الثلاثاء، 18 يوليو 2023

البساسيري خائن الخلافة.. يوم سقطت بغداد في أيدي الفاطميين

البساسيري خائن الخلافة.. يوم سقطت بغداد في أيدي الفاطميين

عُرف القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي بقرن الشيعة في التاريخ الإسلامي، ففيه ظهرت القوة السياسية الشيعية أوضح ما تكون عبر الفاطميين في مصر وجنوب الشام والمغرب، والحمدانيين في شمال الشام، والبويهيين في العراق وفارس، والقرامطة في الخليج العربي، وقد انتاب الخلافة العباسية، مُمثِّل الإسلام السني حينذاك، الضعف والوهن، وتحكَّمت فيها أهواء القادة والجند الأتراك.

كانت الانقلابات وثورات الأجناد والقادة الأتراك وعزل الخلفاء العباسيين الضعفاء وقتلهم، مثل "المنتصر" و"المعتز" و"المتقي" وغيرهم، سببا في انهيار سلطة الخلافة، فأصبح الخليفة ألعوبة في يد حاشيته، لا يستطيع الخروج من داره إلا بإذنهم، ولا يتحكَّم في أمواله إلا بأمرهم، إذا شاءوا عزلوه، وإن أرادوا قتلوه دون أن يلفظ كلمة. وحين اعتلى الخليفة "المستكفي بالله" العباسي عرش الخلافة سنة 333هـ/944م بأمر القادة الأتراك بعدما عزلوا الخليفة السابق المتقي؛ رأى أن نجاته وحفظ حياته مرتبط بتوازن القوى وردع هؤلاء الجنود والقادة، وأن الاستعانة بقوة عسكرية خارجية أمر لا مرد له.

كان البويهيون الفُرس في شمال إيران قد كوَّنوا لأنفسهم آنذاك دولة وجيشا قويا، واستطاعت هذه الدولة أن تتوسَّع حتى استولت على كامل بلاد إيران، فأضحوا على تماسٍّ مع دولة الخلافة العباسية في العراق، ومن هنا رأى المستكفي أن يُراسل هؤلاء الجيران الأقوياء الجدد ليُخلِّصوه من بأس الأتراك وانقلاباتهم في بغداد، وبالفعل استغل زعيم البويهيين "أحمد معز الدولة" هذا النداء، واستطاع الدخول بقواته العسكرية الكثيفة إلى بغداد وضبط الأوضاع الأمنية والعسكرية بها[1].

خريطة الدولة البُويهيَّة حوالي سنة 970م

شيئا فشيئا، بات البويهيون الشيعة السادة الجدد، والمُتحكِّمين في رقاب الجميع، فكأنما تخلَّص العباسيون من سادة لصالح آخرين غيرهم، حتى إن الخليفة المستكفي سرعان ما عزله البويهيون وألقوه في غيابات السجون ليقضي فيها أواخر سنوات عمره، وحتى يضمن البويهيون استمرار القوة والسيطرة العسكرية والتحكُّم في الجميع، لا سيما الجيش العباسي الذي غلب عليه الأتراك، راح ملوكهم وأمراؤهم يُعزِّزون صفوف قواتهم بجنود وافدين من الأصقاع كافة، لكنهم رأوا في العنصر التركي المجلوب من وسط آسيا وما وراء النهر خبرة وقوة وقدرة على الفتك بأعدائهم، وتقوية للنفوذ والسلطة.

كان "أبو الحارث أرسلان بن عبد الله التركي البساسيري" من جملة هؤلاء العساكر الترك، وقد قدم من وسط آسيا من مدينة "نسا" الشهيرة، فانخرط في سلك الجندية لدى الملك "بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه" (379-403هـ/989-1021م)، وظهرت أول إشارة إليه في مصادر التاريخ سنة 425هـ/1033م عندما اشترك في قمع الاضطرابات التي قادها العرب بزعامة "بني مزْيَد" في غرب بغداد، واستطاع البساسيري أن يُبدي كفاءة وحنكة عسكرية كبيرة، فارتفع شأنه، ووثق فيه البويهيون، ورقوه في مناصب الجيش ومباشرة الحروب[2].

طغيان البساسيري ومشروعه الخطير

أعاد البساسيري سيرة الأتراك الأولى مع الخلفاء العباسيين، بعدما أعطته انتصاراته العسكرية القوة والمكانة، وأصبح المُتنفِّذ المطلق في شؤون العراق وأجزاء واسعة من إيران، فجُبيت له الأموال، مُستغِلا فترة ضعف البويهيين وانكفائهم وصراعهم على العرش والزعامة. استغل البساسيري هذه الانشقاقات العائلية ووحَّد صف العساكر التركية التي دانت له بالطاعة والتبعية والولاء، ما سمح له باكتساب نفوذ أكبر على الخلافة العباسية تحت حكم الخليفة "القائم بأمر الله" (422-467هـ/1031-1075م)، ثم ضيَّق على الوزير العباسي "ابن المسلمة"، حتى إن "الخطيب البغدادي" المعاصر لتلك الأحداث قال في حق البساسيري: "لم يكُن الخليفة القائم بأمر الله يقطعُ أمرا دونه، ولا يحل ويعقد إلا عن رأيه"[3].

لم يكن البساسيري مجرد قائد عسكري تركي يتطلَّع للنفوذ والزعامة، كما تطلَّع إليها مَن سبقوه، بل كان فوق ذلك يُدبِّر لمشروع خطير للغاية، يتمثَّل في إسقاط الخلافة العباسية.

حاول الخليفة القائم ووزيره ابن المسلمة أن يجدا حلا ومُتنفَّسا يبعد عنهما تحكُّم البساسيري وقوته العسكرية والسياسية الهائلة، فالتقى الخليفة سرا مجموعة من القادة العسكريين المناوئين للبساسيري في بغداد عام 446هـ/1054م، وهو ما اعتبره البساسيري عداء سافرا، ومؤامرة تُحاك للنيل منه، فأعلن العصيان المسلح، وخرج يسلب بعض النواحي القريبة من بغداد لترهيب الخليفة ووزيره[4].

لم يكن البساسيري مجرد قائد عسكري تركي يتطلَّع للنفوذ والزعامة، كما تطلَّع إليها مَن سبقوه، بل كان فوق ذلك يُدبِّر لمشروع خطير للغاية، يتمثَّل في إسقاط الخلافة العباسية، وإحلال الفاطميين الشيعة الذين حكموا مصر والشام مكانهم، وبدلا من أن تصبح بغداد عاصمة الإسلام السني، تصبح منذ تلك اللحظة عاصمة الإسلام الشيعي، وقد مضى في مشروعه مُستغِلا ما لديه من صلاحيات وقدرات عسكرية وسياسية واسعة.

من جهتهم، عمل الفاطميون وخليفتهم "المستنصر بالله" وفق إستراتيجية هادئة وخطيرة، وهي نشر الدعاة الفاطميين في الآفاق، لا سيما في مواطن النفوذ العباسي بالعراق وإيران والجزيرة العربية؛ لاستمالة الناس كافة إلى الدعوة الإسماعيلية، والاعتراف بالإمامة الفاطمية، وأحقيتها بالخلافة وزعامة الأمة من العباسيين الضعفاء، واستطاع داعي دُعاة الفاطميين الاتصال بالبساسيري وبعض الأمراء البويهيين[5] الذين دانوا بالمذهب الشيعي، فالتقى الفريقان على مصالحهما المشتركة.

أدرك العباسيون خطورة نشاط الدعاة الفاطميين الإسماعيلية في مناطق النفوذ السني، وأرسل الخليفة القائم بأمر الله إلى الأمير البويهي "أبي كاليجار" في مدينة شيراز يُهدِّده بالاستعانة بالسلاجقة إن لم يقتل هؤلاء الدعاة ويقبض على زعيمهم "هبة الله الشيرازي". وقد علم الشيرازي بمضمون الرسالة، ففرَّ هاربا صوب العراق حيث عمل خفية وبنشاط كبير، ثم إلى الشام، ومنها عاد إلى قلعة الإسماعيلية في ذلك الوقت؛ القاهرة الفاطمية[6]، بعدما آتت دعوته أُكلها وانضم كثير من الناس لهم في العراق وإيران، وعلى رأسهم "أبو الحارث البساسيري" القائد التركي الشيعي الثائر، وبعض من بني بويه.

الاستعانة بالقوة السلجوقية

أدرك الوزير العباسي ابن المسلمة هذه التطورات ومدى خطورتها على وجود الدولة العباسية، لا سيما في ظل ما يحوزه البساسيري من النفوذ، وما كانت تفعله العساكر التركية في بغداد من نهب وسرقة كلما أرادت ذلك. وكان الوزير عاقلا ذكيا، فاجتمع مع الخليفة القائم بأمر الله، وتباحثا معا فيما يجب أن يُتخذ قبل استفحال خطر البساسيري ومشروعه؛ إذ إن الخطوة التالية له كانت إما قتل الخليفة وإما عزله. ورأى الخليفة ووزيره أن مناطق وسط آسيا وخراسان وأجزاء واسعة من إيران صارت في يد قوة عسكرية تركية سُنية جديدة، أسقطت النفوذ الغزنوي من وسط آسيا وإيران وحلَّت محلهم، وأن الاستعانة بهم واجب الوقت.

كانت القوة الجديدة هي "السلاجقة"؛ تلك القبائل التركية التي دانت بالإسلام على المذهب السني منذ قرن تقريبا، واستطاعت تحت زعامة قائدَيْها "دُقاق" وابنه "سلجوق" أن تخرج من طور الرعي والتبعية إلى التنظيم وتأسيس الدولة، ثم الانتصار على الغزنويين والاستيلاء على ميراثهم الحضاري والجغرافي في آسيا الوسطى وخراسان. ومن هناك انطلق السلاجقة في طور التمدُّد للاستيلاء على إيران بزعامة سلطانهم الجديد "طُغرل بك بن سلجوق" (429-455هـ/1063-1073م)، وبينما هم على هذه الحالة من الانتصار والتوسُّع؛ إذ جاءتهم رسائل استغاثة الخليفة القائم بأمر الله من بغداد، تشرح لهم الأوضاع السياسية[7]، وتحضُّهم على الدفاع عن مقام الخلافة أمام مؤامرة شيعية فاطمية تُدبَّر بأيادٍ تركية خائنة للخليفة.

انتهز طغرل بك هذه الفرصة الذهبية، وسار من همذان إلى بغداد عام 447هـ/1055م، فوصلها في شهر رمضان مُظهِرا السفر للحج، وكان على رأس مستقبليه الوزير ابن المسلمة، وكبار أعيان بغداد من العلماء والسادة والجنود وغيرهم، وكان البساسيري آنذاك في طور العصيان المسلح كما أسلفنا، وعلى أهبة الاستعداد لدخول بغداد واقتحامها، وحين أدرك أن السلاجقة حطوا رحالهم في بغداد، اتجه شمالا صوب مدينة واسط، ومنها إلى مدينة الرحبة على نهر الفرات حيث أخذ يُدبِّر خططه، واقفا في الوقت ذاته على الحدود مع بلاد الشام التي حكمها داعموه ومؤيدوه من الفاطميين.

دخل طغرل بك بغداد في الأخير، وبعد مشادات بسيطة وقعت بسبب سوء التفاهم بين عامة بغداد وعساكر السلاجقة، التقى بالخليفة القائم بأمر الله، الذي فرح به وأيقن أنه مُنقِذ العباسيين، ولهذا السبب أعلنه الخليفة القائم "سلطانا" على كل ما تحت يديه وما سيفتحه الله عليه، ثم ما لبثت العلاقة بين الخليفة والسلطان أن ازدادت قوة حين تزوج طغرل بك ابنة الخليفة القائم بأمر الله.

حلف البساسيري

في ذلك الوقت، راسل البساسيري الفاطميين وهو في مدينة الرحبة، والتقى ببعض دُعاتهم في العراق وإيران، وكان مما جاء في رسائله إليهم: "فإن أخذتم بأيدينا، أخذنا لكم البلاد، وإن قلدتمونا نجاد نصركم وإنجادكم، فتحنا من جهتكم الأغوار والأنجاد"[8].

ومن القاهرة جاءته الرسائل بالتطمين والتأييد من صديقه داعي الدعاة هبة الله الشيرازي، إذ أكَّد له أن الخليفة الفاطمي المستنصر بالله يدعمه ويؤيده، وسيُرسل إليه العتاد والسلاح والمال لإنجاح مهمته بإسقاط بغداد، وقتل الخليفة العباسي، ورفع راية الفاطميين في العراق. وبالفعل، أقنعَ داعي الدعاة الفاطمي الخليفة المستنصر بالله بإمداد البساسيري بالمدد والعتاد والأموال الكافية، وخرج داعي الدعاة على رأس فرقة عسكرية من القاهرة يحمل معه خمسمئة ألف دينار ذهبي، وخمسمئة فرس للقتال، وعشرة آلاف قوس، وذلك في وقت عاشت فيه القاهرة أزمة اقتصادية طاحنة[9].

كان داعي الدعاة هبة الله الشيرازي الرجل الأخطر حينذاك، فهو العقل المُدبِّر، والذراع الإعلامية والأيديولوجية لكامل المشروع الشيعي الإسماعيلي، وهمزة الوصل بين الخليفة الفاطمي ومؤسسة الدعوة الفاطمية في شتى بقاع العالم الإسلامي، كما أنه المُحرِّض والداعم الأكبر والمهندس لعملية الانقلاب التي قام بها القائد التركي أبو الحارث البساسيري على الخلافة العباسية. وقد انطلق الشيرازي من القاهرة إلى الشام، ثم أدرك حين وصل دمشق أن البساسيري وقواته العسكرية القليلة لن تفي بغرض السيطرة على العراق وبغداد، وراح يُراسل قادة المناطق والإمارات العربية الموالية للفاطميين أو أعداء العباسيين، مثل المرداسيين في حلب، وبني مروان في ديار بكر، وزعيم بني مزْيد "دُبَيْس بن صدقة" أمير منطقة الحِلّة وغرب العراق الشديد الخطورة والكثير التمرُّد على العباسيين[10].

كان السلاجقة حين دخلوا العراق قد استولوا على بغداد، ومنها أرسل السلطان طغرل بك ابن عمه "قتلمش" السلجوقي السرايا لضم مناطق شمال العراق، وفي القلب منها الموصل وما يجاورها، حتى مدن نهر الفرات شرقا مثل سنجار وغيرها. وفي مدينة سنجار وقع الصدام العسكري الأول بين البساسيري وداعميه الفاطميين والقبائل العربية الموالية له وبين السلاجقة بقيادة الأمير قتلمش وبعض الأمراء العرب الموالين للعباسيين، وقد تفوَّقت قوة البساسيري وحلفائه على قوة السلاجقة ومؤيديهم، الأمر الذي أدَّى إلى انهزام قتلمش، ثم أوقعَ البساسيري وفريقه مذبحة في العساكر السلجوقية والعربية الموالية بمنطقة سنجار في شوال سنة 448هـ/ديسمبر/كانون الأول 1056م[11].

كانت الهزيمة فاجعة، وتفاقمت الكارثة حين انضمَّت بعض القبائل العربية الكبرى في العراق بعد المعركة إلى تحالف البساسيري والفاطميين ضد العباسيين، مثل قبائل بني خفاجة وأمير واسط وأمير الكوفة، وأدرك السلطان طغرل بك أن الأمر يستدعي خروجه على رأس الجيش السلجوقي لسحق هذا التمرُّد قبل استفحاله.

من جانبهما؛ عمل البساسيري وداعي الدعاة الفاطمي على بث الفُرقة والفتنة في صفوف القوات السلجوقية التي رأسها السلطان طغرل بك وأخوه الأمير "إبراهيم ينال"، وهذا الأخير أرسل إليه البساسيري يُطمِّعه في السلطنة السلجوقية، ويُمَنِّيه بالطاعة والولاء، ويحضُّه على الانقلاب على أخيه؛ ليكون له الحل والعقد والأمر كله. وبالفعل رضخ الأمير ينال السلجوقي لإغراءات البساسيري، وأعلن العصيان المسلح على أخيه طغرل بك، ثم استولى على إقليم الجبل وعاصمته همذان، وهي مساحة شاسعة توجد الآن بين العراق وإيران، واضطر السلطان طغرل بك إلى الدخول في مواجهة عسكرية مع أخيه[12] للقضاء على هذا الانقلاب الذي هدَّد الدولة السلجوقية الوليدة في مهدها.

نجاح البساسيري وأسر الخليفة

عاد داعي الدعاة إلى الشام بعد هذا الانشقاق في المعسكر السلجوقي، واستغل البساسيري والقوى العربية الموالية له، مثل أمير الموصل "قريش بن بدران العقيلي" و"دبيس بن مزيَد"، استغلا هذا التشرذم السلجوقي، وابتعاد السلاجقة عن العراق صوب إيران، فاتجه حلف البساسيري إلى بغداد التي كان الطريق إليها مفتوحا بعد انسحاب السلاجقة، وأصبح الخليفة القائم بأمر الله بلا حول ولا قوة، لا يدري أيهرب من بغداد أم يظل فيها، إذ لم يكن يعلم ما سيحدث له في نهاية المطاف حين يستولي البساسيري على عاصمة الخلافة.

في النهاية، دخلت قوات البساسيري وقريش بن بدران العقيلي أمير الموصل إلى بغداد الغربية بسهولة، وبعد قتال دام يومين من أهل بغداد الشرقية، أدرك الخليفة القائم بأمر الله ضعفه، ثم طلب من الأمير قريش بن بدران العقيلي الأمان، فأمَّنه قريش على غير رغبة من البساسيري الذي أراد الانتقام من الخليفة، وإرساله مُهانا في قيوده إلى القاهرة عاصمة الفاطميين[13].

قرَّر قريش العقيلي أن ينفي الخليفة إلى مدينة "عانة" على نهر الفرات شمالي العراق تحت الإقامة الجبرية والمراقبة الدائمة، وقد وافق البساسيري على هذا الأمر شريطة أن يكتب الخليفة اعترافا وعهدا يُقِرُّ فيه أن العباسيين لا حق لهم في الخلافة مع أبناء فاطمة الزهراء "الفاطميين" في مصر. وقد وقَّع الخليفة المغلوب على أمره عهد التنازل، وخرج من بغداد منهزما بعد عز الخلافة والسلطان، وأرسل البساسيري هذا المحضر وكثيرا من آثار العباسيين إلى القاهرة التي استقبَلت هذه الأخبار بالفرح والاحتفالات العارمة[14].

وفي يوم الجمعة 13 ذي القعدة سنة 450هـ/31 ديسمبر/كانون الأول 1058م أُقيمت الخطبة للفاطميين في العاصمة بغداد، ودُعي فيها للخليفة الفاطمي المستنصر بالله لأول مرة، وزيد في الأذان "حي على خير العمل"، ثم وقع الوزير ابن المسلمة العباسي في أسر البساسيري في نهاية المطاف، ليُقرِّر إنزال عقوبة الإعدام فيه، وسقطت كامل بلاد العراق والأهواز في قبضة البساسيري والفاطميين لأول مرة منذ ظهور الفاطميين على مسرح الأحداث بنهاية القرن الثالث الهجري.

السلاجقة يعودون من جديد

أما في إيران؛ فقد كانت رحى المعركة بين طغرل بك وأخيه المنقلب إبراهيم ينال على أشدها، ولكن شيئا فشيئا، انفضَّت بعض القوات الموالية لإبراهيم ينال من حوله، وانضمَّت إلى السلطان طغرل بك، ومالت الكفة أكثر ناحية طغرل بك بعدما أرسل إليه ابن أخيه الأمير "ألب أرسلان" -السلطان الذي اعتلى العرش من بعده- قوات عسكرية سلجوقية كبيرة من خراسان، وحينها وقعت الهزيمة بإبراهيم ينال، ليُقرِّر طغرل بك قتله جراء انقلابه وعصيانه سنة 451هـ/1059م[15]، ويعود بعد ذلك السلاجقة يدا واحدة أشد قوة وصلابة.

وإذا كان طغرل بك قد تخلَّص من أخيه المناوئ، مُتقيا شر فتنة عظيمة، ومُعيدا توحيد الصفوف السلجوقية من جديد، فإنه أدرك بعد عام من الحرب الداخلية أن العدو الحقيقي مُتمثِّل في الفاطميين وذراعهم البساسيري المُنقلِب على الخلافة العباسية في العراق. ومن ثمَّ لملم طغرل بك صفوف قواته، واتجه صوب بغداد، وقد علم البساسيري بأخبار مجيء القوات السلجوقية، وأيقن أنه لا قِبَل له بها، ففرَّ من بغداد جنوبا إلى الكوفة، وبعد ذلك أرسل طغرل بك إلى أمير الموصل يُطالبه بالإفراج الفوري عن الخليفة القائم بأمر الله، وإعادته مُعزَّزا مُكرَّما إلى بغداد، فامتثل قريش بن بدران العقيلي لأوامر السلاجقة، وعاد الخليفة إلى بغداد في 11 ذي القعدة سنة 451هـ/24 ديسمبر/كانون الأول 1059م بعد عام كامل على نفيه وخلعه من الخلافة، ووقف السلطان طغرل بك في مقدمة مستقبليه وهو عائد إلى عاصمة الخلافة العباسية من جديد[16].

لم يكد الخليفة يستقر في بغداد حتى عَهِد السلطان طغرل بك إلى قائده "خمارتكين الطغرائي" بالمسير على رأس ألفَيْ فارس إلى الكوفة حيث يُقيم البساسيري ومؤيده الأكبر الأمير دبيس بن مزْيَد زعيم قبائل بني مزيد في غرب العراق وجنوبه، ثم عزَّز طغرل بك قائده بطائفة من العساكر العربية الموالية للعباسيين بقيادة "ابن منيع الخفاجي"، وقرَّر فوق ذلك المسير بنفسه في جيش آخر من خلفهم.

مقتل البساسيري وهزيمة المشروع الفاطمي

دارت بين الطرفين معركة ضارية عند الكوفة في منتصف شهر ذي الحجة سنة 451هـ/يناير/كانون الثاني 1060م، ويقول "المقريزي" في تاريخه عنها: "وافت العساكر (السلجوقية) البساسيريَّ ودُبيْسَ بن مَزْيَد، فكانت بينهم حروب آلت إلى انهزام دُبيس ووقوع ضَرْبة في وجه البساسيري سقط منها عن فرسه، فأُخذ وقُتل، وحُملت رأسه إلى طغرل بك فبعث بها إلى الخليفة القائم، فطيف بها على قناة في بغداد"[17].

عمَّ الفرح بغداد، وارتاح بال الخليفة القائم من تلك المأساة التي كادت تعصف به وبالخلافة العباسية. وبهذه النهاية للقائد العسكري البساسيري، طوى السلاجقةُ الأتراك فصلا من فصول التآمر اختلط فيه التعصُّب الطائفي مع مصالح أمراء العراق سُنَّة كانوا أم شيعة، ومن هنا، قرَّر جميع هؤلاء القادة وزعماء القبائل الذين وقفوا مع البساسيري سابقا أن يُقدِّموا شروط الولاء والطاعة للسيد الجديد؛ السلطان طغرل بك[18].

لعل حكاية البساسيري وخيانته للدولة العباسية التي كان أمينا عليها، ومدافعا عن مقام الخلافة فيها، تُعَدُّ فصلا من فصول التآمر الفج في تاريخنا، لكن إذا كانت الخيانة قد أحدثت من الأضرار والدماء ما عرفناه، فإن مجيء السلاجقة، ودفاعهم عن الخلافة، وتدميرهم للنفوذ الفاطمي في العراق، وقتلهم للبساسيري، جعلهم يتطلَّعون بدورهم إلى التمدُّد والنفوذ والسلطان، وكذلك إلى طرد الفاطميين من الشام وفلسطين، وهو ما تمَّ لهم في نهاية المطاف، قبل أن يُحقِّقوا النصر الأعظم على البيزنطيين في الأناضول بعد معركة "ملاذكرد" الشهيرة عقب تلك الأحداث باثنتي عشرة سنة فقط سنة 463هـ/1071م، ليطأ الإسلامُ أرضا جديدة، سيخرج منها العثمانيون الفاتحون للقسطنطينية ولشرق أوروبا بعد ذلك بقرنين ليس إلا.

المصادر

  1. إبراهيم أيوب: التاريخ العباسي السياسي والحضاري ص152، 153.
  2. ابن الأثير: الكامل في التاريخ 7/763.
  3. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 9/400.
  4. حيدر عزوز: حركة البساسيري، مجلة العلوم الإنسانية لجامعة بابل، العدد الأول.
  5. سيرة المؤيد في الدين داعي الدعاة ص43- 45.
  6. السابق ص64، 65.
  7. ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/218.
  8. سيرة المؤيد في الدين ص96.
  9.  سيرة المؤيد في الدين ص98- 100.
  10. محمد جمال الدين سرور: تاريخ الدولة الفاطمية ص333.
  11. ابن الأثير: الكامل 8/77.
  12. ابن الأثير 9/223.
  13. ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 5/6، 9، 11.
  14. المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار 3/225.
  15. العماد الأصفهاني: تاريخ دولة آل سلجوق ص191، 192.
  16. الحسيني: أخبار الدولة السلجوقية ص21، 22.
  17. المقريزي: اتعاظ الحنفا 2/257.
  18. الحسيني: أخبار الدولة السلجوقية ص21.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق