الخميس، 27 يوليو 2023

هنا ليست القاهرة: عاصمة غريبة لوطن غريب

 هنا ليست القاهرة: عاصمة غريبة لوطن غريب

وائل قنديل

مفهوم العاصمة في كلّ العالم أنّها البنت البكر للوطن، الأكثر تعبيرًا عن روح الوطن وملامحه، والأكثر شعورًا بالأمن، والأشدّ تمسّكًا بروابط القرابة مع بقية مكوّنات هذا الوطن، منفتحة على الجميع، ومفتوحة أبوابها للكلّ، لا تختبئ خلف أسوار عالية، وبوّابات مرتفعة محصنة يقف عليها مدجّجون بالسلاح يرمقون كلّ قادم أو عابر أو زائر بنظرة كلّها توجس وارتياب، كأنّه خطر محتمل.

ليست العاصمة مشروعًا استثماريًا يُبنى بحسابات العوائد الربحية، ويربط الانتماء والانتساب لها بحجم ما يدفعه المقيم والزائر، بل هي عاصمة كلّ الوطن، ليست فئوية ولا عنصرية، ولا تنتقي سكانها وأهلها تبعًا للحالة المالية والمكانة الاجتماعية، أو المكان على خريطة السلطة والنفوذ والثروة، للفقراء فيها كما للأغنياء، تتسع لكلّ اللهجات والقسمات والملامح لكلّ أبناء الجغرافيا والتاريخ الواحد للوطن.

قبل أيام رأيتك، حيث أضاء أصحاب تلك التي تُسمّى "العاصمة الجديدة" في مصر بوّاباتها العملاقة شاهقة الارتفاع متجهّمة الملامح، والتي تقف على مداخلها الستة كأنها وحوش مفترسة مخيفة لكلّ قادم، يمسك بقيادها جنود لا يعرفون الابتسام، يوزعون أذون الدخول والخروج.

هذه ليست سمات العواصم ولا مواصفاتها، بل تليق تمامًا بالمنتجعات المغلقة على طبقة بعينها، أو تصلح لثقافة "الكيبوتس" والمجتمعات العرقية المغلقة، ذلك أنّ للعواصم ملامح وأصواتًا وعيونًا أخرى تفرح بغناء المتسكّعين وتستوعب مشاوير الجائلين على أقدامهم، من دون أن يستوقفهم أحد يفتش في هوياتهم أو يوقفهم باعتبارهم أعداءً محتملين حتى يثبت العكس بالرجوع إلى الفحص الأمني.

ليست العواصم خوّافًة بل مضيافة ومرّحبة بثقة واطمئنان على قدرتها على فرض نفسها رمزًا وطنيًا مقدّسًا لكلّ من فيها، من دون أن تنشئ لنفسها كيانًا تجاريًا تطلق عليه اسم "شركة العاصمة" تبحث، طوال الوقت، عن العوائد الكبيرة، ومن دون أن تفخر بأنها لا تحمّل ميزانية الدولة أيّة أعباء، على نحو ما ورد  في بيان حديثٍ للمتحدّث باسم رئاسة الجمهورية بشأن اجتماع رأس السلطة  مع رئيس شركة العاصمة الجديدة بحضور رئيس الشؤون المالية بالقوات المسلحة "حيث تم التأكيد على أنّ العاصمة الإدارية تحقّق عوائد كبيرة لمصر ولا تحمل ميزانية الدولة أي أعباء".

وبما أنّ العواصم هي بنات الأوطان الكبرى، فإنها تكون الأكثر شبهاً بالوطن، تستقي من ملامحه وصفاته وقيمه وأسلوب حياته، فإذا شاهت ملامح الوطن وصار غريبًا حتى عن نفسه، اكتسبت ابنته الكبرى المواصفات ذاتها، وآخر تقلبات الوطن تقول إنه بصدد الاستثمار في قيم الجندية بيعًا وشراءً، فيُعلن عن تسعيرةٍ للتفلّت من أداء الخدمة العسكرية، بالعملة الأجنبية، لمن تهرّبوا أو تخلّفوا، أو سافروا إلى الخارج فرارًا من الخدمة الإلزامية، وهذا قرارٌ أو عرضٌ تجاريٌّ أكثر إهانة لمفهوم الوطن نفسه من قرار شهادات الاستثمار ذات الربحية المعترفة بالدولار من دون الاهتمام كثيرًا بمعرفة مصدر هذه الأموال، فالمهمّ هنا أن تمتلئ خزائن القابضين على مفاتيح الوطن بالعملة الصعبة، وبالتالي لا قداسة أو اعتبار لشيءٍ إلا المكسب السريع.

والحال كذلك، لا غرابة، إذن، أن تكون تلك "العاصمة الجديدة" هي الابنة المدلّلة لهذه "الجمهورية الجديدة" التي تحتلّ تيترات المسلسلات التلفزيونية والفواصل الإعلانية، من دون أن تلامس وجدان المواطن، أو تشعره بأنه ينتمي لها كما تنتمي له، أو تُبادله حبًا بحبّ وحلمًا بحلم وأملًا بأمل ... 


عاصمة غريبة لوطنٍ مغتربٍ عن جذوره وثقافته وقيمه وأخلاقياته، فما الغرابة إذن؟.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق