الأربعاء، 26 يوليو 2023

لماذا تستعصي المنطقة العربية على الديمقراطية؟

 

لماذا تستعصي المنطقة العربية على الديمقراطية؟

عشر سنوات كاملة مرت على الثورة المضادة التي أطاحت ببشائر الديمقراطية في منطقتنا العربية بعد ربيع عربي قصير، شمل عددا محدودا من الدول بدءا من تونس ثم مصر وليبيا واليمن وسوريا، وإذا كانت الأولى قد نعمت بنسمات الديمقراطية لمدة عشر سنوات فإن الثانية نعمت بها لمدة عامين ونصف العام، فيما دخلت الثلاث الأخريات حروبا أهلية لا تزال مستمرة حتى الآن.

وإذا كانت بعض الأقطار العربية الأخرى قد بادرت بإصلاحات مؤقتة لتمرير موجة الربيع مثل: المغرب، والأردن، وموريتانيا، فإن بقية الدول العربية ظلت رافضة للإصلاح، وهو ما أوقع بعضها في موجة تالية لهذا الربيع في لبنان والعراق، لكن الطائفية البغيضة أفسدتها، وقتلتها في مهدها، ثم اخترقت رياح التغيير جدران دول أخرى مثل الجزائر والسودان ففرضت حلولا وسطا في الجزائر بين الجيش وقوى التغيير، وأطاحت بالرئيس العجوز بوتفليقة، وإن استمرت الغلبة لسلطة الجيش، وأطاحت في السودان بحكم البشير الذي استمر 30 عاما، لكنها لم تنتج حكما مدنيا بديلا، وبدلا من ذلك دخل السودان في حرب أهلية طاحنة.

ثمن الديمقراطية

نعرف أن الشعوب والدول الديمقراطية لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بنضالات وتضحيات كبيرة، لنتذكر فقط هبات ومعارك الأوربيين ضد الحكم الملكي الاستبدادي، وهيمنة النبلاء والإقطاعيين على السياسة، ونتذكر ملايين الأرواح التي أزهقت في تلك الحروب والمعارك حتى تمكنت تلك الشعوب من نيل حريتها، وامتلاك إرادتها، وتأسيس نظم ديمقراطية معبرة عنها، وهو ما تكرر بدرجات متفاوتة في دول وشعوب أخرى في أوربا الشرقية وثوراتها، وفي أمريكا اللاتينية أيضا وانتفاضاتها، وإفريقيا وآسيا، اللتان نالت غالبية دولهما حقوقها الديمقراطية الأساسية، وأصبحت تتمتع بنظم حكم ديمقراطية، تتداول السلطة فيها أحزاب متنوعة، ويتعرض قادة وحكام تلك الدول للعزل والمحاكمة والحبس عند تجاوز القوانين.

موجات من المد الديمقراطي اجتاحت أماكن مختلفة من العالم عبر العقود الماضية، ونقلت تلك الدول إلى مصاف الدول الديمقراطية الحديثة، وتعرضت تجاربها الديمقراطية الوليدة لهزات ارتدادية لكن شعوبها تصدت للثورات المضادة، وحافظت على مكاسبها الديمقراطية، بل عززتها بالمزيد.

المنطقة العربية ظلت عصية حتى الآن على الديمقراطية المستدامة، لكن هذا لا يعني توقف النضال من أجلها، حيث لا تزال التحركات مستمرة بطرق مختلفة ضد الاستبداد، ففي مصر يتصاعد الحراك السياسي تدريجيا قبيل الانتخابات الرئاسية المتوقعة بنهاية العام، كما تتصاعد التحركات المناهضة للرئيس التونسي قيس سعيد، وقيمة تلك التحركات أنها تحافظ على سخونة المشهد حتى موعد الانتخابات الرئاسية مطلع العام المقبل والتي يراهن عليها التونسيون للخلاص من حكم سعيد (إذا لم يؤجل الانتخابات مستندا إلى دستوره الجديد).

الهامش الديمقراطي

بعيدا عن الدول العربية التي لا تعرف الممارسات الديمقراطية، هناك مجموعة من الدول العربية تتمتع بهامش ديمقراطي محدود، تتصدرها الجزائر التي تمكن شعبها من توسيع ذلك الهامش بعد حراك 2019، والمغرب التي يحكمها نظام ملكي يسمح تقليديا بهامش محدود طيلة العقود الماضية، ومثلها الأردن، وموريتانيا، والعراق، والكويت، أما لبنان فتحكمها ديمقراطية طائفية مشوهة، وفي هذه الدول تسعى القوى السياسية لتطوير الهامش الديمقراطي بالتدريج، ولكنها أنظمتها سواء كانت ملكية أم جمهورية تقاوم ذلك بشدة، وتحتفظ بسلطتها في توسيع أو تضييق هذا الهامش وفقا لتقديراتها.

وهناك مجموعة من الدول العربية تعاني حروبا أهلية، بسبب تحرك شعوبها لنيل حريتها، بدأت مبكرا في سوريا، لكن دولا إقليمية على رأسها إيران وروسيا تدخلتا لدعم نظام بشار، ولمواجهة الثورة ضده ، وتحويلها إلى حرب أهلية، وهو ما تكرر في ليبيا التي تدخلت عواصم الثورة المضادة لمواجهة ثورة فبراير، فحرضت الجنرال حفتر على الانقلاب، ومحاولة السيطرة على حكم ليبيا، وقد تصدى له ثوار فبراير خصوصا في المنطقة الغربية، وأفسدوا عليه وعلى حلفائه خطتهم، لكنهم (أي ثورا 9 فبراير لم يستطيعوا حسم الأمر تماما لصالحهم حتى الآن، ومن هنا لا تزال المحاولات جارية للتوصل إلى صيغة مقبولة من الجميع لإنهاء الحرب الأهلية، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية تنقل البلاد من الاحتراب إلى الاستقرار.
وفي اليمن تدخلت الأطراف الإقليمية مجددا لإفساد ثورة الشعب اليمني، وحرمانه من حقه الطبيعي في الحرية والديمقراطية.
وأخيرا عصفت الحرب الأهلية بأحلام الديمقراطية والحكم المدني في السودان بعد التحركات التي أطاحت بنظام البشير، ولكنها فشلت لاحقا في إرساء حكم مدني بسبب سعي فريق للاستئثار بالسلطة وإقصاء قوى وازنة أخرى في المجتمع، وهو ما فتح الباب لإحداث وقيعة بين الجيش السوداني وقوات التدخل السريع، تحولت حربا مدمرة لا تزال مشتعلة حتى الآن.

لماذا الاستعصاء؟

هل يعود هذا الاستعصاء الديمقراطي إلى الموروث الديني؟ أم إلى البيئة الصحراوية والقبلية؟ أم إلى الاستعمار أم التخلف؟ الخ.. الحقيقة أن خلطة من هذه العوامل أو بعضها هي السبب، رغم أن بعض هذه العوامل حاضرة لدى شعوب أخرى لكنها لم تعرقل تطورها الديمقراطي، بل إن وجود هذه العوامل لم يمنع وجود حكم الشورى في صدر الإسلام في قلب منطقتنا (دولة الخلافة الراشدة) والذي هو أسمى من الديمقراطية المعاصرة كما أن العديد من الدول عانت طويلا من الفقر والاستعمار لكنها دخلت نادي الديمقراطيات الناشئة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

الحقيقة أن الفهم الخاطئ للدين فيما يتعلق بطاعة الحكام (ولو جلد ظهرك وأخذ مالك) وهو الفهم الذي زرعه الاستعمار وأكمله من بعده الحكام المستبدون، في حين تم تغييب فقه التغيير وإنكار المنكر (مثل الاستبداد) وتخويف الشعوب من مخاطر التغيير، فتعاقبت أجيال تخشى التغيير وتخشى التضحيات.

والسؤال الآن هل سيستمر هذا الاستعصاء الديمقراطي، وهل أصبح قدرا لا فكاك منه؟

الحقيقة أن ثورات الربيع العربي في موجتها الأولى كسرت هذه التابوهات، وقدمت الدليل العملي لإمكانية التغيير، لكن الذين قادوا تلك الموجة لم يحسنوا التعامل مع تحدياتها، إما لضعف خبراتهم أو لقوة خصومهم، وإذا استطاعوا مراجعة مواقفهم، وتحسين أدائهم، واستيعاب خبرات تجارب انتقال ديمقراطي سابقة مثل تشيلي فإنهم سيتمكنون من إرساء ديمقراطية مستدامة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق