المواجهة العسكرية العثمانية والشعبية المصرية مع الفرنسيين بمصر
لم تكن الحملة الفرنسية عام 1798م مجرد حملة صليبية حربية، وإنما كانت هجمة استعمارية موجهة إلى قلب العالم الإسلامي، وأبرز ولايات الدولة العثمانية "مصر"؛ لأن الاحتلال يعلم أن العلاقة الوحيدة الممكنة بين القيادة الإسلامية والمستعمر الغربي تكمن في تغريب الأمة تماما، فكان عليه أن يجرد الأمة الإسلامية من الإسلام حتى يستطيع أن يبني ويحقق مصالحه، ولا بد للحروب أن تفشل مثل الحروب الصليبية وحملات التنصير طالما القيادة تبقى للإسلام.
فكانت هزيمة الأسطول الفرنسي في موقعة أبي قير البحرية قد شجعت الباب العالي على مهاجمة الحملة الفرنسية في مصر، فأعلن الحرب على فرنسا، وأصدر أوامره بإلقاء القبض على القائم بأعمال السفارة الفرنسية، وجميع رعايا فرنسا في العاصمة العثمانية، وإلقائهم في السجون، ولم تلبث وزارة الخارجية العثمانية أن دخلت مع إنجلترا من جهة، ومع روسيا من جهة أخرى في مفاوضات أسفرت عن عقد حلف دفاعي هجومي بين روسيا وتركيا (25 ديسمبر 1798م) وعن عقد حلف آخر بين تركيا وإنجلترا (5 يناير/كانون الثاني 1799م)، وكان العثمانيون يقومون في بلاد الشام باستعدادات جهادية ضد الحملة الفرنسية في مصر، مما جعل بونابرت يتخذ قرارا بأن يسبق أعداءه في شن هجوم عليهم قبل أن يهاجموه، فكانت حملته على بلاد الشام (فبراير/شباط – يونيو/حزيران 1799م) التي تمكنت من ضرب القوات العثمانية المتجمعة هناك، إلا أنها لم تستطع أن تحطم قوات أحمد باشا الجزار بسبب فشلها في الاستيلاء على عكا، وبعد عودة الحملة إلى مصر انتصر بونابرت في معركة أبي قير البرية 25 يوليو/تموز 1799م على قوة عثمانية اتخذت طريقها من رودس إلى مصر.
طلب كليبر من الصدر الأعظم فتح باب المفاوضات من أجل جلاء الفرنسيين عن مصر، وقد جرت هذه المفاوضات بالفعل في مدينة العريش، وأسفرت عما يسمى باتفاقية العريش
وكان من أهم نتائج هذه الموقعة حصول بونابرت من القائد العثماني مصطفى باشا الذي وقع في الأسر على معلومات تفيد بأن حربا عامة في أوروبا قد اندلعت ضد فرنسا، فغادر بونابرت مصر سرا إلى بلاده تاركا قيادة الحملة إلى الجنرال كليبر.
وعلى العموم فبعد رحيل بونابرت إلى فرنسا أقبل كليبر على تصريف الأمور بكل همة، فأعاد تنظيم الحكومة، وقسم القطر المصري إلى 8 أقاليم إدارية، وأبقى الدواوين التي أنشأها بونابرت في الأقاليم، كما نظم شؤون تحصيل الضرائب، وعني بضبط حسابات المديريات المختلفة إلى جانب عنايته بسائر فروع الإدارة، والاهتمام بنشاط ديزيه العسكري في الصعيد، إلا أن الضغوط المطالبة بالعودة إلى فرنسا أثرت على كليبر، وبادر بالكتابة إلى الصدر الأعظم في 17 سبتمبر/أيلول 1799م ينفي رغبة فرنسا في انتزاع مصر من تركيا، ويذكر الأسباب التي جعلت فرنسا ترسل حملتها إلى مصر، وهي محاولة إلقاء الرعب في قلوب الإنجليز، وتهديد ممتلكاتهم في الهند، وإرغامهم على قبول الصلح مع فرنسا، بالإضافة إلى الانتقام مما لحق بالفرنسيين من أذى على أيدي المماليك، وتخليص مصر من سيطرة البكوات، وإرجاعها إلى تركيا.
ثم طلب كليبر من الصدر الأعظم فتح باب المفاوضات من أجل جلاء الفرنسيين عن مصر، وقد جرت هذه المفاوضات بالفعل في مدينة العريش، وأسفرت عما يسمى اتفاقية العريش (24 يناير/كانون الثاني 1800م) التي نصت على:
1- جلاء الفرنسيين عن مصر بكامل أسلحتهم، وعتادهم، وعودتهم إلى فرنسا.
2- هدنة 3 شهور قد تطول مدتها إذا لزم الأمر، ويتم خلالها نقل الحملة.
3- الحصول من الباب العالي، أو حلفائه أي: الإنجليز، وروسيا على بلاده على أن تتعهد تركيا وحلفاؤها بعدم التعرض لهذا الجيش بأي أذى.
غير أن الحكومة البريطانية عندما بلغتها أنباء مفاوضات العريش كانت قد اتخذت موقفا من شأنه تعطيل اتفاقية العريش عن إبرامها؛ إذ كانت تخشى من أن يعود جيش فرنسا المحاصر في مصر إلى ميادين القتال في أوروبا، فترجح كفة الجيوش الفرنسية ويختل ميزان الموقف العسكري في القارة، ولما كان من المعتقد في ضوء رسائل الضباط والجنود الفرنسيين إلى ذويهم في فرنسا، والتي وقعت في أيدي رجال البحرية البريطانية: أن الحملة الفرنسية تمضي ببطء داخل الأراضي المصرية، فقد فضلت حكومة لندن أن يبقى الفرنسيون في مصر، أو يسلموا أنفسهم كأسرى حرب، ولذلك أصدرت في 15 ديسمبر/كانون الأول 1799م أوامر صريحة إلى القائد العام للأسطول البريطاني في البحر المتوسط اللورد كيث برفض أي اتفاق، أو معاهدة بشأن الجلاء عن مصر، ما دام هذا الاتفاق لا ينص على ضرورة أن يسلم الفرنسيون أنفسهم كأسرى حرب تسليما مطلقا دون قيد، أو شرط، فأعد كيث رسالة بهذا المعنى إلى كليبر وصلته في أوائل مارس/آذار 1800م.
وأمام هذا التحول المفاجئ لم يجد كليبر مفرا من وقف عملية الجلاء التي كان قد بدأها تنفيذا لاتفاقية العريش، ثم أسرع في صبيحة يوم 20 مارس/آذار 1800م بالزحف على رأس جيشه لوقف تقدم العثمانيين الذين وصلت طلائعهم إلى المطرية على مسافة ساعتين من القاهرة، فوقعت معركة "عين شمس" التي امتد ميدانها من المطرية حتى جهات الصالحية، وهزم الفرنسيون فيها العثمانيين هزيمة شديدة، وفي أثناء معركة هليوبوليس كان فريق من جيش الصدر الأعظم، وبعض عناصر المماليك قد تسللوا إلى داخل القاهرة، وأثاروا أهلها على الفرنسيين، فكانت ثورة القاهرة الثانية التي استمرت مدة شهر تقريبا من 20 مارس/آذار إلى 20 أبريل/نيسان سنة 1800م.
بطريرك الأقباط لم يقر يعقوب على تصرفاته، وكثيرا ما بذل له النصح بالعدول عن خطته، ولكن يعقوب كان يغلظ له القول، وكان يدخل الكنيسة راكبا جواده، ورافعا سلاحه، ولم يزدد إلا إمعانا في تأييد الفرنسيين
ولم يستطع كليبر إخماد الثورة إلا بعد التجائه إلى العنف، فدك القاهرة بالمدافع من كل جانب، وشدد الضرب على حي بولاق حيث تركزت الثورة، فاندلعت ألسنة النيران في كل مكان منه، والتهمت الحرائق عددا كبيرا من الوكالات، والخانات، فلم يجد سكان بولاق مفرا من التسليم، وتلاهم سكان الأحياء الأخرى، وتولى مشايخ الأزهر الوساطة، وأخذوا من كليبر العفو الشامل، والأمان، ولكنه ما لبث أن غدر بالمسلمين بعد أن خمدت الثورة، وكان اقتصاصه منهم رهيبا شديدا، فأعدم بعضهم، وفرض غرامات فادحة على كثير من العلماء، والأعيان، كما فرض المغارم على أهل القاهرة جميعا، ولم يستثن منهم الطبقات الشعبية الكادحة، وعهد كليبر إلى المعلم "يعقوب" أن يفعل بالمسلمين ما يشاء.
ومما يذكر: أن بطريرك الأقباط لم يقر يعقوب على تصرفاته، وكثيرا ما بذل له النصح بالعدول عن خطته، ولكن يعقوب كان يغلظ له القول، وكان يدخل الكنيسة راكبا جواده، ورافعا سلاحه، ولم يزدد إلا إمعانا في تأييد الفرنسيين.
ولم يمض على إخماد ثورة القاهرة إلا شهران حتى اغتيل كليبر في 24 يوليو/تموز 1800م بطعنة قاتلة من أحد طلبة الأزهر الشاميين، وهو سليمان الحلبي، ومن المعتقد: أن السلطات العثمانية كانت لها يد في مصرع كليبر. وفي 17 يونيو/حزيران احتفل الجيش الفرنسي احتفالا رهيبا بتشييع رفات كليبر، وبعد دفن الجثة أعدم سليمان الحلبي، وآلت القيادة العامة للحملة إلى الجنرال مينو باعتباره أكبر ضباط الحملة سنا، وكان هذا القائد من أنصار البقاء في مصر، وخط سياسته استهدف توطين الفرنسيين فيها إلا أن الضغوط الداخلية والخارجية اضطرته إلى مغادرة مصر بعد الهجوم المشترك الذي قام به الإنجليز والعثمانيون على الفرنسيين في مصر.
لقد تضافرت عوامل عدة أرغمت المحتلين الفرنسيين على الخروج من مصر في النهاية، منها تحطيم أسطولهم في معركة أبي قير البحرية، وسيطرة الإنجليز البحرية في البحر المتوسط، وتشديدهم الحصار على الشواطئ المصرية، مما أعجز الحكومة الفرنسية عن إرسال النجدات، والإمدادات إلى فرنسا في مصر، وانضمام الدولة العثمانية إلى أعداء فرنسا، والانقسام الذي حدث في صفوف الحملة، وبدأت بوادره منذ بدأ جيش بونابرت زحفه الشاق من الإسكندرية إلى القاهرة، ثم استفحل أمره بعد رحيل بونابرت، وخصوصا عقب مصرع كليبر، وإبان قيادة مينو للحملة، وجهاد الشعب المصري ضد الاحتلال الفرنسي الصليبي، ذلك الجهاد الذي تمثل في ثورتي القاهرة الأولى والثانية، وفي العمليات الجهادية التي اشتعلت في الدلتا، وفي المقاومة التي اشتدت في الصعيد. ودون أدنى شك كان لجهاد مسلمي مصر للحكم الفرنسي بالغ الأثر في زعزعة أركانه، وفي عجز الفرنسيين عن بلوغ غايتهم، وتنفيذ أهدافهم، وانهيار آمالهم في تشييد تلك المستعمرة الجميلة التي كانوا يحلمون باتخاذها نواة لإمبراطوريتهم الاستعمارية الجديدة في مصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق