لهذه الأمة.
عالج الشيخ الجليل قضايا مهمة ومسائل شائكة من المستجدات والنوازل في مجال المعاملات، ووضع لها حلولا فقهية أصيلة تتسق مع تراثنا الفقهي العظيم وتستجيب لحاجة الأمة وتحقق مصالح الناس
المجال الثاني: هو مجال فقه المعاملات المالية، وللشيخ فيها جهد مبكر، وكتابات تأسيسية ومرجعية في هذا الباب، ولتوجهه لمجال المعاملات والاقتصاد الإسلامي قصة، يقول عنها: "أحد السادة العلماء الفضلاء نشر قولا حول تبادل العملات وأباح التبادل بالأجل فيها وأن الربا في الذهب والفضة فقط ولا يسري في النقود الورقية، وكنت ساعتها في الكويت فانتظرت أن يَردَّ عليه أحد ولكن لم يرد أحد فعرفت أن هذا صاحب مدرسة كبيرة في الكويت ومن يرد عليه يتعرض لمخاطر جمة لذلك لم يستطع أحد أن يواجهه فكتبت مقالا عن الصرف وبيع العملات نشر في مجلة اللواء الإسلامي ولم أذكر اسمه".
ويضيف الشيخ السالوس "قلت في المقال إنه عالم فاضل وكذا وكذا وبيّنت مسألة الصرف وقلت إن لم تنطبق على النقود الورقية إذًا لا ربا ولا زكاة، ففوجئت برده الشديد مع قدر كافٍ من الشتائم وأنا عادة لا أرد على الشتائم لكن وجدت أنه لا بد من رد علمي فرددت برد علمي موسع -أخذ ما يقرب من ثلث أو ربع المجلة- أحكام النقود باقية ليست قاصرة على عصر الذهب والفضة وإلا لقلنا بعصر بلا نقود؛ فرد مرة أخرى فلم أرد -ورد عليه اقتصاديون آخرون- وكتبت مقالا لم أنشره لكن ضممته للكتاب الذي كتبته عن النقود وبيع العملات بعد ذلك".
ويقول الشيخ إنها كانت "بداية الدخول في الاقتصاد الإسلامي، وجمعت هذه المقالات وتوسعت في كتاب النقود واستبدال العملات دراسة وحوارا، ثم كان تصنيف كتاب الثقافة الإسلامية اشترك في تصنيفه 6 علماء كان نصيبي الاقتصاد الإسلامي وهذا من تقدير الله، ثم كتبت دراسة عن بيت التمويل الكويتي، ثم عينت خبيرا اقتصاديا في مجمع الفقه لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة وذلك في المؤتمر الأول التأسيسي، ثم في المؤتمر الثاني كتبت 3 أبحاث، ثم توالت الأبحاث والكتابة في الاقتصاد الإسلامي".
لقد عالج الشيخ الجليل قضايا مهمة ومسائل شائكة من المستجدات والنوازل في مجال المعاملات، كما سنورد في قائمة بعض مؤلفاته بعد قليل، ووضع لها حلولا فقهية أصيلة تتسق مع تراثنا الفقهي العظيم وتستجيب لحاجة الأمة وتحقق مصالح الناس، فباب المعاملات هو عصب الحياة وتتجلى حاجات الناس فيه بشكل يومي.
وتميز تناول الشيخ الجليل والفقيه الكبير في القضايا التي تناولها بالنفَس العلمي والتناول الموضوعي، والتيسير الملحوظ المنضبط البعيد عن التحلل والتحجر، التحلل الذي يبيح كل شيء بحجة التيسير على الناس، والتحجر الذي يحرم كل شيء لأدنى شبهة عارضة، وفي هذا تفويت مصالح الخلق ومعارضة مقاصد الشرع.
والكم الكبير من البحوث التي كتبها الشيخ الفقيه، أو أشرف عليها، أو قام بتحكيمها، أو مناقشتها، يدل على علو كعبه في فقه المعاملات، ويشير إلى السهمة الكبيرة والبصمة العظيمة التي تركها في هذا المجال -الاقتصاد والمعاملات- وتصنفه من فقهاء المعاملات وعلماء الاقتصاد الإسلامي في عصرنا، وهو ما يستحق أن تفرد له دراسات وبحوث تفحص المنجز العلمي الذي تركه فقيدنا الكبير الجليل.
لم يكن الشيخ الجليل علي السالوس مجرد عالم يحسن التعليم والتدريس والكتابة والحياة بين الكتب والأوراق فحسب، وإنما كان عالما عاملا، صاحب مواقف واضحة وفاصلة لا مجاملة فيها، فكان –رحمه الله تعالى– لا يخشى في الله لومة لائم.
مؤلفات الشيخ
ترك الشيخ تراثا كبيرا في هذين المجالين بالإضافة إلى كتب أخرى، تجاوز هذا التراث العلمي والمنجز الفقهي (80) كتابا وبحثا، فضلا عما أسهم به في تقييم البحوث وتحكيم الكتب والرسائل والترقيات، والأبحاث المقدمة لنيل الجوائز.
ومن أهم المؤلفات: فقه الشيعة الإمامية مواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة، وأثر الإمامة في الفقه الجعفري وأصوله، والإمامة عند الجعفرية والأدلة من القرآن العظيم، ومع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع: موسوعة شاملة، وحكم أعمال البنوك في الفقه الإسلامي، والمعاملات المالية المعاصرة في ميزان الفقه الإسلامي، وموسوعة القضايا الفقهية المعاصرة والاقتصاد الإسلامي، والمعاملات المالية المعاصرة في ميزان الفقه الإسلامي، والاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية المعاصرة (جزءان).
كما ألف الشيخ الفقيد فقه البيع والاستيثاق والتطبيق المعاصر ج1: دراسة في الفقه الإسلامي مقارنا بالقانون مع تهذيب وترتيب وتبويب المغني لابن قدامة وتخريج أحاديثه، ومعاملات البنوك الحديثة في ضوء الإسلام، وقصة الهجوم على السنة من الطائفة الضالة في القرن الثاني إلى الطاعنين في عصرنا، وأثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزامات الآجلة، وفوائد البنوك وشهادات الاستثمار في ضوء الكتاب والسنة والإجماع، والتضخم في ميزان الفقه الإسلامي، والسياسة المالية (معالجة العجز في الميزانية).
العلماء الذين تعلم عليهم أو التقاهم
ومن مآثر الشيخ -يرحمه الله تعالى- أنه تربى على مشايخ العصر، مشايخ كبار، منهم:
- فضيلة الشيخ مصطفى زيد – أشرف على رسالة الماجستير.
- فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة – أشرف على رسالة الدكتوراه وبعد وفاته أتم الإشراف عليها الشيخ مصطفى زيد.
- فضيلة الشيخ علي حسب الله.
- فضيلة الشيخ محمد المدني.
- فضيلة الشيخ عمر الدسوقي.
بعد ثورة 25 يناير تنادى مع إخوانه لتأسيس هيئة علمائية في مصر تكون مرجعا للتيارات والجماعات جميعا، فأسس معهم ما عرف باسم: (الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح)
كما عاصر عددا من العلماء والتقاهم، ومنهم:
- فضيلة الشيخ محمود محمد شاكر (أبو فهر).
- فضيلة الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق رحمه الله.
- فضيلة الشيخ بن باز سافر إليه الشيخ وناقشه في مسألة التورق.
- فضيلة الشيخ ابن عثيمين سافر إليه وناقشه في مسألة البيع الآجل.
- فضيلة الشيخ الألباني قابله في قطر وتناقش معه في موضوع حديث الثقلين وذكر ذلك الشيخ في كتابه حديث الثقلين وفقهه.
من مواقف الشيخ
لم يكن الشيخ الجليل علي السالوس مجرد عالم يحسن التعليم والتدريس والكتابة والحياة بين الكتب والأوراق فحسب، وإنما كان عالما عاملا، صاحب مواقف واضحة وفاصلة لا مجاملة فيها، فكان –رحمه الله تعالى– لا يخشى في الله لومة لائم.
ومن ذلك موقفه من فتوى الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر السابق بحل فوائد البنوك، فوقف الشيخ مع ثلة كريمة من أهل العلم في مصر والعالم الإسلامي ضد هذه الفتوى، وكان الدكتور السالوس من أعلاهم صوتا، فذهب طنطاوي إلى القضاء وعاجله بقضية حكمت عليه بالسجن، وساعتها قال طنطاوي: "حتى يعلم الجميع أني أنا مفتي الدولة"!
وبعد ثورة 25 يناير تنادى مع إخوانه لتأسيس هيئة علمائية في مصر تكون مرجعا للتيارات والجماعات جميعا، فأسس معهم ما عرف باسم: "الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح"، وكان لها دور ملحوظ في توجيه الرأي الشرعي فيما تحتاجه ثورة مصر، وكان رئيسا لها، وهي تضم كوكبة من صفوة علماء مصر.
وبعد أن وقعت أحداث 3 يوليو/تموز 2013، غادر الشيخ مصر إلى قطر؛ حيث أسلم الروح إلى بارئها في الدوحة أمس الثلاثاء 7 محرم الحرام 1445هـ الموافق 25 يوليو/تموز 2023.
نسأل الله تعالى أن يغفر للشيخ الجليل والفقيه الكبير والمجاهد الصابر المرابط الشيخ الدكتور علي أحمد السالوس، وأن يرحمه، ويتقبل جهاده العلمي والدعوي، وأن يحشره مع العلماء العاملين والدعاة الصادقين الربانيين، ويخلفنا والعلم فيه خيرا، وإنا لله إنا إليه راجعون.
(البيانات الأساسية والكلام الذي ورد على لسان الشيخ مأخوذ من موقعه الشخصي رحمه الله وغفر له).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق