الأحد، 23 يوليو 2023

معالم الجاهلية

 معالم الجاهلية

د. فتحي جودة

جاءت كلمةُ الجاهليةِ في أربعةِ مواضعَ في كتابِ اللهِ عز وجل .. وكلُ موضعٍ أضاف مَلمَحًا من ملامحِ الجاهليةِ ومعلمًا من معالمِها، بحيث أننا حينما نَجمع المعالمَ الأربعةَ تبدو لنا الجاهليةَ واضحةً جليةً لا تَتلبَّس على أحد

ففي الآيةِ الأولى ـ بترتيب المصحفِ ـ في سورة آل عمران يقول الله عز وجل  يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ  (آل عمران / من الآية 154) .. يظنون بالله غيرَ الحقِ، أي يَعتقدون في الله غيرَ الحقِ .. وهذا تقريرٌ وحكمٌ على أن اعتقادَ الجاهليةِ في اللهِ يكون غيرَ الحقِ .. هذا الاعتقادُ الذي وصفهُ اللهُ أنه غيرَ الحقِ هو ظنُ الجاهليةِ .. فالآيةُ الأولى تقرر أن الجاهليةَ لها اعتقادٌ، ولها فلسفةٌ، ولها فكرةٌ، ولها تصورٌ، ولكنَّ هذا التصورَ هو غيرُ الحقِ .. وهذا هو المعلمُ الأولُ، أنهم يظنونَ بالله غيرَ الحق ظنَّ الجاهليةِ.

الآيةُ الثانيةُ في ترتيبِ المصحف ..يقول الله تعالى في سورة المائدة  أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ  (المائدة / الآية 50) .. وهنا أَسند اللهُ عز وجل للجاهليةِ حكمًا، فكما أنَّ للجاهليةِ اعتقادَا فإنَ لها أيضًا حكمًا، لأنَّ من طبيعةِ المجتمعِ البشريِ ألا يعيشَ بدون حكمٍ وبدون نظامٍ .. فاللهُ عز وجل يسأل سؤالًا استفهاميًا استنكاريًا  أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ  .. إذن هناك حكمانِ .. حكمُ الجاهليةِ، ويقابله حكمُ الله .. وهو ـ سبحانه ـ يُقرِر أنه لا ينبغي للناسِ أن يَقبَلوا حكمَ الجاهلية، ولا أن يَرضَوا بحكمِ الجاهليةِ إنما ينبغي عليهم أن يَقبَلوا حكمَ اللهِ ويَرضَوا به ويُحقِقُوه في واقِعهم.
والآيةُ الثالثةُ يقول الله عز وجل في سورةِ الأحزابِ  وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى  (الأحزاب/ من الآية 33) .. وهنا وصف الجاهلية أنها نظامٌ احتماعيٌ مُتَفَسِخٌ مُتبرجٌ .. فالتبرجُ سمةٌ من سماتِ الجاهليةِ، والتبرجُ في الحياةِ الإنسانيةِ هو الخروجُ عن الفطرةِ .. وهو البعدُ عن تكريمِ اللهِ عزَ وجل للإنسانِ، بالانسلاخِ عن الفطرةِ الإنسانيةِ التي كرمهَا اللهُ ..
إذن من صفاتِ المجتمعِ الجاهليِ أنه مجتمعٌ مُتَفَسخٌ ومُنحَطٌ اجتماعياً، وفاسدُ الفطرةِ واﻷخلاقِ، وهو بذلك يحول دون استقامةِ الإنسانِ، ويحول بين استعدادِ الإنسانِ لتَلَقِّي أنوارِ الحقِ حينما يَمسَخُه مسخًا كاملاً، وبالتالي تَتَمَيعُ الفواصلُ بين الرجلَ والمرأةِ وهذا هو واقعُ حياةِ المجتمعاتِ اليومِ.
والآيةُ الأخيرةُ التي تتحدث عن الجاهليةِ هي قولُ اللهِ عزَ وجل في سورةِ الفتحِ  إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ  (الفتح / من الآية 26) .. وهنا نأتي إلى آصرةِ الترابطِ بين المجتمعاتِ الجاهليةِ بعضِها مع بعضٍ ، أو بين الأفرادِ الجاهليين بعضُهم مع بعضٍ .. فالحميةُ العصبيةُ، ورابطةُ العنصريةِ ـ عنصريةُ اللونِ، عنصريةُ اللغةِ، عنصريةُ المصالحِ، عنصريةُ الترابِ، عنصريةُ الأرضِ، أو أيُّ رابطةٍ عنصريةٍ من هذه الروابطِ ـ هي التي تَربطُ الجاهليةَ بعضها ببعضٍ، فيتحاربون فيما بينهم من أجل الأرضِ، ومن أجل الجنسِ، ومن أجل اللونِ، ومن أجل اللغةِ، وهذه كلُها روابطُ لا تؤدي إلى تجمعِ الجنسِ البشريِ، بل تؤدي إلى تَناحُره وتَفتُتِه
ومن استعراضنا لمعالمِ الجاهلية الأربعةِ يتبينُ لنا أن مفهومَ الجاهليةِ كما جاءتْ في القرآن الكريم أنها نظامٌ متكاملٌ له اعتقادٌ خاطئٌ وضالٌ وله حكمٌ خاطئٌ وضالٌ وله أيضًا نظامٌ اجتماعيٌ مُتفَسخٌ ومنحطٌ، ومصادمٌ للفطرةِ البشريةِ .. وله روابطُ تؤدي إلى تمزقِ الكيانِ الإنسانيِ وتَشتُته فرداً وجماعةً ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق