الأحد، 30 يوليو 2023

الأمريكان قُصَّرٌ أوصياء على الآخرين

 الأمريكان قُصَّرٌ أوصياء على الآخرين

جعفرعباس

تشهد الولايات المتحدة استطلاعات رأي عديدة سنويا، لتحديد مدى قبول أو رفض الشعب الأمريكي لهذا الأمر العام أو ذاك، ورأيه في القضايا الملحة، والمرشحين في الانتخابات وما إلى ذلك من أمور، ولكن ومنذ عام 2015، صارت هناك استطلاعات رأي كثيرة على مدار العام، لإثبات مدى جهل الأمريكيين بمعظم القضايا المتعلقة بأمور الحكم والاقتصاد والسياسات الداخلية والخارجية لبلادهم، ففي تلك السنة قامت مؤسسة متخصصة في قياس الرأي، باستطلاع آراء شرائح "تمثيلية" لعضوية الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول قصف دولة "أَقْرَباه" الوهمية التي تجري فيها وقائع فيلم علاء الدين الذي أنتجته شركة ديزني، واتضح أن 30% من عضوية الحزب الجمهوري تؤيد القصف، بينما كانت النسبة بين الديمقراطيين 19%، ولم يكن مستغربا أن 41% من انصار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كانوا من مؤيدي القصف، بينما عارضه 13% من الجمهوريين و36% من الديمقراطيين، (مما يجعل معارضي القصف في نفس درجة جهل مؤيديه).

وفي استطلاع آخر قال 80% ممن استطلعت آراؤهم إنه يجب إلزام الشركات التي تنتج المواد الغذائية التي تحتوي على حمض نووي أن تضع على ديباجاتها ما يفيد ذلك، بينما رحب 63% منهم بصدور "قانون المعادن المعدنية".

وقبل خمس سنوات أخضعت مجلة نيوزويك ألف أمريكي لنفس اختبار المعلومات المتعلقة بأمور عامة عن الولايات المتحدة، الذي يجلس له "المهاجرون" الذين يرغبون في الحصول على الجنسية الأمريكية، وفشل 39% ممن جلسوا للاختبار في معرفة اسم نائب رئيس بلادهم، ولم يعرف 73% منهم ما هي الحرب الباردة أو لماذا خاضتها بلادهم، بينما عجز 9% منهم عن وضع دائرة حول واحدة من أربع إجابات تحدد ما هو يوم استقلال بلادهم.

يعزو بروفسر جيكوب هاكر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ييل، التفشي الوبائي للجهل بين الأمريكان في مجال السياسة، إلى التعقيد المتعمد لآليات وهياكل الحكم في الولايات المتحدة، حيث ظلت السلطة محتكرة على مدى قرنين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فالنظام الانتخابي الأمريكي لا يعرف التمثيل النسبي، ومن ثم تغيب عن مجالسه النيابية أصوات من يغردون خارج سربي ذينك الحزبين، وفوق هذا فنظام الحكم الأمريكي يدخل الشعب في دوامات متصلة من الانتخابات التشريعية العامة والولائية في التكميلية، بحيث يتعذر على المقترع الموازنة بين المرشحين والبرامج الانتخابية، فحتى القضاة وقادة الشرطة في المدن الصغيرة يتم اختيارهم بالانتخاب، ويضيف هاكر ان سوء توزيع الثروة في أمريكا، حيث مداخيل أغنى 400 عائلة يعادل مجموع مداخيل 60% من سكان البلاد مجتمعِين، يفاقم من انصراف عشرات الملايين من المواطنين عن القضايا العامة لانشغالهم بالقضايا الشخصية، لأن حظهم من التعليم أصلا قليل، ومن بينهم ملايين لا يجيدون اللغة الرسمية للبلاد (الإنجليزية).

رغم كل تلك الجهالة الجهلاء يرى الأمريكان حكومة وشعبا أنهم أوصياء على بقية الشعوب، وأن من حق الوصيّ استخدام العنف لترويض وتطويع وتركيع الموصى عليهم، ولهذا أعطت نفسها حق خوض حروبا في 84 دولة منذ مولدها في 4 تموز/ يوليو من عام 1776.

في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي صدر كتاب لـ "أندي برويتز" يشخص فيه الجهل السياسي في الولايات المتحدة، ويثبت فيه بالدلائل والوقائع، أن ذلك الضرب من الجهل مؤسسي، بل يكاد يكون توفره شرطا للحصول على مناصب تنفيذية ودستورية عليا، فعلى سبيل المثال يعتبر الأمريكان رونالد ريغان أحد أفضل رؤساء بلادهم، مع أنه كان ينضح جهلا على مدار الساعة، حتى قيل فيه إن بمقدور الانسان السير داخل دماغ ريغان دون ان تبتل القدمان، وأن من يحدق في عين ريغان يستطيع ان يرى الجدار الخلفي لجمجمته، وكان الرجل يعتقد ان وجود أشجار كثيرة في كوكب الأرض هو الذي تسبب في التغيرات المناخية، ومعلوم أن ريغان لم يكن يتخذ قرارا أو يضع توقيعه على أي مستند في يوم الأربعاء بوصية من قارئة حظوظ، وذات مرة وقف خطيبا وقال: ما لم ترتدع بوليفيا فإنها ستتعرض لضربات جوية ساحقة في غضون أيام، فتوافد كبار القادة العسكريين على مكتب وزير الدفاع منزعجين من اتخاذ مثل ذلك القرار من وراء ظهورهم، وفوجئوا بالوزير يقول لهم إنه أيضا "ما عنده خبر بالموضوع"، ولم تهدأ العاصفة إلا بعد إحلال ليبيا محل بوليفيا.

أما دان كويل نائب الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، فقد بزّ بوش في مجال الجهل المعرفي واللغوي، فقد تعهد يوما ما بتكثيف الجهد لضم بني البشر الى المجموعة الشمسية، ودعا الى تعزيز روابط "العبودية" بين الأطفال وآبائهم وأمهاتهم، وإذا كان ريغان قد رأى في الأشجار شرا على المناخ، فإن بوش الثاني كان يرى إمكانية التعايش السلمي بين البشر والأسماك، ولعله أول رئيس أمريكي ينتبه الى أن "معظم واردات بلادنا تأتي من الخارج".

أما سقطات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، فينبغي التعامل معها بمنطوق "الضرب في الميت حرام"، وحصر أدلة جهالته يتطلب إيكال المهمة لفريق عمل دولي مع إمهاله عشر سنوات لإنجازها، ويكفي أن علماء لغة عملوا لسنوات لتحديد مستوى إلمامه باللغة الإنجليزية، وتوصلوا الى أنه طالب في الصف الثاني في المدرسة الإعدادية، وكتبت هنا في عربي 21 قبل نحو عامين عن قول ترامب بأن شرب مواد التنظيف والتعقيم كفيل بدحر الفيروس المسبب للكورونا.

ورغم كل تلك الجهالة الجهلاء يرى الأمريكان حكومة وشعبا أنهم أوصياء على بقية الشعوب، وأن من حق الوصيّ استخدام العنف لترويض وتطويع وتركيع الموصى عليهم، ولهذا أعطت نفسها حق خوض حروبا في 84 دولة منذ مولدها في 4 تموز/ يوليو من عام 1776.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق