المهاجرون المصريون بعد 10 سنوات من الانقلاب
عشر سنوات مرت على موجة الهجرة السياسية الأحدث من مصر عقب انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، لم تكن تلك الموجة الأولى للهجرات السياسية المصرية، وقد لا تكون الأخيرة وإن لم نتمنّ ذلك.
تختلف الهجرة السياسية عن الهجرات التقليدية، فالأخيرة هي بحث عن حياة أفضل وأماكن أفضل دون أن يصحب ذلك أية ضغوط سياسية أو أمنية، على خلاف الهجرة السياسية التي تكون نتيجة لحروب أو صراعات سياسية، أو ضغوط أمنية شديدة تجعل الحياة في الوطن شبه مستحيلة.
المعارضة المصرية عرفت طريقها للهجرة طيلة الحقب السياسية منذ 1952، حيث كانت الموجة الأولى لمهاجرين أو معارضين ينتمون للإخوان المسلمين والوفد عقب انقلاب 23 يوليو 1952 ودخوله في معركة استئصال للقوى السياسية القديمة وخاصة الوفد والإخوان والشيوعيين، وكانت تلك الهجرة إلى أوروبا وأمريكا ودول الخليج، ثم كانت هجرة الناصريين واليساريين أواخر عهد الرئيس السادات إلى سوريا وليبيا والعراق، وفرنسا وبريطانيا، وكانت هجرة بعض الجماعات الإسلامية في عهد مبارك إلى أفغانستان، وإيران، والسودان، وبريطانيا أيضا، لنصل إلى الموجة الجديدة التي انقسمت بدورها إلى مرحلتين، كانت أولاهما هجرة مناهضي الانقلاب العسكري عقب فض الاعتصامات (آب/ أغسطس 2013) وغالبيتهم من القوى الإسلامية مع أفراد ليبراليين أو يساريين، ثم كانت المرحلة الثانية هي هجرة رموز وكوادر علمانية (يسارية وليبرالية) بدءا من العام 2016، عقب الشرخ الأول في العلاقة بين قطاع من أنصار 30 يونيو ونظام السيسي بسبب تنازله عن جزيرتي تيران وصنافير، وتأكدهم من أنهم لا مكان لهم في العهد الجديد وهم الذين دخلوا المعركة بقوة مع الجيش ضد الإخوان ظنا منهم أن الجيش سيترك لهم الحكم بعد نهاية المعركة!!
لم يكن المهاجرون المصريون يتوقعون أن تطول فترة هجرتهم عن شهور، فإذ بها تمتد لعشر سنوات حتى الآن، وبسبب تلك القناعة فقد عاشوا بعقلية المرتحل الذي ينتظر لحظة عودته إلى وطنه، فلم يتأقلموا بالقدر الكافي مع ظروف ومتطلبات الهجرة، ولم يحرصوا بالقدر الكافي على الاندماج في المجتمعات التي هاجروا فيها إلا بالقدر الذي تتطلبه حياتهم اليومية. ليس هذا عيبا أو مسبة بقدر ما هو تمسك بحق العودة العاجلة، وإصرار على ذلك، فلا كرامة للإنسان إلا في وطنه في نهاية المطاف، شريطة أن يتوفر الحد الأدنى من الحرية والكرامة.
كانت النسبة الغالبة -ولا تزال- للمهاجرين المصريين (خصوصا الإسلاميين) في تركيا التي كانت الوجهة الرئيسية عقب الانقلاب، ثم توافد إليها تباعا من قصدوا دولا أخرى مثل السودان أو ماليزيا والتي أصبحت مع الوقت غير مناسبة بسبب مشكلات سياسية أو قانونية، بينما كانت فرنسا وبريطانيا وكندا والولايات المتحدة هي الوجهة المفضلة للقوى العلمانية حتى وإن مر بعضهم بتركيا كمحطة عبور.
لم تكن الهجرة سواء بالنسبة للإسلاميين أو لغيرهم هربا من المواجهة، أو إيثارا للسلامة والأمان، بل اختيارا لمكان أو لجبهة أخرى يستطيعون منها مواصلة مقاومتهم لهذا النظام عبر المسارات المتاحة، وقد فعلوا ذلك مستفيدين من الحريات السياسية والإعلامية، والمحاكم والهيئات الدولية المعنية بالحريات وحقوق الإنسان، ونجحوا رغم إمكانياتهم القليلة في إزعاج نظام السيسي إلى درجة كبيرة.
وكان النظام وباعترافه يمر بلحظات حرجة في العامين 2014 و2015، لولا أنه استند إلى حلفاء إقليميين ودوليين وفّروا له دعما كبيرا، كما استند إلى قوى مدنية في الداخل تساوقت مع مشروعه، ودعمت مجازره وانتهاكاته حتى طالتها تلك الانتهاكات، فلحق بعض المنتمين لها بالمهاجرين في الخارج، ومارسوا دورا مهما في مواجهة ذلك النظام خصوصا عبر المسار الحقوقي.
خلال السنوات العشر الماضية نجحت المعارضة المهاجرة في تأسيس إعلام مقاوم، فضح مجازر النظام وانتهاكاته، وفشله، وفي تقديم رواية أخرى في مواجهة الرواية الوحيدة التي فرضها النظام عبر هيمنته على وسائل الإعلام داخل مصر، وبسبب هذا النجاح فإن النظام المصري اعتبر التخلص من هذا الإعلام المعارض إحدى أولوياته الكبرى. وانعكس ذلك في صفقاته التجارية مع بعض الدول الغربية التي طالبها بوقف بث قنوات المعارضة عبر أقمارها، كما دأب على إصدار أحكام مغلظة بحق الإعلاميين المعارضين في الخارج، وإدراجهم في قوائم الإرهاب، ناهيك عن المحاولات الفاشلة المتكررة للتشويش على بث تلك القنوات، وحين تعرض بعض نجوم تلك القنوات لضغوط كبيرة في تركيا فإنهم انتقلوا إلى دول أخرى لمواصلة رسالتهم.
أما في المجال الحقوقي والذي بدأه حقوقيون ذوو خلفيات إسلامية منذ العام 2014، فإنه اكتسب زخما كبيرا بانضمام حقوقيين علمانيين معارضين، وقد تمكنت الجهود الحقوقية مجتمعة من محاصرة النظام حقوقيا في المجتمع الدولي، وأصبح ملف الانتهاكات في مصر حاضرا بقوة في الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة، والتي أصدرت العديد من التقارير التي تفضح انتهاكات النظام، وجعلته دوما في وضع الدفاع، كما صدرت عشرات التوصيات ضد أحكام الإعدام السياسي حتى وإن رفض النظام تنفيذها لكنها ظلت شاهدة على جرائمه.
لكن الشيء الذي أخفقت فيه المعارضة فهو محاصرة رموز النظام قضائيا عبر القضاء الدولي، ورغم الإقرار بأن غالبية هذا القضاء مسيس بدرجة أو بأخرى، إلا أن الأمر لم يخلو من وجود فرص لم تُغتنم حتى الآن، مع عدم تجاهلنا لمحاولات محدودة لملاحقة رموز النظام قضائيا، وهي المحاولات التي أثرت على تحركات بعضهم وعلى رأسهم السيسي نفسه الذي ألغى زيارة إلى جنوب أفريقيا في 2015 بسبب وجود تحركات قضائية ضده، وكما حدث لرئيس وزرائه السابق حازم الببلاوي خلال فترة عمله في واشنطن، وكما حدث لوزراء ومسئولين آخرين خلال سفرهم إلى دول أوروبية.
كل ذلك لا يستر الفشل الواضح للمعارضة المهاجرة في التوافق على برنامج وطني للإنقاذ، وتنسيق للتحركات إن لم يكن الوصول إلى مظلة وطنية جامعة. وهذه مشكلة للمعارضة في الخارج والداخل على سواء، لكن ظروف المعارضة في المهجر كانت ولا زالت هي الأفضل من حيث القدرة على التواصل الآمن، وعقد الاجتماعات الآمنة.. إلخ.
فيما يخص الأعداد الكبيرة من المهاجرين (من غير الرموز والقيادات)، كانت فترة السنوات العشر الماضية قاسية عليها وهي التي لم تعتد مثل هذه الهجرة إلا للعمل في دول الخليج مثلا، لقد واجهوا تحديات جمة في تقنين أوضاعهم، وتوفير نفقات معيشتهم، وقد اضطر الكثيرون منهم لبيع أصوله وممتلكاته في مصر ليستعين بها على هذه الحياة الجديدة، حيث لا تتوفر للغالبية فرص عمل بسبب اكتظاظ سوق العمل بالعمالة المحلية من ناحية، وبسبب تعقيدات قانونية ولغوية وعمرية من ناحية ثانية.
ومع ذلك، فإن السمة الغالبة لهؤلاء المهاجرين هي الصبر والصمود باعتبارهم أصحاب رسالة، وأن ما يواجههم من صعوبات هو جزء من ضريبة كانوا دوما جاهزين لدفعها، لكن الأمر مع ذلك يحتاج من القيادات التي تتصدر المشهد السياسي المعارض البحث عن حلول لأزمات هؤلاء المهاجرين وعدم إبقائهم في هذه الأوضاع المعيشية الصعبة.
إن مرور عشر سنوات على هذه الهجرة هو مدة كافية لوقفة مراجعة يقوم بها كل كيان معارض على حدة، أو بالمشاركة مع غيره، أو عبر ورش عمل مشتركة، لبحث هذه المشكلة، وما ينبغي عمله. وهذا البحث يحتاج إلى معلومات موثقة عن التحديات والصعوبات والأعداد، وأشكال المعيشة، كما يحتاج إلى جرأة في التشريح، ووصف العلاج المناسب دون تهوين أو تهويل.
twitter.com/kotbelaraby
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق