لماذا إذكاء نار الذكاء الاصطناعي؟
جعفر عباسلا يكاد يمر يوم على أداة إعلام في أي بلد، دون الخوض في أمر الذكاء الاصطناعي، بما يوحي بأنه طفرة تقنية قادمة ستؤدي ـ من بين أمور أخرى ـ إلى تغيير طرق أداء الأعمال، بينما حقيقة الأمر هي أن معظمنا ظل يستفيد من الذكاء الاصطناعي على مدى السنوات القليلة الماضية، فهو حاضر في هواتفنا، وحاضر في الروبوتات التي تؤدي أعمالا عالية التعقيد، وفي أنظمة تحديد المواقع عبر الأقمار الصناعية، وفي جميع مدن العالم، يستخدم الملايين من سائقي السيارات نظام ويز ليحدد لهم أي الطرق يؤدي الى الوجهة المنشودة، وقد يوصي ويز باستخدام طريق ما ذهابا، ولكنه يوصي بتجنبه إيابا لأن به اختناقات مرورية.
كنت رئيسا لقسم الترجمة والعلاقات العامة والإعلامية بشركة الاتصالات القطرية في تسعينيات القرن الماضي، عندما ذاع أمر طرح عملاق الانترنت غوغل لبرنامج يقوم بالترجمة من وإلى جميع اللغات الحية بكفاءة عالية، فاستشعرت الخطر، وذهبت إلى مدير الشركة وأبلغته بأنني اعتزم الانتقال إلى وظيفة في التلفزيون، ولم يكن من بُدّ من إبلاغه بأن الشركة لن تكون بحاجة إلى خدماتي بعد شيوع استخدام برنامج غوغل للترجمة، فاتهمني الرجل بأنني متخلف تكنولوجيا، وقدم دليلا على ذلك بقوله إن برنامج غوغل للترجمة متاح سلفا منذ عدة أشهر، وطلب مني استخدام ذلك البرنامج لأحكم بنفسي على مدى تهديده لمهنة الترجمة بواسطة البشر، وعكفت على مدى أيام على تكليف البرنامج بترجمة نصوص من وإلى اللغتين العربية والإنجليزية، ثم أنشدت بيت الشعر الذي بات على كل لسان:
زعم الغواغل أن ستقتل جعفرا
فأبشر بطول سلامة يا جعفر
والغواغل هي مجموعة برمجيات غوغل
(حدث توارد خواطر بيني وبين الشاعر الأموي جرير بن عطية، فله بيت من الشعر شطره الأول "زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا"، وبيني وبينه ود حميم، فهو مثلي معتدٌّ بأصوله وأسرته البسيطة، ويقال إن رجلا سأل جريرا من أشعر الناس؟ فجذبه جرير مغضبا وقاده إلى منزله، وأوقفه عند رجل دميم، قد انتحى في زاوية من البيت، وقد دس رأسه بين رجلي عنز يرضعها، فقال له: أو تعرف هذا؟ قال: لا، قال: أو تعرف لماذا يفعل هكذا؟ قال: لا، قال: إنه يرضع هكذا، مخافة أن يسمع الناس شخب اللبن عندما يحلب عنزه، هذا هو أبي، وأشعر الناس من قارع بهذا الأب ثمانين شاعرا فغلبهم جميعا).
ثم كانت هوجة Y2K فعند اقتراب السنة الأولى من الألفية الثالثة، ساد الذعر في أرجاء المعمورة، وتبارى الإعلاميون والعلماء والسياسيون لرسم سيناريوهات القيامة، وقيل إنه وبحلول عام 2000 ستصاب أنظمة الكمبيوتر بلوثة لأنها ستحيل تلقائيا الصفرين الأخيرين من ذلك الرقم إلى 1900، لأن 00 لا يأتيان عند العدّ بعد الرقم 99، وإنه وبسبب ذلك ستنهار شبكات الاتصالات والكهرباء وتصطدم الطائرات ببعضها البعض، وتنهال الأقمار الصناعية التي تطوف في الفضاء على الرؤوس كالشهب، وكانت هوجة ارتزقت من ورائها شركات برامج الكمبيوتر، واتضح أن الحكاية برمتها كانت زوبعة مفتعلة في معظم عناصرها.
يسمح الذكاء الاصطناعي لجهاز الحاسوب أن يفكر، ويتصرف، ويستجيب كما لو أنه إنسان. بعد تزويده بكميات هائلة من المعلومات والبيانات، ليتم تدريبها على تحديد الأنماط الموجودة فيها؛ فتصبح قادرة بعد ذلك على إنتاج تكهنات، وحل المشكلات، وحتى التعلم من أخطائها، ومن ثم تصبح الحواسيب الرقمية قادرة على القيام بأعمال معينة تشابه المهام التي تقوم بها الكائنات الذكية (البشر)، ومن الأمثلة على ذلك؛ القدرة على التعلم من التجارب السابقة، والتفكير بالأحداث الماضية والراهنة والمستقبلية، والقيام بمهام تتطلب نشاطا ذهنيا.
ويجري حاليا تطوير برمجيات الذكاء الاصطناعي بحيث تمتلك قدرة كبيرة من شأنها أن تحدث ثورة في عالم الأعمال، مما يُثير تساؤلات عديدة حول الوظائف التي يمكن أن يؤديها الذكاء الاصطناعي بدلا من الإنسان. وذكر تقرير صادر عن بنك الاستثمار الأمريكي، غولدمان ساكس، إن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحل محل ما يعادل 300 مليون وظيفة بدوام كامل خلال السنوات القليلة المقبلة، عندما تتم "أتمتة" بعض المهام والوظائف في جميع أنحاء العالم. ولا يستبعد التقرير أن تقوم تقنيات الذكاء الاصطناعي بمهام 25% من الوظائف في الولايات المتحدة وأوروبا. خاصة في القطاعات الإدارية، والقانونية، والهندسة المعمارية، والطبية.
ولا شك في أن الكمبيوتر أحدث نقلات كبرى في كل مجالات الحياة، ثم جاء الأنترنت وقيل إنه سيستولي على وظائف البشر ويتسبب في تفشي البطالة وبائيا، ثم صار الأنترنت حقيقة واقعة تعزز ديمقراطية المعرفة، حيث صارت المعلومات متاحة للملايين في كل البلدان، وما حدث تاليا هو أنه وفي جميع مواقع العمل تمددت إدارات تقنية المعلومات من حيث الموارد والكوادر البشرية، ولم يحدث التشريد المرتقب لقوى العمل، فالكمبيوتر وما ترتب عليه من تطور وطفرات تكنولوجية من صنع العقل البشري، والبشر هم من يتحكَّمون فيه وفيها، والذكاء الاصطناعي خرج من رحم الكمبيوتر والأنترنت، والتلميذ قد يتفوق على المعلم، ولكن المخلوق لا يتفوق على خالقه، وعليه فلا سبيل لتفوق الذكاء المصطنع على ذكاء من صنعه ويتولى إدارته وتطويره ووضع الضوابط لاستخدامه.
ولكن وكما أن الأنترنت وبكل فوائده ومزاياه الضخمة أنجب نوعا جديدا من الجرائم، عبر اختراق الحسابات (التهكير) أو اختلاق حسابات وهمية، فإن الذكاء الاصطناعي قابل للاستخدام في الاحتيال الإلكتروني، والاختراقات السيبرانية، والتضليل الإعلامي، والتلاعب بالأسواق الاقتصادية، وغيرها من الأنشطة غير القانونية وغير الأخلاقية، وهنا أيضا يبقى دور البشر كما هو الحال مع جرائم الأنترنت الأخرى حاسما، وفي وجهي مخاطر وفوائد الذكاء الاصطناعي يبقى دور الذكاء البشري هو الأعلى والأرقى، ومن ثم فالتهليل للذكاء الاصطناعي والتهويل من قدراته وإذكاء المخاوف حول ما سيترتب عن استخدامه، أمر مفتعل كما الضجة حول برنامج غوغل للترجمة وسيناريو القيامة بحلول عام 2000.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق