رسائل للمشككين | الآيات الكونية الدالة على إعادة الخلق ويوم الحساب
إن الناظر في كتاب الله تعالى والمتدبر لآياته يرى أن الدعوة إلى التفكير في آيات الله الكونية هي دعوة أصيلة، أكد أهميتها الله سبحانه في كتابه، وقد تنوع استخدامها، واختلفت أهدافها، وقد ذكرت هذه النعم الكونية في بعض مواضع القرآن الكريم في الاستدلال على إعادة الخلق بعد الموت، وجاءت هذه الآيات في سورة العنكبوت في سياق ذكر قصة إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير (20)} [العنكبوت: 19-20]
يخبر الله تعالى عن إبراهيم -عليه السلام- كيف أرشد قومه إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه، بقوله حكاية عن إبراهيم من خلال الآيات التي نحن في صدد تفسيرها، وذلك بأن وجههم إلى النظر في أنفسهم وكيفية نشأتهم وخلق الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، فالقادر على الإبداء والإيجاد قادر على الإعادة والبعث، ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة من خلق القيامة، ويلقى كل جزاءه، وأن مصير من يكفر بالله العذاب الأليم، والخطاب في الآيات الكريمة موجه لأمة محمد كما قال بعض العلماء (منهج الدعوة إلى العقيدة في ضوء القصص القرآني، منى عبد الله بن داود، ص115).
قد يقول قائل: أنا لم أشاهد نفسي كيف خلقت؟ فكيف يأمرنا الله عز وجل بالنظر في بدء الخلق؟ إن الله عز وجل جعل نظام البشر على أساس التوالد، فإذا كنت غائبا عن نشأتك، فهذه نشأة ابنك أمامك.
قوله تعالى: {أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير} [العنكبوت:19]
لما بين الله سبحانه وتعالى الأصل الأول في الآيات السابقة في سورة العنكبوت وهو التوحيد، وأشار إلى الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين}، شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر والميعاد، وهذه الأصول الثلاثة لا ينفك بعضها عن بعض في الذكر الإلهي (تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، 21/364).
- {أولم يروا}
وأشباهها، فإنها تفيد أن الشيء الذي سيأتي بعدها آية ظاهرة بيّنة دالة على عظمة الله عز وجل، وكأن الله عز وجل يدعوك إلى أن ترى، فهل رأيت؟ في {أولم يروا}: الهمزة هنا للاستفهام الإنكاري، أي الإنكار لعدم رؤيتهم وتقدير الكلام: ألم ينظروا؟ أي: أهل مكة وكفار قريش، ولم يروا، أي: ولم يعلموا علما جاريا مجرى الرؤية في الجلاء والظهور {كيف يبدئ الله الخلق}: أي يخلقهم ولم يكونوا شيئا مذكورا، ويخلقهم من نطفة من غذاء هو ماء وتراب، وهذه القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة، فإن الإعادة مثل البدء: ألم يعلموا كيفية خلق الله ابتداء من مادة ومن غير مادة، أي: قد علموا، {ثم يعيده} أي: ثم هو يعيد الخلق، ويردهم إلى الوجود في الآخرة عند البعث.
وحاصل المعنى في الآية الكريمة: أن إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن أرشد قومه إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه بما يشاهدونه في أنفسهم من خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، ثم أعطاهم السمع والبصر والأفئدة، وتصرّفهم في الحياة إلى حين، ثم موتهم بعد ذلك والذي بدأ هذا قادر على أن يعيد، بل هو أهون عليه كما قال في آية أخرى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}، أنتم قد علمتم ذلك فكيف تنكرون الإعادة وهي أهون عليه، والمعنى: ألم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء بنطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم ينفخ فيه الروح ثم يخرجه إلى الدنيا، ثم يتوفاه بعد ذلك، وكذلك سائر الحيوانات وسائر النباتات، فإذا رأيتم قدرة الله سبحانه على الابتداء والإيجاد أولا فهو القادر على الإعادة (تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، 21/265).
- {كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده}
وقد يقول قائل: أنا لم أشاهد نفسي كيف خلقت؟ فكيف يأمرنا الله عز وجل بالنظر في بدء الخلق؟ إن الله عز وجل جعل نظام البشر على أساس التوالد، فإذا كنت غائبا عن نشأتك، فهذه نشأة ابنك أمامك، فأنت تعلم علم اليقين أن هذا الابن الذي أمامك كان حوينا منويا وكان بويضة، ولقحت هذه البويضة، وتكاثرت ونمت، والتصقت بجدار الرحم، وجاءها الغذاء إلى أن أصبحت كائنا كاملا في تسعة أشهر، ثم خرجت إلى الدنيا، وبدأت تنمو، فهو الآن يلعب ويضحك، ويتثاءب ويتكلم ويبتسم ويأكل، له فم، وله لسان، وله لسان مزمار، وله مريء وله معدة، وله أمعاء دقيقة، وأمعاء غليظة وزغابات ماصة، وله كبد وله صفراء، وله بنكرياس وأوردة وشرايين وقلب، ورئتان وكليتان، وقصبتان ودماغ، ومخ ومخيخ، وبصلة سيسائية، ونخاع شوكي، وفقرات ظهرية وله عظام بعضها ثابت وبعضها متحرك، وعضلات وشعر، وأظفار، وله قوام وله نفس (تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، 9/205).
ودقق النظر في ظاهرة النبات، فهي وحدها ظاهرة كافية كي تسجد لله سجود الطائعين الموقنين، فالبذرة التي تزرعها لها غلاف، ولها مخزون من المواد، ولها رشيم كائن حي، فإذا جاءته الرطوبة وجاءه الغذاء وجاءه الضوء ينمو سويقا وجذيرا ويصبح شجرا له صفات لا يعلمها إلا الله، فلك أن ترى عملية نمو النبات لتعلم كيف يبدئ الله خلقه، فهذه البيضة التي تأكلها وتقول: أكلت اليوم بيضا، لو بقيت تحت أمها لأصبحت حيوانا كاملا فرخا نسميه "صوصا"، إذن من حوّل هذا السائل الأصفر والأبيض إلى كائن يتحرك ويزقزق ويلوذ بأمه، ويكبر وينمو، ثم تأكل منه لحما وتأكل منه طعاما لذيذا؟ الله عز وجل لم يبعدك عن وسائل الإيضاح، بل جعلها أمامك، وبثها في كل مكان، فربنا عز وجل يقول: {وفي الأرض آيات للموقنين} [الذاريات: 20]، فكلمة {يبدئ} إما من الإبداء أي: الإظهار، أو من الابتداء، وكلاهما صحيح، فالله عز وجل يظهر لك قدرته وعظمته من معرفة خلقك، فأنت لا تعرف ماذا في أحشائك، في الإنسان أشياء معقدة.
- {إن ذلك على الله يسير}
أي: بدء الخلق ثم إعادته يوم القيامة: {على الله يسير}، فالله عز وجل قرّب هذا من أذهاننا بأن الشيء إذا صنعته أول مرة فإنك تجد فيه جهدا كبيرا، وفي المرة الثانية يكون أهون، وفي الثالثة أهون، فنحن بني البشر إذا أردنا أن نعيد صناعة الشيء مرات ومرات، فلا بد من أن نستهله، ولله المثل الأعلى، فالخالق على الله عز وجل ليس كذلك، إنما أمره كن فيكون، وعلمه قديم، وكل شيء عليه يسير، ولكن ربنا عز وجل يدعونا إلى التفكر في أصل الكون، أليس الله قد خلقه؟ إذ لا يصعب عليه بناءه مرة ثانية.
فليس في خلق الله شيء عسير عليه سبحانه وتعالى، ولكنه يقيس للبشر بمقاييسهم، فالإعادة أيسر من البدء في تقديرهم وإلا فالبدء كالإعادة، والإعادة كالبدء بالقياس إلى قدرة الله، وإنما هو توجه الإرادة وكلمة: كن فيكون (في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/2729).
يخاطب القرآن الكريم البشر من خلال قصة إبراهيم عليه السلام كما في هذه الآيات بما يتماشى مع توجيهاته التي تناسب حياة الناس في أجيالهم جميعا، ومستوياتهم جميعا، وملابسات حياتهم ووسائلهم جميعا؛ ليأخذ كل منها بما تؤهله له ظروف حياته ومقدراته.
قوله تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير} [العنكبوت: 20]
إنها دعوة ربانية للسير في الأرض، وتتبّع صنع الله وآياته في الخلق والإنشاء، في الجامد والحي سواء ليدركوا أن الذي أنشأ يعيد بلا غناء.
والسير في الأرض يفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين ولم يملّها القلب، وهي لفتة عميقة إلى حقيقة دقيقة، وإن الإنسان ليعيش في المكان الذي ألفه فلا يكاد ينتبه إلى شيء من مشاهده أو عجائبه، حتى إذا سافر وتنقل وساح، استيقظ حسّه وقلبه إلى كل مشهد، وإلى كل مظهر في الأرض الجديدة، مما كان يمر على مثله أو أروع منه في موطنه دون التفات ولا انتباه، وربما عاد إلى موطنه بحس جديد وروح جديد؛ ليبحث ويتأمل ويعجب بما لم يكن يهتم به قبل سفره وغيبته، وعادت مشاهد موطنه وعجائبها تنطق له بعد ما كان غافلا عن حديثها؛ أو كانت لا تفصح له بشيء ولا تناجيه! فسبحان منزّل القرآن، الخبير بمداخل القلوب وأسرار النفوس (في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/2729).
- {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}
إن التعبير هنا بلفظ الماضي {كيف بدأ الخلق} بعد الأمر بالسير في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق، يثير في النفس خاطرا معينا ترى هنالك في الأرض ما يدل على نشأة الحياة الأولى، وكيفية بدء الخليفة فيها، كالحفريات التي يتتبعها بعض العلماء اليوم؛ ليعرفوا منها خط الحياة، كيف نشأت؟ وكيف انتشرت؟ وكيف ارتقت؟ وإن كانوا لم يصلوا إلى شيء في معرفة سر الحياة: ما هي؟ ومن أين جاءت إلى الأرض؟ وكيف وجد فيها أول كائن حي؟ ويكون ذلك توجيها من الله للبحث عن الحياة الأولى والاستدلال به عند معرفتها على النشأة الآخرة.
ويخاطب القرآن الكريم البشر من خلال قصة إبراهيم عليه السلام كما في هذه الآيات بما يتماشى مع توجيهاته التي تناسب حياة الناس في أجيالهم جميعا، ومستوياتهم جميعا، وملابسات حياتهم ووسائلهم جميعا؛ ليأخذ كل منها بما تؤهله له ظروف حياته ومقدراته، ويبقى فيها امتداد يصلح لقيادة الحياة ونموها أبدا.
وهذا من أهداف القصص القرآني في تقديم الدروس والعبر والفوائد عبر الأجيال المتعلقة بكتاب الله الكريم.
- {ثم الله ينشئ النشأة الآخرة}
أي: كما أن الشجرة في الخريف تجد أوراقها اصفرّت وأصبحت خشبا، فتظن أنه خشب يابس، ثم يأتي الربيع فتزهر هذه الأشجار، ثم تورق فإذا هي بهجة للناظرين، وكل ذلك حدث وجرى بفعل الله سبحانه وتعالى.
- {إن الله على كل شيء قدير}
يبدأ الله تعالى الحياة ويعيدها بهذه القدرة المطلقة التي لا تتقيد بتصورات البشر القاصرة، وما يحسبونه قوانين يقيسون عليها الممكن وغير الممكن بما يعرفونه من تجاربهم المحدودة، فالله عز وجل يتصف بكمال القدرة وبطلاقة المشيئة وتمام الإرادة، فهو الفعال لما يريد (في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/2730).
وقوله تعالى: {إن الله على كل شيء قدير} تعليل لما قبلها، فمن علم قدرة الله تعالى على جميع الأشياء، التي منها النشأة الآخرة، لا يتصور أن يتردد في وقوع الإعادة بعد ما أخبر الله تعالى به.
إن هذا الكون الفسيح ينطق بوجود الخالق القادر القاهر الله سبحانه وتعالى، بل كل ذرة ومجرة فيه تدل على بارئها وتنطق بذلك؛ ولهذا السبب وغيره تعددت وتنوعت الاستدلالات القرآنية على الله سبحانه وتعالى، واليوم الآخر وغير ذلك من العلوم الغيبية، من خلال كونه وخلقه فيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق